يقول تعالى مخاطباً عبده، ورسوله محمداً ﷺ باسم الرسالة، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل - عليه أفضل الصلاة، والسلام - ذلك، وقام به أتم القيام.
روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن عائشة - ا - قالت: من حدثك أن محمداً ﷺ كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الآية [سورة المائدة:67] هكذا رواه هاهنا مختصراً[1] وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان، والترمذي، والنسائي في كتابي التفسير من سننهما[2].
وفي الصحيحين عنها - ا - أيضاً أنها قالت: لو كان محمد ﷺ كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ [سورة الأحزاب:37][3].
وقال البخاري: قال الزهري: مِن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحوٌ من أربعين ألفاً كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله - ا - أن رسول الله ﷺ قال في خطبته يومئذ: أيها الناس، إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء، ويقلبها إليهم، ويقول: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت[4]."
وأيضاً حينما نزل عليه في ذلك الموقف قوله - تبارك، وتعالى -: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [سورة المائدة:3] كانت تلك شهادة من الله تدل على أنه ﷺ قد بلغ كل ما أوحاه الله إليه، فأكمل الله الدين.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [سورة المائدة:67] يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته.
وقوله تعالى: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] أي: بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك، وناصرك، ومؤيدك على أعدائك، ومظفرك بهم، فلا تخف، ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.
وقد كان النبي ﷺ قبل نزول هذه الآية يُحرَس كما روى الإمام أحمد أن عائشة - ا - كانت تحدث أن رسول الله ﷺ سهر ذات ليلة، وهي إلى جنبه قالت: "فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن مالك، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك يا رسول الله، قالت: فسمعت غطيط رسول الله ﷺ في نومه" [أخرجاه في الصحيحين:][5]، وفي لفظ: سهر رسول الله ﷺ ذات ليلة مقدمه المدين[6] يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة - ا -، وكان ذلك في سنة اثنتين منها.
وروى ابن أبي حاتم عن عائشة - ا - قالت: كان النبي ﷺ يُحرَس حتى نزلت هذه الآية: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] قالت: فأخرج النبي ﷺ رأسه من القبة، وقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ، وهكذا رواه الترمذي ثم قال: وهذا حديث غريب، وهكذا رواه ابن جرير، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه[7].
وقوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:67] أي: بلغ أنت، والله هو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء كما قال تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة البقرة:272]، وقال: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40]."
من أهل العلم من فسر قوله - تبارك، وتعالى -: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] بقوله: أي لا يصلوا إليك بالقتل، وهم بذلك أرادوا الجمع بين هذه الآية، وبين ما وقع للنبي ﷺ من الأذى حينما كسرت رباعيته - عليه الصلاة، والسلام -، وسقط في الحفرة، في أُحد، وشجَّ وجهه، وما إلى ذلك، ويمكن أن يقال: إن هذه الآية نزلت بعد ذلك فلا يصل أحد إليه بنوع من الأذى الحسي لا بالقتل، ولا ما دونه، فالآية تحتمل هذا؛ لأنه قال: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67]، ومثل هذا يحمل على أعم معانيه، والعلم عند الله .
والقول الآخر لا يبعد، لكنه لا يعرف بعد ذلك أن النبي ﷺ، وصل إليه أذى، بل كان الله يبطل كيد من أراد به سوءاً، ومن ذلك أنه لما علق سيفه بشجرة فجاء رجل من الأعراب، واخترطه، وقال: من يمنعك مني؟ فقال: الله فسقط السيف من يده..[8].
ومن ذلك أيضاً ما سعى إليه أهل النفاق، وبيتوه في غزوة تبوك من إلقاء النبي ﷺ من فوق العقبة، فأبطل الله كيدهم، وغير ذلك من المواقف - والله أعلم -.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4336) (ج 4 / ص 1686).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة وَالنَّجْمِ [سورة النجم:1] (4574) (ج 4 / ص 1840) ومسلم في كتاب الإيمان - باب معنى قول الله : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [سورة النجم:13] وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ (177) (ج 1 / ص 159) والترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة الأنعام (3068) (ج 5 / ص 262) والنسائي في السنن الكبرى في كتاب التفسير – باب تفسير سورة المائدة (11147) (ج 1 / ص 335).
- أخرجه البخاري عن أنس بن مالك في كتاب التوحيد – باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [سورة هود:7] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة:129] (6984) (ج 6 / ص 2699) ومسلم عن عائشة في كتاب الإيمان - باب معنى قول الله : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [سورة النجم:13] وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ (177) (ج 1 / ص 159).
- أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب حجة النبي -ﷺ (1218) (ج 2 / ص 886)
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2729) (ج 3 / ص 1057) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (2410) (ج 4 / ص 1875) وأحمد (25136) (ج 1 / ص 140) إلا أن في الصحيحين أن الذي جاء هو سعد بن أبي وقاص وليس سعد بن مالك.
- صحيح مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (2410) (ج 4 / ص 1875).
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن – باب تفسير سورة المائدة (3046) (ج 5 / ص 251) والحاكم (3221) (ج 2 / ص 342) وقال الذهبي في التلخيص: صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2489).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753) (ج 3 / ص 1065) ومسلم في كتاب الفضائل - باب توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس - يعني النبي ﷺ (843) (ج 4 / ص 1784).