الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(39) سورة المائدة] أي: من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه.
طبعاً هذا يختلف عن المحاربين؛ لأن التوبة لا تسقط الحد، وهذا على قول عامة أهل العلم، فالجمهور من أهل العلم سلفاً وخلفاً على أن الإنسان إذا فعل ما يوجب الحد فإن توبته لا تنفعه في إسقاط الحد، فإذا بلغت الحدود السلطان فإنها لا تسقط بحال من الأحوال، لا بشفاعة ولا تسقطها توبة هذا الإنسان، إنما التوبة تنفعه عند الله -تبارك وتعالى-، فقوله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(39) سورة المائدة]، هذا في إنسان لم يُعثر له على سرقة ولم يوقف له على جرم فوقعت توبته بينه وبين الله ولم يطلع المخلوق على ذلك، فهذا يرجع السرقة إلى صاحبها فإن هذا من توبته، فإن لم يتمكن من هذا بأن لم يجده أو لم يعرفه فيتصدق عنه بها أو بقيمتها أو نحو ذلك إن لم تكن في يده، فهذا تنفعه التوبة، فأما إذا أقيم عليه الحد فإن الحدود كفارات تكفر له ذلك، لكن لو أنه بقي مصراً على السرقة فإن عزمه عليها معصية إن هو استمر على العزم بتكرار هذا الفعل بعد القطع، ومن تاب من ذلك وأقلع وترك هذا الصنيع الفاسد فإن الله يتوب عليه.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -ا- أن امرأة سرقت على عهد رسول الله ﷺ فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها، فقال رسول الله ﷺ: ((اقطعوا يدها)) فقالوا: نحن نفديها بخمسمائة دينار، فقال: ((اقطعوا يدها)) فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: ((نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك)) فأنزل الله في سورة المائدة: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(39) سورة المائدة]([1]).
من الإصلاح أن يرجع السارق ما سرق إلى صاحبه إن لم يُقَم عليه الحد، والعلماء مختلفون في الذي أقيم عليه الحد، هل يطالب بإعادة ما سرق ويغرم، كأن يكون إنسان سرق قبل عشر سنوات وسرق قبل سنة وسرق قبل خمس سنوات واعترف بهذه السرقات كلها، هل يطالب بأن يرجع هذه الأشياء جميعاً مع القطع، أم أنه يقطع وما وجد بيده من مال إن عُرف لصاحبه بعينه فإنه يعطى له وما عدا ذلك لا يطالب به؟ المقصود أن العلماء مختلفون في هذا.
وبالنسبة لهذا الحديث في سنده ابن لهيعة، فإن صح الحديث فإن قوله: ((أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك)) يعني أن الحد يكفر الخطيئة والسيئة التي وقعت منها كما يدل على ذلك أيضاً الأحاديث الأخرى، فالحدود كفارات، والله أعلم.
وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة عن عائشة -ا- أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي ﷺ في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليها إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ﷺ فأتى بها رسول الله ﷺ فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوّن وجه رسول الله ﷺ فقال: ((أتشفع في حد من حدود الله ؟)) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشيُّ قام رسول الله ﷺ فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: ((أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها، قالت عائشة: "فحسنت توبتها بعدُ وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله -ﷺ" وهذا لفظ مسلم([2]).
وفي لفظ له عن عائشة -ا- قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي ﷺ بقطع يدها([3]).


[1] - أخرجه أحمد (6657) (ج 2 / ص 177) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف.

[2] - أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} [(9) سورة الكهف] (3288) (ج 3 / ص 1282) ومسلم في كتاب الحدود - باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (1688) (ج 3 / ص 1311).

[3] - أخرجه مسلم في كتاب الحدود - باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (1688) (ج 3 / ص 1311).
 

مرات الإستماع: 0

"فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ [المائدة:39] الآية، توبة السارق هي أن يندم على ما مضى، ويقلع فيما يستقبل، ويردّ ما سرق إلى من يستحقه".

لكن إذا تلف المسروق بالكلية، أو ضاع، أو تغير تغيرًا مؤثرًا بنقص، أو صفة، أو نحو ذلك، فإنه يرد بدلاً منه عند الجمهور.

"واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم، هل يسقط عنه القطع؟ وهو مذهب الشافعي[1] لظاهر الآية؟".

