وقوله: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سورة المائدة:75] أي: مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدلَّ على أنها ليست بنبية."
قوله - تبارك، وتعالى -: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة:74] هذه من أعظم الآيات ترجية في القرآن؛ لأن الله تلطف بهؤلاء الذين نسبوا إليه الصاحبة، والولد، وعبدوا معه غيره، وجاءوا بما لم يأت به أحد قبلهم مما هو شنيع في القول، حتى قيل: إن عقيدة النصارى وصمة عار على البشرية، فهو قول يندى له الجبين إذ كيف يُنسب لله الولد، ويقال: إن الله - تبارك، وتعالى - تمثل بالمسيح، وحل اللاهوت بالناسوت، وأنه قد قتل ليكفِّر خطيئة ابن آدم، وما أشبه ذلك، فهذا قول في غاية البشاعة، ومع ذلك يتلطف الله بهم، فيقول: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [سورة المائدة:74] مع عظيم جرمهم.
وقوله - تبارك، وتعالى -: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سورة المائدة:75] الصدِّيق هو من كمُل صدقه، وتصديقه، وفي الحديث: وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً[1]، وممن كمُل تصديقهم أبو بكر حيث كان إذا قال النبي ﷺ شيئاً، قال: صدق، فلُقِّب بالصدِّيق، فمن كان هذا حالهم فإنهم من أهل الكمال في الصدق، والتصديق، فهم يبلغون هذه المرتبة بصدق الإيمان، وصدق القول، وصدق العمل، وصدق الحال، وهي من أعلى مراتب أهل الإيمان، كما قال الله : وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [سورة النساء:69] فعطفهم على النبيين، ثم ذكر بعدهم الشهداء، والصالحين فقال: وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء:69]، وأم عيسى - عليهما السلام - صدِّيقة كما قال تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [سورة المائدة:75].
قوله: "واستدلوا بهذا على أنها ليست نبية فهذا أعلى مقاماتها" يشير الحافظ ابن كثير إلى أنها ليست نبية، وأن أعلى مقاماتها أنها بلغت مرتبة الصديقية، ولم تبلغ مرتبة النبوة، هذا معنى كلام الحافظ، ولذلك فإن القول الذي لا ينبغي العدول عنه، هو أن الله تعالى لم يبعث امرأة نبيةً، قال الله : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ [سورة الأنبياء:7]، ومعلوم أن من ألفاظ العموم ما يختص بجماعة الذكور، ولا يدخل فيه الإناث كلفظ "الرجال"، ومنها ما يطلق على الذكور، ويدخل فيه النساء بحكم التبع مثل "القوم"، ومنها ما يشترك فيه الرجال، والنساء مثل الاسم الموصول، وأسماء الشرط "مَن"، وما أشبه ذلك، ومنها ما يختص بجماعة النساء مثل "النساء" فالله لم يبعث امرأة نبيةً أبداً.
يعني أنهما كانا يأكلان الطعام كغيرهم من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - فعيسى - عليه الصلاة، والسلام - كغيره من الأنبياء، كما قال الله : وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20]، ومن هذا حاله لا يكون متصفاً بصفة الألوهية.
ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة:75] أي: ثم انظر بعد هذا البيان، والوضوح، والجلاء أين يذهبون، وبأي قول يتمسكون، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون؟"
الأفك هو القلب، ويؤفكون أي: يصرفون عن الحق، فقوله: أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة:75] أي: كيف يصرفون عن الحق مع وضوح براهينه، ودلائله؟
- أخرجه مسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب - باب قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله (2607) (ج 4 / ص 2012).