الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
إِنِّىٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ ٱلنَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُا۟ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ [سورة المائدة:29] قال ابن عباس - ا -، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي في قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [سورة المائدة:29] أي: بإثم قتلي، وإثمك الذي عليك قبل ذلك، قاله ابن جرير."

قوله: أَن تَبُوءَ المباءة هي المنزل الذي يرجع إليه الناس بعد انتشارهم في أعمالهم، وأشغالهم، وقوله: أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [سورة المائدة:29] يعني أن تقع في عاقبة فعلك السيئة، وجزاء هذا الجرم، والذنب، والمعصية.
يقول: "أي بإثم قتلي، وإثمك الذي عليك قبل ذلك قاله ابن جرير" هذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء، أي أنه قتله فباء بإثمه بهذا الاعتبار، وقوله: وَإِثْمِكَ يعني ذنوبك السابقة، فأنت جمعت بين هذا، وهذا، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، واختيار كبير المفسرين ابن جرير، ووافقه عليه ابن كثير.
ومن أهل العلم من يحمله على معنىً آخر فيقول: بِإِثْمِي لو كنت حريصاً على قتلك وَإِثْمِكَ حيث كنت حريصاً على قتلي، وفعلت ذلك، ولكن هذا المعنى: لو كنت حريصاً على قتلك فيه بعد - والله تعالى أعلم -.
بعضهم حمل معنى قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ على ما جاء في صحيح مسلم مما يكون في القصاص يوم القيامة بأنه يؤتى بالظالم، والمظلوم، فالمظلوم يأخذ من حسنات الظالم حتى يستوفي، فإن لم يكن له حسنات أو انقضت حسناته فإنه يؤخذ من سيئات المظلوم، وتوضع على الظالم، لكن هذا أيضاً لا يخلو من بعد في تفسير هذه الآية، وأحسن ما تفسر به هو بإثم قتلي، وإثم أعمالك السيئة السابقة - والله تعالى أعلم -، ثم إن هذا لا يخالف قوله - تبارك، وتعالى -: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الأنعام:164] فهذا من أوزاره، وأعماله، وذنوبه، وجرائمه.
مسألة:
في قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [سورة المائدة:29] هل كان مريداً له أن يقع بالذنب، والجرم، والمعصية، وأن يكون من أصحاب النار؟
كثير من أهل العلم من المفسرين حاول أن يخرج ذلك على معنىً ربما لا يوافق الظاهر، فعلى كل حال منهم من يقول: ليس معنى ذلك أنه كان يريد وقوع المعصية منه، فهذا لا يريده أحد من المؤمنين؛ وهذا منكر لا يصح أن يريد إيقاعه، ويقولون: إنما امتناعه كان بمنزلة هذه الإرادة، أو كأنه يقول: أنا لا أريد أن أقع في هذا، فإن اخترته لنفسك فأنا لا أقع فيه، وعلى كل حال يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: إنه قال له ذلك كأنه يخوفه، ويحذره غب هذا الفعل، وعاقبته السيئة، ويعلل له ترك مقابلته بمثل فعله من أن يكون قاتلاً له ابتداء، فيقول: أنا لا أفعل هذا، ولا أقصده، ومن قصده، وتعمده فإنه يكون من أصحاب النار، يمكن أن يقال هذا، والعلم عند الله .

مرات الإستماع: 0

"إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] الإرادة هنا ليست بإرادة محبة، وشهوة، وإنما هو تخيير في أهون الشرين، كأنه قال: إن قتلتني، فذلك أحب إليّ من أن أقتلك كما، ورد في الأثر: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل[1]."

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] إني أريد أن تبوء أصل المباءة هي المنزل، يعني ترجع، وتنقلب المباءة هي المنزل يرجع إليها الإنسان، ويثوب بعد تفرقه في حاجاته، باء يعني رجع تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] يعني ترجع، تنقلب، ولا يكاد يستعمل ذلك إلا بالشر، باء بغضب من الله، فليتبوأ مقعده من النار، ونحو ذلك.

أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] فذكرنا في الغريب أن الإثم يقال: هو اسم لما يبطئ عن الثواب، وذكرت تفصيلاً هناك تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] الإرادة هنا ليست بإرادة محبة هذا الجواب عن إشكال، يعني هنا سؤال يرد: كيف أراد أن يبوء بإثمه؟ يعني بمعنى كيف أراد أن يقع القتل، والمعصية من أخيه ليأثم بذلك؟ إرادة المعصية هذا أمر غير مطلوب شرعًا، ولا يجوز الإنسان أن يريد، وقوع المعصية، فكيف قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29]؟ هذا موضع إشكال، فهو سؤالٌ مقدر أجاب عنه ابن جزي - رحمه الله - بما ذكر هنا.

قوله هنا: الإرادة هنا ليست بإرادة محبةٍ، وشهوة هذا جواب عن هذا السؤال، كيف أراد وقوع المعصية بالقتل؟

فقال: هنا ليست بإرادة محبة، وشهوة، وإنما هو تخيير في أهون الشرين أهون الشرين أن يقع القتل مادام القتل واقع واقع، فيقع منك، ولا يقع مني، كأنه قال: إن قتلتني، فذلك أحب إلي من أن أقتلك كما ورد في الأثر: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل بهذه الصيغة، أو بهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد عن خالد بن عرفطة [2] لكنه لا يصح من جهة الإسناد.

وجاء نحوه أيضًا عن خباب في قصة عبد الله بن خباب مع الخوارج، لما قاتلوه قالوا: حدثنا عن أبيك إلى آخره[3] فذكر نحو هذا لكنه أيضًا ضعيف الإسناد.

وهنا ذكر عندكم في الهامش رواية قال: أخرج الترمذي بسنده أن الرسول ﷺ هذا حديث سعد بن أبي وقاص قال: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي، قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي، وبسط يده إليّ ليقتلني، قال: كن كابن آدم[4] هذا حديث صحيح.

كن كابن آدم يعني المقتول، ولا تكن القاتل، فهذا يدل على أنه لا يجب عليه أن يدفع عن نفسه، الحديث واضح في هذا.

وبعضهم ذكر في الجواب عن هذا الإشكال غير ما ذكره ابن جزي فقال: المراد إن أنت قتلتني فإني مريدٌ أن تبوء بإثم معصيتك في قتلك إياي، وهذا حاصل له إذا قتله، يعني ما هو يريد أن يقع من القتل الذي هو المعصية، لكن قال: أريد أن يقع لك الإثم المترتب على هذا القتل، وهذه الإرادة غير موجبة لذلك القاتل في الوقوع بالخطأ، أو أن المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، والمظلوم له أن يريد العقاب لظالميه، أريد أن تبوء بإثمي، يقول: لن أقتلك، وإنما أريد أن تبوء، يعني ترجع بإثم قتلي، أو باعتبار ما يأخذه من حسناته؛ لأن المظلوم لاسيما المقتول يأخذ من حسنات ظالمه، فإن لم يكن له حسنات فيؤخذ من سيئات المظلوم، ويوضع على الظالم، وتطرح عليه.

هذه أجوبة، وعمومًا حديث: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل لا يصح من جهة الإسناد، لكن قوله: كن كابن آدم، حمله العلماء على الفتن، لكن لو جاءه إنسان مجرم قاطع طريق، يريد قتله، أو عرضه، أو نحوه فيدفع بالأسهل، لكن لو لم يستطع دفعه إلا بالقتل ففي هذه الحالة يصوغ له أن يقتله، لكن لا يجب عليه أن يدفعه، أما في الفتنه فلا يجوز له أن يُقدم على القتل في الفتن، كذلك ما يتعلق بالسلطان، لو أن السلطان بعث إليه بعثًا، هل يجوز له أن يدافعهم فضلاً عن أن يجب عليه؟

الجواب: لا، فهذا لا يحمل عليه حديث: من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد[5] لا ليس هذا موضعه، وإنما هذا في المجرمين قطاع الطرق، أغاروا عليه هجموا عليه، نحو ذلك فهو يدفعهم بالأسهل، فلا يُخلط بين هذا، وهذا - والله أعلم -.

