وإذا كان المراد بذلك: وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:66] يعني قبل بعث محمد ﷺ فإنه يفسر بما نزل عليهم في غير التوراة، والإنجيل، مما أوحى الله به إلى أنبيائهم، وهكذا ما نزل عليهم من الكتب غير التوراة، والإنجيل كصحف موسى، والزبور، وما أشبه ذلك من الأمور التي يوحيها الله إلى أنبيائهم، وكذلك هم مطالبون بالإيمان بالكتب التي سبقتهم مما أنزل على الأنبياء قبلهم - عليهم الصلاة، والسلام - كصحف إبراهيم ﷺ، وإذا كانت الآية تخاطب فقط الذين عاصروا النبي - عليه الصلاة، والسلام - فيكون وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:66] المراد به القرآن - والله أعلم -.
أي أن الرزق يكون مدراراً، يعني أن هذا التعبير في هذه الجملة لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [سورة المائدة:66] يفيد هذا المعنى: أن رزقهم يكون كثيراً، وافراً، بلا عد، ولا حساب، وهذا كقوله - تبارك، وتعالى - عن نوح - عليه الصلاة، والسلام -: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح:10-12]، ولهذا فسر من فسر من السلف، وهم كثير مِن فَوْقِهِمْ قالوا: بإنزال المطر، وليس ذلك بإنزال المطر، وإنما أيضاً ما ينزل عليهم من غير المطر من الأرزاق من السماء، فالرزق ينزل من الله - تبارك، وتعالى -، ويدخل في ذلك أيضاً المن، والسلوى، وكل ما يمتن الله به مما يخرج من غير جهد الإنسان، قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا [سورة هود:3].
وقوله تعالى: مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:66] كقوله: وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [سورة الأعراف:159]، وكقوله عن أتباع عيسى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الآية [سورة الحديد:27] فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة."
ابن كثير - رحمه الله - مشى في قوله تعالى: مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ [سورة المائدة:66] على معنى المقتصد الذي ذكره الله في طوائف الأمة الثلاث في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] فالمقتصد هو الذي يفعل الطاعات، ويترك المعاصي، وهذا ليس في المرتبة العالية في هذه الأمة، فابن كثير فسره بهذا، وقال: مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ [سورة المائدة:66] يعني أن أفضل طائفة عند هؤلاء هم الذين يوصفون بذلك، يعني عند هذه الأمة بالنسبة لنا يعتبرون في الوسط، أي ما عندهم أعمال صالحة زائدة على الواجبات، وليسوا من السابقين بالخيرات، ولا أظن أن هذا هو معنى الآية، وأن هذا هو المراد بالأمة المقتصدة، وإنما الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن المراد بالمقتصدة، أي القصد، والاعتدال، وقصد الطريق بمعنى استقامة الطريق، يعني أنها أمة مستقيمة، سائرة على الصراط المستقيم، محققة لأمر الله ، ممتثلة، بعيدة عن الإفراط، والتفريط، ولهذا قال كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: إن المراد بذلك أنها مقتصدة بأمر المسيح، أي أنهم ما ألهوه، ولا قالوا فيه ما لا يليق كما قال طوائف من اليهود، لكن المعنى أوسع من هذا، ولا يختص بالمسيح، هذا الذي يظهر - والله أعلم - وإلا فإن في بني إسرائيل من العُبَّاد من هم منقطعون لعبادة الله ، فالله يقول: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ [سورة الحديد:27] فمثل هؤلاء قطعاً ما كانوا يقتصرون على الواجبات، ويتركون المحرمات، وهؤلاء يكونون أرفع مرتبة في طوائف بني إسرائيل، بل فيهم من العبادة الشيء الكثير لكن منهم من هم على صراط مستقيم، ومنهم من وقع عندهم شرك، وبدع، وضلالات، وشهوات، وما أشبه ذلك - والله أعلم -.