الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوا۟ ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ۝ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [سورة المائدة:82-86].
وقال سعيد بن جبير، والسدي، وغيرهما: نزلت في وفدٍ بعثهم النجاشي إلى النبي ﷺ ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلما رأوه، وقرأ عليهم القرآن أسلموا، وبكوا، وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي، فأخبروه.  
وقال عطاء بن أبي رباح: هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين.
 وقال قتادة: هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم ، فلما رأوا المسلمين، وسمعوا القرآن أسلموا، ولم يتلعثموا، واختار ابن جرير أن هذه الآيات في صفة أقوام بهذه المثابة، سواء كانوا من الحبشة، أو غيرها."

فهذه الروايات من المراسيل، وما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - في معناها، أو فيمن نزلت فيه هو الأصح، أي أنها لا تختص بالحبشة بل هي في كل من كان بهذه المثابة، فمن اليهود الذين أسلموا عبد الله بن سلام ، وتنطبق أيضاً على من أسلم من النصارى، فالمقصود أن من أسلم من أهل الكتاب ممن هذه صفته فالآية تنطبق عليه.
 وهذه الآيات ينبغي أن يربط أولها بآخرها، فالله ذكر صفتهم فقال: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:83] أي آمنوا بالنبي ﷺ، وآمنوا بالقرآن.
ويقول الله عنهم أنهم قالوا: وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ۝ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:83-85] فهذه الآيات لا يصح بحال من الأحوال أن يفصل آخرها عن أولها؛ لأنه لا يمكن أن يقال: إن هذه الآيات في عموم النصارى، بل هي في من أسلم منهم، وكانت هذه صفته، وأما هؤلاء الذين لم يسلموا سواء في هذا العصر، أو في غيره من العصور فهم أشبه ما يكونون باليهود حيث عرفوا الحق، وظهرت لهم دلائله، ومع ذلك عاندوا، وكفروا فهم أهل غضب كما أنهم أهل ضلال، أي أنهم جمعوا بين الغضب، والضلال، وهل بلاء المسلمين في هذه العصور، وقبلها من العصور إلا من النصارى، كما أخبر النبي ﷺ بقوله: الروم ذات القرون[1] فالحروب الصليبية مَن الذي قام بها خلال قرون متطاولة إلا النصارى؟ ومن الذين أقام دولة اليهود، ومن الذي يحميها، ومن الذي يمدها إلا النصارى؟ ومذابح المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها من الذي يقوم بها إلا النصارى؟ والأذى الذي يلقاه المسلمون في كل مكان من الذي، وراءه إلا النصارى؟والواقع أنك كلما نظرت في طائفة من الطوائف قلت: هذه الطائفة شرٌّ مجتمع، فإذا نظرت إلى اليهود، وأمعنت النظر فيهم قلت: هؤلاء هم كتلة من الشر، وإذا نظرت إلى النصارى قلت: هؤلاء شر محض، وبلاء يلقى المسلمون منهم أنواع الأذى، وإذا نظرت إلى ما يفعله الهندوس، وعبَّاد البقر، قلت: لا يوجد أسوأ من هؤلاء، فكل هؤلاء الكفرة أعداء لله، ولرسوله ﷺ، ولدينه، وكلهم قد بلغوا في الشر غايته، وإن كان لا يوجد في المكر، والدس، والإفساد في الأرض أسوأ من اليهود، لكن هذه الآيات لا يقال: إنها تنطبق على عموم النصارى أبداً، وإنما من أسلم منهم، وأما من لم يسلم فلا يمكن أن يقال فيه: إنه إذا سمع ما أنزل إلى الرسول فاضت عيناه من الدمع، وقال: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، ومن يقتصر على أول الآيات، ويترك آخرها، فهو كالذي يقتصر على قوله: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ [سورة الماعون:4] ويترك ما بعدها، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه - والله تعالى أعلم -.
وتكلمت على هذا المعنى في رمضان في الآيات التي يخطئ الناس في فهمها، وذكرت الآيات التي تذم أهل الكتاب في القرآن، أو جملة منها، وقلت: ما تفهم الآيات بالاجتزاء، وإنما تضم الآيات في الموضوع الواحد، سواء كان هنا، أو في غيره، كالآيات التي قد يفهم منها الثناء على أهل الكتاب مثل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] الآيات السابقة، فمثل هذه يتبين المراد بها إذا جمعت مع الآيات الأخرى.
"فقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سورة المائدة:82] ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد، وجحود، ومباهتة للحق، وغمط للناس، وتنقّص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله ﷺ غير مرة، وسموه، وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] أي: الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح، وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام، وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة، والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً [سورة الحديد:27]، وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر."

