الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوٓا۟ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءًۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [(38-40) سورة المائدة].
يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقُرِّر في الإسلام، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
في بعض الآيات السابقة ذكر الله حكم من يأخذ المال جهاراً نهاراً، وهم المحاربون الذين يسطون على الناس في سبلهم ويأخذون أموالهم بقوة السلاح، ثم ذكر -بعد ذلك- هنا حكم من يأخذ المال خفية -أي السارق- فهذه هي المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها، والله أعلم.
كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح.
القسامة معروفة وقد كانوا يفعلونها في الجاهلية وأقرها الإسلام، وذلك أنه حينما يقتل قتيل ويتدافعه الناس فتُتَّهم فيه قرية أو ناحية أو قبيلة مثلاً فلا يُعرف من قاتله فيقسم خمسون أن دمه عند هؤلاء، وأولئك يقسمون مثلهم.
والقراض هو المضاربة فالمضاربة في الشركات تسمى بلغة الحجاز قراض، وفي لغة العراق يقال لها: مضاربة، وقد كانت معروفة في الجاهلية، والنبي ﷺ كان يتاجر بمال خديجة، ويسمى كذلك إن كان على سبيل الاشتراك بنسبة معينة.
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده))([1]).
طبعاً هذا الحديث له توجيه؛ لأنه ورد في الحديث الآخر أنه لا يُقطع في أقل من ربع دينار، ومعلوم أن البيضة لا تبلغ ربع دينار، وهذا إذا حملت البيضة في الحديث على البيضة المعهودة فالأصل في الألفاظ أن تحمل على المعنى المتبادر، والمعنى المتبادر في البيضة معروف، فبعض أهل العلم قال: إن ذلك ذُكر على سبيل التنفير من السرقة وتقبيح فعل السارق، يعني أنه يقطع بشيء يسير وإن لم يكن هذا القدر مقصوداً في تقرير الحكم، كما تقول: إنه يقطع في الشيء التافه، وهذا الشيء التافه جاء تحديده بأنه لا يقطع في أقل من ربع دينار.
ومن أهل العلم من حمل البيضة هنا على ما يوضع على رأس المقاتل، وهذه تبلغ قيمتها ربع دينار وتزيد عليه، ولكن ليس هذا هو المتبادر؛ لأنه ذكر معه الحبل، فالحبل شيء يسير لا قيمة له، فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذا لا يحمل على معنىً يناقض حديث ربع الدينار، وإنما يقال: لا يؤخذ القدر الذي يحصل فيه القطع من هذا الحديث، وإنما هذا الحديث ورد على سبيل الزجر فحسب، والله أعلم.
وأخرج الشيخان البخاري ومسلم عن عائشة -ا­- أن رسول الله ﷺ قال: ((تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً))([2]).
الذين قالوا: البيضة هي ما يوضع على رأس المقاتل، قالوا في الحبل إنه حبل السفينة مثلاً، وحبل السفينة يزيد على ربع دينار، لكن هذا فيه تكلف، لذلك فالأصل حمله على المعنى المتبادر؛ لأنه لن يخطر في بال أحد أن المراد بالحبل حبل السفينة، فهذا المعنى بعيد، والله أعلم.
ولمسلم عن عائشة -ا- أن رسول الله ﷺ قال: ((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً))([3]) فهذا الحديث فاصل في المسألة، ونصٌّ في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه، وحديث: ثمن المجن وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً، فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذا الطريق.
ويروى هذا المنهج عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب - وأرضاهم- وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه، وإسحاق بن راهويه في رواية عنه، وأبو ثور وداود بن علي الظاهري -رحمهم الله-.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه -في رواية عنه- إلى أن كل و احد من ربع الدينار والثلاثة الدراهم مرد شرعي فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه قطع.
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر وكذا سفيان الثوري رحمهم الله فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة.
والثابت هو القول الأول، وهو القطع في ربع دينار فصاعداً، وإنما ناسب في باب السرقة أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار؛ لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [(38) سورة المائدة] أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك، {نَكَالاً مِّنَ اللّهِ} أي: تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك، {وَاللّهُ عَزِيزٌ} أي: في انتقامه {حَكِيمٌ} أي: في أمره، ونهيه وشرعه وقدره.


