"بِاللَّغْوِ [المائدة: 89] تقدم في البقرة".
اللغو ما يجري من الكلام من غير عقدٍ، ولا قصد، ويُطلَق على الذي لا فائدة فيه، وعلى الباطل من الكلام، كـلا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [مريم: 62] فهو ما لا خير فيه، ولا طائل تحته، وأما اليمين اللاغية فهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه من غير عقد قلبٍ، ولا تأكيد، ويدخل في هذا قول الرجل: لا والله، وأي والله، وبلى والله، ونحو ذلك عند الجمهور، وأدخل فيه الشافعي - رحمه الله - ما يكون عند اللجاج، والغضب، والعجلة ونحو هذا، فتكون من قبيل اللغو.
وشيخ الإسلام - رحمه الله - يُدخِل في هذا أيضًا: ما قُصِد به الإكرام، كأن يحلف على إنسان أن يجلس هنا، أو أن يحلف عليه أن يطعم، أو نحو هذا فيرى أنه لو لم يطعم، أو لو لم يجلس في هذا المكان أنه لا كفارة عليه؛ لأن مقصوده الإكرام، وقد حصل، يعني ليُظهِر له الإكرام، والتقدير، فحصل منه ذلك، ووصل هذا إلى السامع، أو المخاطب، وبلغته الرسالة، فهذا كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - وأنه لا كفارة عليه لو لم يفعل ذلك، وهكذا ما ذكروه من اللجاج، ونحوه، باعتبار أنه مثل الذي يحلف.
وكالنذر: أنه لو فعل الشيء الفلاني، فإنه يصوم ستة أشهر، أو سنة، وكل ذلك من أجل أن يمنع نفسه، وهذا يفعله بعض الناس ليمنع نفسه من معصية قد اعتادها، فيصعب عليه فراقها، فيأتي بعضهم، ويقول: أنه حلف، أو نذر أن يصوم ستة أشهر، أو سنة إن فعل هذا الشيء، ثم يفعل، أو أن يتصدق بجميع ما يملك، أو نحو هذا، فهذا يدخل فيما ذُكِر - والله أعلم -.
"قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: 89] أي: بما قصدتم عقده بالنية، وقُرئ عقدتم بالتخفيف" وعاقدتم بالألف".
قوله: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ هذا الذي يُقابِل اللغو، فيكون اللغو ما لا عقد للقلب فيه، ومعنى بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قال: "بما قصدتم عقده بالنية" يعني لم يوثقوه باللفظ مع العزم عليه.
وبعضهم يقول: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يدل على توكيد اليمين بالحلف على الشيء مرارًا، لكن هذا ليس بلازم بحالٍ من الأحوال.
يقول: "وقُرئ عقدتم بالتخفيف، وعاقدتم بالألف" بالتخفيف (عقدتم) قراءة حمزة، والكسائي، وقراءة الجمهور مشددة عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ.
وأما قراءة الألف فهي عن ابن ذكوان.
ومعنى عقدتم: أوجبتم على أنفسكم، وهو ما يعزم عليه القلب هكذا - والله تعالى أعلم - يقول: "وعاقدتم بالألف، تعاهدتم، وتحالفتم" عاقدتم الأيمان تعاهدتم، وتحالفتم، وهذا باعتبار أن المفاعلة تكون بين اثنين، وذكرت في مناسبةٍ سابقة أن ذلك لا يلزم، فقد يكون مع نفسه، فتكون بمعنى القراءة الأولى، وزيادة المبنى لزيادة المعنى، فهذا فيه زيادة توكيد، وتوثيق؛ ولهذا حمله بعضهم على التكرير في اليمين.
وأما عقدتم فقالوا: اليمين مرة واحدة، وعقدّتم يعني كرّر اليمين، وعاقدتم مع الغير، لكنه ليس بلازم، فقد تأتي المفاعلة من غير أن يكون ذلك بين طرفين، مثل ما قُلنا: تثاءب، وتقاعد، وتكاسل، ونحو ذلك، وعلى كل حال هذا يقابل اللغو.
وبعض العلماء في اللغو أدخل صورةً: وهي أن يحلف الإنسان على شيءٍ يعتقده، ويتبين له خلافه، وهذا على كل حال ليس عليه فيه شيء أصلاً، فهي يمينٌ على خبر، خالف الواقع، فإن كان ذلك بقصدٍ منه فهذا الكذب، وهي اليمين الغموس، والراجح أنه لا كفارة لها؛ لأنها أعظم من أن يكون لها كفارة، وإنما التوبة العظيمة، والحسنات الكثيرة، فهذه اليمين الغموس، وقيل لها ذلك لأنها تغمس صاحبها في النار، هذا إذا قصد، وإن لم يقصد فيكون ذلك من قبيل الخطأ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] قال الله: قد فعلت فهذا لا إشكال فيه، وليس فيه كفارة أيضًا.
والكذب في أصله اللغوي، كما هو معلوم، ما يكون من المخالفة بين القول مثلاً، وما في الخارج، فإذا وقعت هذه المخالفة فهذا كذب، فالذي أخطأ يُقَال كذب، لا على سبيل الذم، وأما الكذب المذموم شرعًا: فهو ما يقع فيه المخالفة بين ما في القلب، إذا قال، وقلبه يعتقد خلاف ما يقول، سواء وافق الواقع، أو خالفه، يعني لو أنه قال شيئًا، وتبين أن وفاق الواقع، لكن كان يعتقد عكس هذا، فهذا كذب، فلو أنه حلف أن زيدًا مسافر، وهو يعتقد أنه موجود، وتبين أنه مسافر، فهذا كذب، فهذا هو المذموم شرعًا.
