وقال سعيد بن جبير، والسدي، وغيرهما: نزلت في وفدٍ بعثهم النجاشي إلى النبي ﷺ ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلما رأوه، وقرأ عليهم القرآن أسلموا، وبكوا، وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي، فأخبروه.
وقال عطاء بن أبي رباح: هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين.
وقال قتادة: هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم ، فلما رأوا المسلمين، وسمعوا القرآن أسلموا، ولم يتلعثموا، واختار ابن جرير أن هذه الآيات في صفة أقوام بهذه المثابة، سواء كانوا من الحبشة، أو غيرها."
فهذه الروايات من المراسيل، وما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - في معناها، أو فيمن نزلت فيه هو الأصح، أي أنها لا تختص بالحبشة بل هي في كل من كان بهذه المثابة، فمن اليهود الذين أسلموا عبد الله بن سلام ، وتنطبق أيضاً على من أسلم من النصارى، فالمقصود أن من أسلم من أهل الكتاب ممن هذه صفته فالآية تنطبق عليه.
وهذه الآيات ينبغي أن يربط أولها بآخرها، فالله ذكر صفتهم فقال: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:83] أي آمنوا بالنبي ﷺ، وآمنوا بالقرآن.
ويقول الله عنهم أنهم قالوا: وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:83-85] فهذه الآيات لا يصح بحال من الأحوال أن يفصل آخرها عن أولها؛ لأنه لا يمكن أن يقال: إن هذه الآيات في عموم النصارى، بل هي في من أسلم منهم، وكانت هذه صفته، وأما هؤلاء الذين لم يسلموا سواء في هذا العصر، أو في غيره من العصور فهم أشبه ما يكونون باليهود حيث عرفوا الحق، وظهرت لهم دلائله، ومع ذلك عاندوا، وكفروا فهم أهل غضب كما أنهم أهل ضلال، أي أنهم جمعوا بين الغضب، والضلال، وهل بلاء المسلمين في هذه العصور، وقبلها من العصور إلا من النصارى، كما أخبر النبي ﷺ بقوله: الروم ذات القرون[1] فالحروب الصليبية مَن الذي قام بها خلال قرون متطاولة إلا النصارى؟ ومن الذين أقام دولة اليهود، ومن الذي يحميها، ومن الذي يمدها إلا النصارى؟ ومذابح المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها من الذي يقوم بها إلا النصارى؟ والأذى الذي يلقاه المسلمون في كل مكان من الذي، وراءه إلا النصارى؟والواقع أنك كلما نظرت في طائفة من الطوائف قلت: هذه الطائفة شرٌّ مجتمع، فإذا نظرت إلى اليهود، وأمعنت النظر فيهم قلت: هؤلاء هم كتلة من الشر، وإذا نظرت إلى النصارى قلت: هؤلاء شر محض، وبلاء يلقى المسلمون منهم أنواع الأذى، وإذا نظرت إلى ما يفعله الهندوس، وعبَّاد البقر، قلت: لا يوجد أسوأ من هؤلاء، فكل هؤلاء الكفرة أعداء لله، ولرسوله ﷺ، ولدينه، وكلهم قد بلغوا في الشر غايته، وإن كان لا يوجد في المكر، والدس، والإفساد في الأرض أسوأ من اليهود، لكن هذه الآيات لا يقال: إنها تنطبق على عموم النصارى أبداً، وإنما من أسلم منهم، وأما من لم يسلم فلا يمكن أن يقال فيه: إنه إذا سمع ما أنزل إلى الرسول فاضت عيناه من الدمع، وقال: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، ومن يقتصر على أول الآيات، ويترك آخرها، فهو كالذي يقتصر على قوله: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ [سورة الماعون:4] ويترك ما بعدها، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه - والله تعالى أعلم -.
وتكلمت على هذا المعنى في رمضان في الآيات التي يخطئ الناس في فهمها، وذكرت الآيات التي تذم أهل الكتاب في القرآن، أو جملة منها، وقلت: ما تفهم الآيات بالاجتزاء، وإنما تضم الآيات في الموضوع الواحد، سواء كان هنا، أو في غيره، كالآيات التي قد يفهم منها الثناء على أهل الكتاب مثل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] الآيات السابقة، فمثل هذه يتبين المراد بها إذا جمعت مع الآيات الأخرى.
وقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] أي: الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح، وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام، وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة، والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً [سورة الحديد:27]، وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر."
طبعاً هذا الكلام كله لا ينطبق على النصارى أبداً لا على علمائهم في الدين، ولا غيرهم، فليس فيهم إلا الغلظة، والجفوة، وليسوا على قوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [سورة الحديد:27] فهؤلاء أبعد ما يكونون عن المسيح - عليه الصلاة، والسلام -.
واحدهم قَسّ - بفتح القاف - يقال: قسيس، وقَس، والقَسُّ يقال: أصله من التتبع، يقال: قَسَّ العلم أي تتبعه، وتطلبه، قَسَّ الشيء تتبعه، ويقال للعالم من النصارى: قَسّ، وقِسِّيس، ويُجمع على قَسَس، وقَسَاوِسَة.
الرهبان هم العباد الذين ينقطعون - في الغالب - في الأديرة، ويعكفون على العبادة، فالقساوسة هم علماؤهم، والمقدمون فيهم، ورؤساؤهم في دينهم، وأما الرهبان فهم العباد المنقطعون للعبادة.
- أخرجه ابن أبي شيبة (19342) (ج 4 / ص 206)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (3954).