ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [(40) سورة المائدة] أي: هو المالك لجميع ذلك، الحاكم فيه، الذي لا معقب لحكمه، وهو الفعال لما يريد، {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [(284) سورة البقرة].
طبعاً هذه القضية -قضية قطع يد السارق- أكثَرَ أعداء الله من الكلام فيها والطعن في الإسلام وهذا الحكم بالنسبة لمن وقع عليه ربما يبدو لأول وهلة أن فيه قسوة وشدة، ولا شك أن هذا مطلوب لردع المجرمين، وهو بالنسبة لعموم الأمة عين الرحمة والرفق والرعاية والحفظ لهم؛ لأن هذه الحدود كلها تدور على الضرورات الخمس حفظاً لها من جانب العدم، بمعنى أنها كالسياج عليها لئلا ينتابها ويؤثر عليها ويفسدها أو يضعفها شيء من الأمور المخلة، فالدين قال عنه النبي –ﷺ-: ((من بدل دينه فاقتلوه))([1])، والنفوس شرع لحفظها القصاص للنفس وللأعضاء والأطراف والأبعاض، قال تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [(45) سورة المائدة] ولحفظ المال شرع القطع لمن جنا على المال، وشرع لحفظ العرض الجلد والرجم، وشرع الجلد لحفظ العقل، فجميع الحدود تدور على الضرورات الخمس -الدين والنفس والعقل والعرض والمال- ولا يوجد شيء من الحدود خارجاً عنها، وحتى حد المحاربين شرع لأنهم يجنون على النفوس والأموال وهي من الضرورات الخمس، فهذه الضرورات الخمس لو أنها اختلت في حياة الناس لصارت حياتهم في فساد ولم تعد حياة صالحة للآدميين، حيث تضيع النفوس بأن يقتل المقتول ولا يوجد له طالب، وبالتالي لا يأمن الناس في بيوتهم على أنفسهم، وهكذا تضيع الأعراض وتضيع الأموال ويضيع الدين كما هو مشاهد الآن في العراق حيث يقتل الناس هناك أكثر مما تقتل الأنعام ثم يُحملون بالشاحنات مكدسين فوق بعض مثل جلود الأضاحي، وترى الدماء في السيارات، والجثث ترمى في كل مكان، وهكذا ضاعت أموال الناس حينما احتلت البلد، وإذا جاءوهم وداهموهم ليلاً لا يتركون شيئاً إلا أفسدوه، حتى الستائر حتى النوافذ يكسرونها، وما عجزوا عن تكسيره لطخوه بالنجاسات، وهكذا لا يتركون شيئاً يمكن أن ينتفع به، وكذلك ترى انتهاك بالأعراض، فالنساء يبتن الآن بالعباءة لا تدري في أي لحظة يدخل عليها في بيتها، ولا تدري من الذي يدخل وماذا يريد، والله المستعان.
فالحاصل أن هذه اليد التي تقطع بربع دينار ستبقى آثارها حيث ستتعطل مصالح هذا الإنسان عندما تقطع يمناه، وستبقى أيضاً لوثة نفسية بسبب هذا القطع؛ فتصور كيف هي حال هذا الإنسان الذي صارت يده مقطوعة بالسرقة لا يفارقه النظر إليها أبداً ما دام حياً؟، وكلما نظر إليها تذكر جنايته، والناس كلما نظروا إليه تذكروا الجناية، فهذه المرأة مع أنها تابت وتزوجت لكن تصور هل تستطيع أن تنسى هذا الموضوع ويدها مقطوعة، وزوجها يعاشرها أو يضاحكها، أو يكلمها أو تصنع له طعاماً أو تأكل معه شيئاً؟!
لن تنسى أبداً وإنما يسيطر عليها هذا الشعور ما دامت حية؛ لأنه إذا كان بعض الناس يتأثر من كلمة ويقول: جرحت مشاعر هذا وآذيته وسببت له انعكاسات نفسية ولا بد من تعويضات ولا بد من كذا وخاصة في الدول الغربية، فكيف لا يسيطر القطع على مشاعره ونفسه؟!.
فالمقصود أن هذا الحد يردع صاحب هذه اليد التي أرادت أن تجني على ما تكتسبه ملايين الأيدي الشريفة، وتقطع لأنها عضو فاسد يريد أن يفسد على المجتمع نظامه فيرتدع الآخرون، ويسْلم المجتمع في ضرورية من ضرورياته وهو المال، الذي هو عصب الحياة، فإذا اعتدي على المال أو أُفسد فحينها تباع الأعراض وربما اختل دينهم أيضاً، ولهذا قالوا: كاد الفقر أن يكون كفراً، وإن كان هذا القول لا يصح عن النبي ﷺ لكن المعنى له وجه من الصحة، ومن جربوا الفقر الشديد عرفوا آثاره المدمرة في سلوك الناس، ولذلك تجد أكثر الجرائم والمشكلات والفساد الأخلاقي تقع في الأحياء الفقيرة، فهذه اليد الجانية إذا قُطعت سلِم كسب الأيدي الشريفة، واليد غالية من جنا عليها فإنه يدفع نصف الدية لكن إذا تلوثت بالسرقة صارت خائنة وحينها تكون رخيصة فتقطع في ربع دينار، فالأمانة شرفتها ورفعتها، وأعلت منزلتها وقيمتها، والخيانة هبطت بها، والله أعلم.
[1] - أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب لا يعذب بعذاب الله (2854) (ج 3 / ص 1098).