وهذا مذهب الحنفية أيضًا[2] وهو رواية عند الحنابلة[3] أنه يسقط إذا تاب قبل أن يرفع إلى الحاكم، أو من ينوب عن الحاكم كالأمير، أو من ينوب عنه، وهو القاضي، لكن هل الهيئة تعتبر بهذه المنزلة (المحتسب) ولو كان موظفًا بصفة رسمية في هذا؛ لأنهم يسمون المحتسب من توظف في هذا عرفًا، فالذي يظهر أنه ليس كذلك، يعني لو أن رجال الهيئة قبضوا عليه، وتاب، فهل تنفعه التوبة هذه قبل أن يرفع؟ ورأوا من حاله صدق التوبة، وأن من المصلحة أن يستر على مثل هذا، وبخاصة إذا قال: أنا سأعيد المسروق إلى صاحبه، وأنا تبت إلى الله، فهل لهم أن يستروا وإلا لا بد أن يرفع للمحكمة مثلاً؟ الذي يظهر إن توبته تنفعه، ويسقط عنه الحد، إذا كان قبل أن يبلغ السلطان، وقد دلت على هذا السنة، وقد ورد في قصة الذي سرق رداء صفوان، أن صفوان لما حكم النبي ﷺ بقطع يد الرجل الأعرابي، تنازل عن ذلك، وقال: هو له، يعني لا تقطع يده، فقال النبي ﷺ: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟[4] فصفوان تنازل، وقال: هو له، لكن هذه الزيادة: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟ في إسنادها ضعف.

يقولون: إذا تغير بسوق، أو ثمن، فيعيد قيمة المسروق، هكذا قال بعض الفقهاء من المالكية وغيرهم، لكن التغير قد يكون في الصفة مثلاً، كأن تكون هذه السيارة صُدمت، أو تعطلت، أو نحو هذا، ففي هذه الحال فإنه إما أن يعيد نفس السيارة مع جبر النقص، الأرش، إذا قَبِلَ صاحبها، أو يعطيه قيمة المسروق، كم تساوي هذه السيارة، هل هو حينما تاب، وإلا حينما سرقها؟ فالذي يظهر - والله أعلم - أنه يعطي قيمة السيارة حينما سرقها؛ لأنها مال أخذه بغير حق، ودخل عليه، وانتفع به، وما إلى ذلك، وذاك فاته تلك المصلحة، فيعطيه قيمتها حينما سرقها، وليس بوقت توبته، فوقت توبته قد تساوي عشر قيمتها، فليس هذا من الإنصاف، والعدل.

كما يقال في الديون إذا اقترض من أحد دراهم، وتغيرت قيمتها في الصرف بعد مدة، ففي هذه الحالة وهو في القرض، يقضيه بحسب وقت القضاء، لا بحسب الوقت الذي اقترض فيه؛ لأن هذا مباح، وذاك غصب وسرقة، وحرام.

ففي القرض مثلاً لو اقترض منه ألف جنيه مصري مثلاً قبل عشر سنوات، وسيرد له هذه الجنيهات الآن، وقد يكون هذا الآن قريب من النصف، فكيف يرد عليه؟ يرد عليه الألف التي أخذها، ولو كانت نزلت قيمتها، لكن في السرقة فيما يكون من الأعيان يتحول، ويتغير إلى آخره، كمن سرق سيارة وصدم فيها، أو نحو هذا، فإن وجدت السيارة على حالتها لم تتغير، أخذ السيارة هذه، وحافظ عليها، وخزنها، أو أخفاها في مكان، فتعاد السيارة كما هي، ولو بعد عشر سنوات، ولا يعطيه فرق السعر في السوق، لكن لو أنه أتلفها أو تغيرت تغيرًا مؤثرًا، وقال صاحبها: أنا أريد العوض، فيعوضه بقيمتها حينما سرقها - والله أعلم -.

"أو لا يسقط عنه؟ وهو مذهب مالك[5] لأن الحدود عنده لا تسقط بالتوبة إلا عن المحارب؛ للنص عليه".

من فعل شيئًا، وقارف مقارفة توجب الحد، فتاب قبل ذلك، فإن توبته صحيحة، ويسقط عنه الحد، سواء كان ذلك في المحاربين، أو في غيرهم؛ ولذلك كان النبي ﷺ وأصحابه يرشدون من قارف بعض المقارفات كمن زنا، أو نحو ذلك: أن يستر نفسه، وأن يتوب؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول لمن أتاه في هذا: لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت[6] يعني لعلك قارفت دون ما يوجب الحد - والله أعلم -.

  1.  التدريب في الفقه الشافعي (4/196).
  2.  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/96).
  3.  المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (2/161).
  4.  أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب من سرق من حرز برقم: (4394) وابن ماجه في كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز برقم: (2595) وأحمد ط الرسالة برقم: (15303) وصححه الألباني.
  5.  الإشراف على نكت مسائل الخلاف (2/864).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت؟ برقم: (6824).