طبعاً هذا الكلام كله لا ينطبق على النصارى أبداً لا على علمائهم في الدين، ولا غيرهم، فليس فيهم إلا الغلظة، والجفوة، وليسوا على قوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [سورة الحديد:27] فهؤلاء أبعد ما يكونون عن المسيح - عليه الصلاة، والسلام -.
"وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ [سورة المائدة:82] أي: يوجد فيهم القسيسون، وهم خطباؤهم، وعلماؤهم، واحدهم قِسِّيس، وقَسّ أيضاً، وقد يجمع على قسوس."

واحدهم قَسّ - بفتح القاف - يقال: قسيس، وقَس، والقَسُّ يقال: أصله من التتبع، يقال: قَسَّ العلم أي تتبعه، وتطلبه، قَسَّ الشيء تتبعه، ويقال للعالم من النصارى: قَسّ، وقِسِّيس، ويُجمع على قَسَس، وقَسَاوِسَة.
"واحدهم قسيس، وقَسّ أيضاً، وقد يجمع على قسوس، والرهبان: جمع راهب، وهو العابد مشتق من الرهبة، وهي الخوف، كراكب، وركبان، وفرسان."

الرهبان هم العباد الذين ينقطعون - في الغالب - في الأديرة، ويعكفون على العبادة، فالقساوسة هم علماؤهم، والمقدمون فيهم، ورؤساؤهم في دينهم، وأما الرهبان فهم العباد المنقطعون للعبادة.
"روى ابن أبي حاتم عن حامية بن رئاب قال: سمعت سلمان ، وسئل عن قوله: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا [سورة المائدة:82] فقال: هم الرهبان الذين هم في الصوامع، والخرب فدعوهم فيها، قال سلمان: وقرأت على النبي ﷺ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ [سورة المائدة:82] فأقرأني: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا) [سورة المائدة:82] فقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ [سورة المائدة:82] تضمن وصفهم بأن فيهم العلم، والعبادة، والتواضع."
  1. أخرجه ابن أبي شيبة (19342) (ج 4 / ص 206)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (3954).

مرات الإستماع: 0

"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً [المائدة: 82] الآية، قال: الآية إخبار عن شدة عداوة اليهود، وعبدة الأوثان للمسلمين وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً الآية إخبارٌ أن النصارى أقرب إلى مودة المسلمين، وهذا الأمر باقٍ إلى آخر الدهر، فكل يهوديٌ شديد العداوة للإسلام، والكيد لأهله".

فقوله: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً يقول: "إخبارٌ أن النصارى أقرب إلى مودة المسلمين" فالمؤلف - رحمه الله - هنا عممه في عموم النصارى، ولم يقيد ذلك بمن آمن منهم بالنبي ﷺ وهذا أيضًا ما مشى عليه جماعة من أهل العلم، منهم الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وعلّل ذلك لما في قلوبهم من الرقة، والرأفة[1] وبما في كتابهم أيضًا، ففي كتابهم: "من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر" وأنه أيضًا ليس في دينهم، وملتهم، وشرعهم قتال، والقول بعموم النصارى فهمه من قرينةٍ في الآية، بعد الإطلاق في أولها: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى قال: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ فهذه قرينة تدل على العموم، دون أن يختص ذلك بطائفةٍ منهم، كذلك يحتج من عمم هذا القول بطوائف النصارى: بأن الله - تبارك، وتعالى - قال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [المائدة: 82] فـأَشَدَّ صيغة تفضيل وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً قالوا: القرب لا يعني الوصول، يعني ليسوا بأهل مودة، ولكن مقارنةً باليهود، والمشركين فهم أقرب مودةً بهذا الاعتبار، وهذا أيضًا علله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بنحو مما قاله ابن كثير - رحم الله الجميع - لأن دينهم ليس فيه بغض أصلاً[2] يعني ليس في دينهم بغضٌ لأعداء الله المحاربين له، ولرسله، فكيف بالمؤمنين المعتدلين، كما يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - الذين هم أهل ملة إبراهيم، الذين آمنوا بجميع الكتب، وجميع الرسل، وأن هذه الآية ليس فيها مدح للنصارى بالإيمان، ولا وعد بالنجاة، وأن الذين مدحهم، ووعدهم بالثواب هم الذين ذكرهم بعدهم، قال: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [المائدة: 83] فيكون هذا في طائفةٍ خاصة منهم، وهم من آمن، فهذا وجه من قال بالعموم، أن ذلك بحسب المقارنة من جهة شدة العداوة، وقرب المودة، وهذا بهذا الاعتبار له وجه، النصارى في عمومهم مقارنةً باليهود أقل عداوةً، واليهود أشد، وكذلك أهل الأوثان، وإن كان الجميع يُوصَفون بالعداوة.