"بإثمي، وإثمك فمعناه: بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي، وإنما تحمل القاتل الإثمين؛ لأنه ظالمٌ، فذلك مثل قوله ﷺ : المتسابان ما قالا فهو على البادئ[6] وقيل: بإثمي أي تحمل عني سائر ذنوبي؛ لأن الظالم تُجعل عليه في القيامة ذنوب المظلوم، وبإثمك أي: في قتلك لي، وفي غير ذلك من ذنوبك."

وفي غير ذلك من ذنوبك، يعني جاء في صحيح مسلم: يؤتى يوم القيامة بالظالم، والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم[7] يعني، وتكون للمظلوم، كذلك ورد في القتل على سبيل الخصوص بأنه يأخذ من حسناته يعني حتى يرضى، فما ظنكم؟! وابن جرير - رحمه الله - نقل الإجماع على أن المراد إثم قتلي مع إثمك الذي في عنقك[8].

وذكر ابن جزي: بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي، وقيل: بإثمي أي تحمل عني سائر ذنوبي إلى آخره، ابن جرير - رحمه الله - نقل الإجماع على أن المراد إثم قتلي مع إثمك الذي اكتسبته من معاص سابقة، ابن جرير تعرفون إذا نقل الإجماع يقصد به قول الأكثر، وهذا القول الذي ذكره ابن جرير هو الأقرب - والله أعلم - والأرجح أن المقصود بإثمي، وإثمك، إثمي يعني إثم قتلي؛ لا أنك تتحمل عني ذنوبي؛ لأنه لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وَزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] وإنما بإثم قتلي مع إثمك الذي اكتسبته من المعاصي السابقة، وهذا الذي اختاره أيضًا ابن كثير - رحمه الله -[9].

وبعضهم يقول: إثم قتلي، بإثمي يعني إثم قتلي، وإثمك الذي من أجله لم يُتقبل قربانك، يعني الإثم الذي كان مانعًا من قبول القرب، بإثمي، وإثمك الذي منعك، وحجز عنك القبول، لكن الذي ذكره ابن جرير - رحمه الله - أقرب - والله أعلم -.

"وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة: 29] يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئنافًا من كلام الله تعالى."

يعني يكون على هذا أنه كلام الله من قبيل الموصول لفظًا المفصول معنى، هو كثير، وأنواع بعضه على قراءات، وبعضه يحتمل على أحد وجوه الإعراب، وبعضهم بحسب السياق، فالموصول لفظًا هو أنواع كثيرة، فبعضه يجزم به، وبعضه يحتمل احتمالاً ظاهرًا، وبعضه يحتمل احتمالاً متساويًا، وبعضه يحتمل ذلك احتمالاً ضعيفًا مرجوحًا، وجُمع هذا فيما أظن في رسالة مطبوعة في مجلد: "الموصول لفظًا المفصول معنى في القرآن" وهو أحد الأنواع الذي ذكره السيوطي في كتابه: "الإتقان". 

  1.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (22499)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد، وهو ابن جدعان" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3616).
  2.  سبق تخريجه.
  3.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (21064)، وقال محققوه: "رجاله ثقات رجال الشيخين، والرجل المبهم الذي روى عنه حميد إن كان ثقة عنده فالإسناد صحيح".
  4.  أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ. باب ما جاء أنه تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، برقم (2194)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب التثبت في الفتنة، برقم (3961)، وأحمد في المسند، برقم (1609)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عياش بن عباس، فمن رجال مسلم" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3623).
  5. أخرجه البخاري، كتاب المظالم، والغصب، باب من قاتل دون ماله، برقم (2480)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد، برقم (141).
  6.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب النهي عن السباب، برقم (2587).
  7.  لم أجده في صحيح مسلم، ولعل المراد به حديث المفلس، أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2581).
  8.  تفسير الطبري (8/331).
  9.  تفسير ابن كثير (3/87).