قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي ﷺ قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي ﷺ : لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني[1] ورواه ابن أبي حاتم، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس - ا - نحو ذلك.
قوله هنا: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:87] يدخل فيه نوعان من التحريم، ما كان على سبيل الترهب كما تدل عليه رواية علي بن أبي طلحة هذه، ويدخل فيه نوع آخر وهو أن يحرم الإنسان على نفسه شيئاً، كأن يقول مثلاً: يحرم عليَّ كذا، وكذا علي حرام، وما أشبه ذلك مما يقوله الإنسان، فهذا لا يجوز، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، فلا يجوز أن يحرم الإنسان على نفسه لا زوجة ولا أمة ولا طعاماً أو لباساً أو غير ذلك مما أباحه الله تبارك وتعالى.
يقول تعالى: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:87] "تحرموا" فعل مضارع مسبوق بالنهي وهو للعموم، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فلا يجوز التحريم سواء كان على قصد الترهب والعبادة أو كان ذلك على وجه آخر، والله أعلم.
ربما يكون الدافع لهذا الذي قال: لا آكل اللحم هو ما يذكره المتقدمون من أن اللحم يقوي الغريزة عند الرجل والشهوة، وكان بعض من يتنسك ويتعبد يتقلل منه أو يتركه لهذا الغرض، وقد يكون هؤلاء قصدوا بترك اللحم ترك أطيب ما كان عند العرب من الطعام ولا يجدونه إلا قليلاًَ، فقد يكون الدافع هذا أو ذاك، والله أعلم، لكن هذه الأشياء الثلاثة المذكورة - لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم وأصوم ولا أفطر - يجمع بينها الجامع المشترك وهو كسر الشهوة والتخلص منها، فالصيام يفتر الغريزة ويضعفها ومعلوم أن أكثر ما يشغل الإنسان ويشوش ذهنه ويفرق عليه قلبه هي هذه الغرائز التي أودعها الله فيه حيث تشغل الإنسان فيتشوش ذهنه، والذهن يتشوش مثل المرآة، فالمرآة حينما يلحقها الغبش فإنها تحتاج إلى أن تُجلى فإذا كانت هذه الغريزة تعاوده حيناً بعد حين، فهو كهذه المرآة التي تحتاج إلى صقل، ولذلك فإنها - أي الغريزة - تنطفئ بما ذكره النبي ﷺ في قوله: من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم[3] فإذا تزوج كان ذلك كالمرآة التي تجلى، يعني أن المعاشرة يعود بعدها صفاء النفس وصفاء الذهن، والعقل يصير خالياً من أي تشويش، ثم ما يلبث أن يعاود الإنسان ويبدأ ذهنه يتفرق وهكذا، ولذلك قال بعده: ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه يضعفها، والمقصود بالصوم إدمان الصوم، أي الصوم المتتابع الكثير جداً، أما صوم الاثنين والخميس وحده أو الأيام البيض فلا يكفي، أو صوم رمضان وحده لا يكفي، فالحاصل أنه قد يكون الجامع المشترك بين هذه الأشياء الثلاثة - والله تعالى أعلم - هو كسر الشهوة والتخلص من هذه الغريزة والإعراض عنها بالكلية، ولذلك ذكروا هذا، ومثل هذا حديث عثمان بن مظعون لما استأذن النبي ﷺ في شيء من هذا.
- الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب الترغيب في النكاح (4776) (ج 5 / ص 1949) ومسلم في كتاب النكاح - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1401) (ج 2 / ص 1020).
- سبق تخريجه في الصحيحين إلا أن قول أحدهم: "لا آكل اللحم" في مسلم دون البخاري وليس فيهما قوله: وآكل اللحم.
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب قول النبي ﷺ : من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر أحصن للفرج وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح (4778) (ج 5 / ص 1950) ومسلم في كتاب النكاح - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1400) (ج 2 / ص 1018).