السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحَرِّمُوا۟ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۝ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة:87-88].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي ﷺ قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي ﷺ : لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني[1] ورواه ابن أبي حاتم، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس - ا - نحو ذلك.


قوله هنا: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:87] يدخل فيه نوعان من التحريم، ما كان على سبيل الترهب كما تدل عليه رواية علي بن أبي طلحة هذه، ويدخل فيه نوع آخر وهو أن يحرم الإنسان على نفسه شيئاً، كأن يقول مثلاً: يحرم عليَّ كذا، وكذا علي حرام، وما أشبه ذلك مما يقوله الإنسان، فهذا لا يجوز، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، فلا يجوز أن يحرم الإنسان على نفسه لا زوجة ولا أمة ولا طعاماً أو لباساً أو غير ذلك مما أباحه الله تبارك وتعالى.
يقول تعالى: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:87] "تحرموا" فعل مضارع مسبوق بالنهي وهو للعموم، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فلا يجوز التحريم سواء كان على قصد الترهب والعبادة أو كان ذلك على وجه آخر، والله أعلم.

وفي الصحيحين عن عائشة - ا - أن ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على الفراش، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني[2].


ربما يكون الدافع لهذا الذي قال: لا آكل اللحم هو ما يذكره المتقدمون من أن اللحم يقوي الغريزة عند الرجل والشهوة، وكان بعض من يتنسك ويتعبد يتقلل منه أو يتركه لهذا الغرض، وقد يكون هؤلاء قصدوا بترك اللحم ترك أطيب ما كان عند العرب من الطعام ولا يجدونه إلا قليلاًَ، فقد يكون الدافع هذا أو ذاك، والله أعلم، لكن هذه الأشياء الثلاثة المذكورة - لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم وأصوم ولا أفطر - يجمع بينها الجامع المشترك وهو كسر الشهوة والتخلص منها، فالصيام يفتر الغريزة ويضعفها ومعلوم أن أكثر ما يشغل الإنسان ويشوش ذهنه ويفرق عليه قلبه هي هذه الغرائز التي أودعها الله فيه حيث تشغل الإنسان فيتشوش ذهنه، والذهن يتشوش مثل المرآة، فالمرآة حينما يلحقها الغبش فإنها تحتاج إلى أن تُجلى فإذا كانت هذه الغريزة تعاوده حيناً بعد حين، فهو كهذه المرآة التي تحتاج إلى صقل، ولذلك فإنها - أي الغريزة - تنطفئ بما ذكره النبي ﷺ في قوله: من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم[3] فإذا تزوج كان ذلك كالمرآة التي تجلى، يعني أن المعاشرة يعود بعدها صفاء النفس وصفاء الذهن، والعقل يصير خالياً من أي تشويش، ثم ما يلبث أن يعاود الإنسان ويبدأ ذهنه يتفرق وهكذا، ولذلك قال بعده: ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه يضعفها، والمقصود بالصوم إدمان الصوم، أي الصوم المتتابع الكثير جداً، أما صوم الاثنين والخميس وحده أو الأيام البيض فلا يكفي، أو صوم رمضان وحده لا يكفي، فالحاصل أنه قد يكون الجامع المشترك بين هذه الأشياء الثلاثة - والله تعالى أعلم - هو كسر الشهوة والتخلص من هذه الغريزة والإعراض عنها بالكلية، ولذلك ذكروا هذا، ومثل هذا حديث عثمان بن مظعون لما استأذن النبي ﷺ في شيء من هذا.

وقوله تعالى: وَلاَ تَعْتَدُواْ [سورة المائدة:87] أي: لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم، ولا تحرموا الحلال، فلا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم، ولا تجاوزوا الحد فيه كما قال تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ الآية [سورة الأعراف:31] وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67] فشرْعُ الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه لا إفراط ولا تفريط ولهذا قال: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة المائدة:87] ثم قال: وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا [سورة المائدة:88] أي: في حال كونه حلالاً طيباً وَاتَّقُواْ اللّهَ [سورة المائدة:88] أي: في جميع أموركم، واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته وعصيانه الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة88].
  1. الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب الترغيب في النكاح (4776) (ج 5 / ص 1949) ومسلم في كتاب النكاح -  باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1401) (ج 2 / ص 1020).
  2. سبق تخريجه في الصحيحين إلا أن قول أحدهم: "لا آكل اللحم" في مسلم دون البخاري وليس فيهما قوله: وآكل اللحم.
  3. أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب قول النبي ﷺ : من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر أحصن للفرج وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح (4778) (ج 5 / ص 1950) ومسلم في كتاب النكاح - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1400) (ج 2 / ص 1018).

مرات الإستماع: 0

"لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] سببها: أن قومًا من الصحابة غلب عليهم خوف الله إلى أن حرّم بعضهم النساء، وبعضهم النوم بالليل، وبعضهم أكل اللحم، وهمّ بعضهم أن يختصوا، أو يسيحوا في الأرض، فقال رسول الله ﷺ : أما أنا فأقوم، وأنام، وأصوم، وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني[1]".

