الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَكُلُوا۟ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِىٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤْمِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۝ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة:87-88].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي ﷺ قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي ﷺ : لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني[1] ورواه ابن أبي حاتم، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس - ا - نحو ذلك.


قوله هنا: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:87] يدخل فيه نوعان من التحريم، ما كان على سبيل الترهب كما تدل عليه رواية علي بن أبي طلحة هذه، ويدخل فيه نوع آخر وهو أن يحرم الإنسان على نفسه شيئاً، كأن يقول مثلاً: يحرم عليَّ كذا، وكذا علي حرام، وما أشبه ذلك مما يقوله الإنسان، فهذا لا يجوز، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، فلا يجوز أن يحرم الإنسان على نفسه لا زوجة ولا أمة ولا طعاماً أو لباساً أو غير ذلك مما أباحه الله تبارك وتعالى.
يقول تعالى: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:87] "تحرموا" فعل مضارع مسبوق بالنهي وهو للعموم، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فلا يجوز التحريم سواء كان على قصد الترهب والعبادة أو كان ذلك على وجه آخر، والله أعلم.

وفي الصحيحين عن عائشة - ا - أن ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على الفراش، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني[2].


ربما يكون الدافع لهذا الذي قال: لا آكل اللحم هو ما يذكره المتقدمون من أن اللحم يقوي الغريزة عند الرجل والشهوة، وكان بعض من يتنسك ويتعبد يتقلل منه أو يتركه لهذا الغرض، وقد يكون هؤلاء قصدوا بترك اللحم ترك أطيب ما كان عند العرب من الطعام ولا يجدونه إلا قليلاًَ، فقد يكون الدافع هذا أو ذاك، والله أعلم، لكن هذه الأشياء الثلاثة المذكورة - لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم وأصوم ولا أفطر - يجمع بينها الجامع المشترك وهو كسر الشهوة والتخلص منها، فالصيام يفتر الغريزة ويضعفها ومعلوم أن أكثر ما يشغل الإنسان ويشوش ذهنه ويفرق عليه قلبه هي هذه الغرائز التي أودعها الله فيه حيث تشغل الإنسان فيتشوش ذهنه، والذهن يتشوش مثل المرآة، فالمرآة حينما يلحقها الغبش فإنها تحتاج إلى أن تُجلى فإذا كانت هذه الغريزة تعاوده حيناً بعد حين، فهو كهذه المرآة التي تحتاج إلى صقل، ولذلك فإنها - أي الغريزة - تنطفئ بما ذكره النبي ﷺ في قوله: من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم[3] فإذا تزوج كان ذلك كالمرآة التي تجلى، يعني أن المعاشرة يعود بعدها صفاء النفس وصفاء الذهن، والعقل يصير خالياً من أي تشويش، ثم ما يلبث أن يعاود الإنسان ويبدأ ذهنه يتفرق وهكذا، ولذلك قال بعده: ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه يضعفها، والمقصود بالصوم إدمان الصوم، أي الصوم المتتابع الكثير جداً، أما صوم الاثنين والخميس وحده أو الأيام البيض فلا يكفي، أو صوم رمضان وحده لا يكفي، فالحاصل أنه قد يكون الجامع المشترك بين هذه الأشياء الثلاثة - والله تعالى أعلم - هو كسر الشهوة والتخلص من هذه الغريزة والإعراض عنها بالكلية، ولذلك ذكروا هذا، ومثل هذا حديث عثمان بن مظعون لما استأذن النبي ﷺ في شيء من هذا.

وقوله تعالى: وَلاَ تَعْتَدُواْ [سورة المائدة:87] أي: لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم، ولا تحرموا الحلال، فلا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم، ولا تجاوزوا الحد فيه كما قال تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ الآية [سورة الأعراف:31] وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67] فشرْعُ الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه لا إفراط ولا تفريط ولهذا قال: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة المائدة:87] ثم قال: وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا [سورة المائدة:88] أي: في حال كونه حلالاً طيباً وَاتَّقُواْ اللّهَ [سورة المائدة:88] أي: في جميع أموركم، واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته وعصيانه الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة88].
  1. الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب الترغيب في النكاح (4776) (ج 5 / ص 1949) ومسلم في كتاب النكاح -  باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1401) (ج 2 / ص 1020).
  2. سبق تخريجه في الصحيحين إلا أن قول أحدهم: "لا آكل اللحم" في مسلم دون البخاري وليس فيهما قوله: وآكل اللحم.
  3. أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب قول النبي ﷺ : من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر أحصن للفرج وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح (4778) (ج 5 / ص 1950) ومسلم في كتاب النكاح - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1400) (ج 2 / ص 1018).

مرات الإستماع: 0

"قوله: وَكُلُوا [المائدة: 88] أي: تمتعوا بالمآكل الحلال، وبالنساء، وغير ذلك، وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أعظم حاجات الإنسان".

الأمر هنا بالأكل في هذا الموضع، ونحوه أنما يكون لمناسبة، يعني يُؤمَر بالأكل إما على سبيل الامتنان، أو لبيان تشريعٍ، ونحو ذلك، وإلا فكما قال الشاطبي - رحمه الله - : بأن ما تتوافر عليه الدواعي، فيكون أمرًا تدعو إليه الغريزة، وتتوافر دواعيه في الإنسان، فلا يحتاج إلى تأكيد، ولا حث[1] كالأكل، والجماع، ونحو هذا، لكن ما يحتاج إلى مجاهدة، وصبر، مثل إقامة الصلاة، والإنفاق، ونحو ذلك هذا يتكرر كثيرًا؛ لأن دواعي النفس لا شك أنها تضمر دونه، وتُحجِم عنه؛ لثقله عليها، فهذا هو الفرق؛ ولذلك فيما يتعلق بالأكل إذا جاء الأمر به، فهو على هذا النهج؛ وكذلك تجد في الجماع فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187] هذا لبيان تشريع الجواز لما كان ذلك في البداية ممنوعًا، في ليالي الصوم، ثم أُبيح بعد ذلك، ومع ذلك قال: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ على القول بأن المراد تحري ليلة القدر، فلا يشغلكم الجماع عن هذه الليالي الفاضلة، أو أن المراد: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني الولد، الذي ينشأ في طاعة الله ويكون صالحًا عابدًا، ونحو ذلك، يعني يكون لكم أيضًا في هذا مقاصد صحيحة، إلى غير ذلك مما قيل فيه، لكن هذا ما يُناسِب المقام الذي ذكرته شاهدًا عليه - والله أعلم -.

  1. الموافقات (1/208).