[1] - أخرجه البخاري في كتاب الحدود - باب لعن السارق إذا لم يسم (6401) (ج 6 / ص 2489) ومسلم في كتاب الحدود - باب حد السرقة ونصابها (1687) (ج 3 / ص 1311).

[2] - أخرجه البخاري في كتاب الحدود -  باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [(38) سورة المائدة] وفي كم يقطع (6407) (ج 6 / ص 2492) ومسلم في كتاب الحدود - باب حد السرقة ونصابها (1684) (ج 3 / ص 1311).

[3] - صحيح مسلم في كتاب الحدود - باب حد السرقة ونصابها (1684) (ج 3 / ص 1311).
 

مرات الإستماع: 0

"وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة:38] عموم الآية يقتضي قطع كل سارق، إلا أن الفقهاء اشترطوا في القطع شروطًا خصصوا بها العموم، فمن ذلك: من اضطره الجوع إلى السرقة لم يقطع عند مالك[1] لتحليل الميتة له، وكذلك من سرق مال ولده، أو سيده، أو من سرق من غير حرز، أو سرق أقل من النصاب، وهو عند مالك ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة[2]".

ثلاثة دراهم من الفضة، كما في الصحيحين عن عائشة -ا- مرفوعًا: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا[3] هذا نص في المقدار، في ربع دينار فصاعدًا، والقطع بالمجن باعتبار حديث ثمن المجن[4] أنه كان ثلاثة دراهم، فهذا باعتبار أن الدينار في ذلك الوقت يبلغ اثني عشر درهمًا، فربعه ثلاثة دراهم، فثمن المجن كان ربع دينار، هذا ذكره ابن كثير -رحمه الله- في الجمع بينهما[5] ونصاب الربع الدينار يروى عن عمر، وعثمان، وعلي، الخلفاء الثلاثة [6] وعن جماعة من السلف: كعمر بن عبد العزيز، والليث، والأئمة: الشافعي، والأوزاعي، وأصحاب الشافعي أيضًا، وإسحاق بن راهويه في رواية، وكذلك يروى عن أبي ثور، وقال به داود، وذهب أحمد، وإسحاق في الرواية الأخرى إلى أن كل واحد من الثلاثة درهم، وربع الدينار مرد شرعي، فمن سرق واحدًا منهما، أو ما يساويه قطع[7] يعني باعتبار التفاوت بين الربع دينار، والثلاثة دراهم، فمن سرق ما يقدر بثلاثة دراهم، أو ربع دينار فإنه يقطع، وعلى الأول: أن الثلاثة دراهم هي تعادل ربع دينار، وأنه لا منافاة، وأن النصاب ربع دينار - والله أعلم -.

"أو ما يساوي أحدهما". 

هذا كما سبق على قول هؤلاء الأئمة الذين هم: أحمد، وإسحاق في رواية، أن ذلك كله مرد شرعي.

"وأدلة التخصيص بهذه الأشياء في غير هذه الآية، وقد قيل: إن الحرز مأخوذ من هذه الآية؛ لأن ما أهمل بغير حرز، أو ائتمن عليه، فليس أخذه سرقة".

باعتبار التسمية في اللغة.

"وإنما هو اختلاس أو خيانة، وإعراب (السارق) عند سيبويه: مبتدأ[8] وخبره محذوف: كأنه قال: فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، والخبر عند المبرد وغيره: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما[9] ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط".

فاقطعوا أيديهما، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط يعني كأنه يقول إن سرقا فاقطعوا أيديهما، فتكون داخلة على جواب الشرط بهذا الاعتبار، فالآية فيها معنى الشرط، وإن لم تكن الصيغة صيغة شرط، وفي قراءة ابن مسعود، وهي قراءة غير متواترة: "فاقطعوا أيمانهما"[10] وهذا يفسر اليد هنا، هل هي اليمين، أو اليسار؟ فتقطع اليد اليمنى، ودلت السنة على أن القطع يكون من مفصل الكف. 

  1. البيان والتحصيل (16/324).
  2.  المدونة (4/526).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة:38] وفي كم يقطع؟ برقم: (6789) ومسلم في كتاب الحدود، باب حد السرقة، ونصابها برقم: (1684).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] وفي كم يقطع؟ برقم: (6794) ومسلم في كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها برقم: (1685).
  5.  تفسير ابن كثير (3/108).
  6.  المصدر السابق(3/109).
  7.  المصدر السابق.
  8.  تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (11/351).
  9.  تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/34).
  10. تفسير الطبري (10/294).