قوله: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] يقول: "سببها أن قومًا من الصحابة غلب عليهم خوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء" هذا جاء عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة، وأنا أذكر طريق ابن أبي طلحة أحيانًا إذا كان من طريقه لأنه إسنادٌ جيد - إن شاء الله - يقول: نزلت في رهطٍ من أصحاب النبي ﷺ قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض، كما يفعل الرهبان، وبلغ ذلك النبي ﷺ فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي ﷺ : لكني أصوم، وأفطر[2] إلى آخره[3] وهذه الرواية يقول فيها: نزلت هذه الآية، وقلنا: إن هذا يكون من قبيل التفسير في الغالب، وليس بصريح بأنه سبب النزول.

وورد أيضًا كما جاء عن عائشة - ا - لو صح، أنها نزلت في عثمان بن مظعون حين اعتزل امرأته الحولاء، وأنها جاءت متبذلة إلى عائشة - ا - وعندها نسوة، فسألوها عن حالها، وعن هذا التبذل، فذكرت أن زوجها لم يقربها منذ كذا، وكذا، فجاء النبي ﷺ وهن يضحكن، فسألهن عن ذلك، فذكرت عائشة - ا - للنبي ﷺ هذا، من حال عثمان، أو من كلام امرأته، فدعاه النبي ﷺ فسأله، فذكر أنه ترك ذلك لله، تقربًا إليه، فنهاه النبي ﷺ عن هذا[4]... إلى آخره، لكن لا تخلو هذه الرواية من ضعف.

وكذلك جاءت مراسيل عن السدي بنحوٍ من هذا[5] أنها نزلت في بعض أصحاب النبي ﷺ لما أرادوا أن يُحرِموا بعض الحلال، أو أن يترهبوا، لكن في هذه الروايات المرسلة، التصريح بأنها سبب النزول، وبعضها صحيحة الإسناد إلى من أرسلها، لكن المرسل كما هو معلوم هو من قبيل الضعيف، لكن المراسيل إذا تتابعت يُقوِي بعضها بعضًا.

وجاء أيضًا في بعض الروايات الوصل، وإن لم يكن صريحًا في سبب النزول، فهذا يقوي بعضها بعضاً، هذا له شواهد متعددة، فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن قوله: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ نزلت بسبب ما هم به بعض أصحاب النبي ﷺ من تحريم بعض الحلال تقربًا إلى الله - تبارك، وتعالى - بصرف النظر عن التفاصيل.

ويدخل في عموم قوله: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ هذا التركيب: لا تُحَرِّمُوا يدل على العموم، (لا) الناهية مع الفعل بعدها، فيدخل فيه تحريم الطيبات بسبب الترهب، ويدخل فيه غير ذلك، كقول الرجل مثلاً: يحرم عليَّ كذا، يعني حينما يريد أن يُلزِم نفسه بشيء، أو ينشئ ذلك ابتداءً من غير حلف، يقول: يحرم عليه كذا، كما قال النبي ﷺ عندما حرّم العسل على نفسه، في أشهر الروايات، وصح أيضًا في غير الصحيحين أنه حرم الجارية، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] فقوله: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أيضًا بمعنى هذا.

وما ذكره في الحاشية بالنسبة لسبب النزول السابق، أن قومًا من الصحابة... إلى آخره، حيث يقول: أخرجه البخاري بلفظ: إني لأخشاكم[6] هذا الذي في الصحيحين ليس فيه تعرض أصلاً لسبب النزول، فلا يكون التخريج من هذا، وإنما يُذكَر ما ذُكِر معه أنها نزلت في كذا، أو صُرِح معه بسبب النزول - والله تعالى أعلم -.

"قوله: وَلا تَعْتَدُوا [المائدة: 87] أي: لا تفرطوا في التشديد على أنفسكم أكثر مما شرع لكم".

قوله: وَلا تَعْتَدُوا يعني: لا تُفرِطوا في التشديد على أنفسكم أكثر مما شُرِع لكم، يعني لا تُجاوِزوا الحد، فالاعتداء: هو مجاوزة الحد، لا تُجاوِزا حدود الله فيما أحل لكم، وحرّم، ويحتمل أن يكون كما لا تُحرِمون الحلال فلا تعتدوا أيضًا في تناول الحلال.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - حمل قوله: وَلا تَعْتَدُوا على تحريم المباح، أو الاعتداء في تناول الحلال[7] يعني جعله هذا، أو هذا، فكل ذلك من الاعتداء، تحريم المباح، أو التوسع في تناول الحلال، فقد يُوقِعه ذلك في الحرام.

ولذلك ذكر الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات في الكلام على المباح أن التوسع في المباحات يُوقِع في المشتبهات[8] وذكر أن التوسع في المباحات مما يُذَم؛ لأنه يُوصِل إلى المشتبهات، ومن وقع في المشتبهات فذلك مؤذنٌ بوقوعه في الحرام، كما في الحديث.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح برقم: (5063)، ومسلم في النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه برقم: (1401).
  2.  سبق تخريجه.
  3.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1187)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (3/169).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/517).
  5.  المصدر السابق.
  6.  سبق تخريجه.
  7.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/172).
  8.  الموافقات (1/188).