وذهب آخرون، ومنهم أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -[3] والواحدي[4] والبغوي[5] وآخرون إلى أن ذلك ليس في عموم النصارى، بل في من أسلم منهم كالنجاشي، وأصحابه، أو غير هؤلاء ممن دخل في الإسلام، وجاء عن جماعة من السلف كسعيد بن جبير، والسدي[6] أنها نزلت في وفد النجاشي كما سيأتي، وجاء عن عطاء بن أبي رباح أنها في قومٍ من أهل الحبشة أسلموا لما قدم عليهم الصحابة [7] وهكذا جاء عن قتادة: أنها في نصارى أسلموا لما رأوا المسلمين[8].

وكل هذه الروايات عن هؤلاء السلف ترجع إلى معنىً واحد، وهو: أنها فيمن أسلم منهم، وهذا كما قلت: تدل عليه القرينة في الآية: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ ومَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة: 83 - 84] فهذا لا يقوله عموم النصارى، وإلا لكانوا مسلمين، والأصل في الكلام أنه متحد، وأن أوله يرتبط بآخره، وأن آخره يرتبط بأوله.

لكن الذين قالوا: هو في عموم النصارى جعلوه مفرقًا، فأوله في عموم النصارى، وآخره في طائفةٍ خاصة منهم، مع أن ظاهر الآيات أن ذلك إنما هو حديثٌ عن طائفةٍ واحدة، سواءٌ كانت عموم النصارى، أو كانت فئة من النصارى، وهم من أسلم منهم، مع أن القول الأول لا يُستبعَد، فالله ذكر اليهود، وشدة عداوتهم، ثم ذكر النصارى وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ [المائدة: 82] فهذا في مقابل اليهود لا يخفى أنه عموم أهل الملة الذين انتسبوا إلى النصرانية، لكن كما قلتُ: يُشكِل عليه ما بعده، وهو: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ

وعلى القول الآخر: أنها في طائفةٍ منهم يكون قوله - تبارك، وتعالى - : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ يقولون: إن هذا ظاهره العموم، يعني من قبيل العام المراد به الخصوص، يعني هو عامٌ من حيث الصيغة، ولكن يُرَاد به الخصوص، وهذا كما تعلمون غير العام المخصوص، فالعام المخصوص الذي جاء دليل يُخصِصِه، فيكون هذا من قبيل العام المراد به الخصوص، كما ذكرنا في بعض المناسبات: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران: 173] وهو خاص، فاللفظ عام يُرَاد به خصوص الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ ليس كل الناس، وإنما فئة خاصة منهم، وهكذا.

"قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبانًا [المائدة: 82] تعليلٌ لقرب مودتهم، والقسيس: العالم، والراهب: العابد".

قوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ يقول: القسيس العالم، وابن كثير - رحمه الله - فسر القسيسين: بقوله: هم خطباؤهم، وعلماؤهم[9] وبعضهم يقول: القسيس هو العالم العابد، من قسست الشيء، وقصصته، يعني تتبعت، ويقولون: بأنه سُمِي بذلك لتتبعه كتابه، وآثار معانيه.

يقول: "والراهب العابد" وهكذا قال ابن كثير - رحمه الله -[10] فهم المبالغون في العبادة، والانقطاع عن الناس، مأخوذ من - رهبة الله سمي راهبًا لشدة الرهبة، والرهبة مرتبة من مراتب الخوف، كما هو معلوم، وهذا هو المعروف أن الرهبان هم أهل العبادة الذين انقطعوا لها، كما قال الله : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد: 27] فكان هؤلاء يجلسون، ويبقون في أماكن منعزلة عن الناس في أديرةٍ، ونحو هذا بالفلوات، ونحوها، ولا يختلطون بالناس، وإنما يترهبون، ويُبالغون في العبادة، وذُكِر من أخبارهم في هذا أشياء - والله أعلم - بصحتها، وقد يكون فيها مبالغة، فيُذكَر عن بعضهم أنه لربما جلس في بئرٍ مدة أربعين سنة، أو نحو ذلك، أو أشياء من هذا القبيل غريبة، وعجيبة.

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/167).
  2.  الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/109)، ودقائق التفسير (2/66).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/501).
  4.  الوجيز للواحدي (ص: 331).
  5.  تفسير البغوي - إحياء التراث (2/74).
  6.  المصدر السابق.
  7.  المصدر السابق.
  8.  المصدر السابق.
  9.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/167).
  10.  المصدر السابق.