"قوله تعالى: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [المائدة: 89] اشتراط المسكنة دليلٌ على أنه لا يجزئ في الكفارة إطعام غني، فإن أطعم جهلاً لم يجزه على المشهور من المذهب، واشترط مالكٌ أيضًا أن يكونوا أحرارًا مسلمين وليس في الآية ما يدل على ذلك".
ليس في الآية اشتراط الحرية، وإنما مساكين، فلا يُزَاد في هذه الأوصاف، أما إن أطعم غير مسكين خطأً هل يُجزِئ، أو لا يُجزِئ؟ قال هنا: "لا يُجزِئ على المشهور من المذهب" يعني مذهب مالك، وهو قول طائفة من أهل العلم، كما هو معروف، والعلماء - رحمهم الله - يُفصِلون في مثل هذه الأبواب، يعني: اليمين، والزكاة فيما لو دفع الزكاة لأحدٍ، وتبين أنه غني، إلى غير ذلك من المسائل المشابهة، فهل يُخرِج غيرها، أو لا؟ فبعضهم يُفصِل، ويُفرِق، وهنا في مسألة الكفارة الذي يظهر أنه لا يُجزئه؛ لأنها لم تقع على المحل الذي ذكره الله المسكين.
ولا يدخل اليمين الغموس في هذا عند الجمهور كما سبق، فهذه لا كفارة فيها، لو حلف كاذبًا على خبر خلافًا للشافعي، واليمين التي فيها الكفارة التي يذكرها الفقهاء في أحكام اليمين، وفي باب اليمين إلى آخره، ويُرتِبون عليها ما يتعلق بالكفارة من تعددٍ، أو اكتفاء بواحدة إلى آخره، فيما لو حلف أكثر من يمين، كل هذه التفاصيل التي تصدر عن المكلف لإلزام نفسه، أو غيره على فعلٍ، أو ترك، في المستقبل، كأن حلف أن يفعل كذا، أو حلف على غيره أن يفعل كذا، على تفاصيل، فيما لو حلف على أمرٍ لا يملكه هو، أو على غيره.
أما الخبر مثلاً كأن يحلف أنه لم يفعل هذا الشيء، كامرأة استحلفها زوجها هل فعلت هذا؟ وحلفت أنها لم تفعل، فهذا اليمين الغموس إذا كانت كاذبة، أو حلفت أنها فعلت هذا الشيء خوفًا منه، فهذه إذا كانت كاذبة فهي اليمين الغموس، ولا كفارة فيها، وهكذا لو حلف على خبر مثلاً أن فلانًا قد حضر، أو سافر، أو نحو ذلك، وهو كاذب، فهذه اليمين الغموس.
وأما ما يذكره العامة من أنه حلف على المصحف، فهذا لا أصل له شرعًا، فالحلف على المصحف مضاهاة لأهل الكتاب في حلفهم على كتابهم، وليس له أصل في الشرع.
ويذكر أهل العلم: أن أول من استحلف على المصحف قاضٍ من أهل اليمن، من المتأخرين، فلا يُعرَف في زمن النبي ﷺ ولا في زمن السلف الصالح فلا يوجد شيء اسمه استحلاف على المصحف، وليس لأحد أن يستحلف على المصحف، وهي يمين غموس استحلف على المصحف، أو لم يستحلف عليه إن كان كاذبًا، وإن كان استحلفه على شيءٍ أن يلتزمه، أو أن لا يفعل كذا، أو أن يفعل كذا، أو نحو ذلك، فينبغي له أن يحفظ هذه اليمين، كما قال تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] فهذا مما يدخل فيه، كما سيأتي - إن شاء الله -.
"قوله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة: 89] اختلف في هذا التوسط، هل هو في القدر، أو في الصنف؟ واللفظ يحتمل الوجهين، فأما القدر فقال مالكٌ: يطعم بالمدينة مدٌّ بمدّ النبي ﷺ وبغيرها: وسط من الشبع وقال الشافعي وابن القاسم...".
ابن القاسم من المالكية.
"يجزئ المدّ في كل مكان، وقال أبو حنيفة: إن غدّاهم، وعشاهم أجزأه وأما الصنف فاختلف هل يطعم من عيش نفسه، أو من عيش أهل بلده؟ فمعنى الآية على التأويل الثاني: من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم على الجملة، وعلى الأول يختص الخطاب بالمكفّر".
قوله هنا: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ هل التوسط هنا في المقدار، يعني وسطٌ بين الكثير، والقليل؟ يقول: "فقال مالكٌ: يطعم بالمدينة مدًّا بمدّ النبي ﷺ وبغيرها يُطعَم وسط من الشبع" يعني ليس بالكثير، ولا بالقليل، ونقل هنا عن الشافعي، والقاسم: أنه يُجزِئ المد في كل مكان، وهذا هو الأقرب، فلا تفريق بين المدينة، وغيرها، لكن اختلفوا هل القدر الواجب هو المد، أو أنه يُخرِج أكثر من هذا؟ يعني نصف صاع مثلاً، أو يُفرَق بين البُر، وغيره، فيُخرِج مدًا من البُر، ونصف صاع من غير البُر، كالرز، والشعير، ونحو ذلك، هذا على خلاف بين الصحابة فمن بعدهم، وقول معاوية معروف في هذا؛ لما أتى المدينة، وذكر البُر، وأن ذلك - يعني في نظره - يُجزئ منه المد، وفرّق بين البُر، وغيره، وبعض الصحابة لم يُفرِق بينهما، باعتبار أن البر رزين.
قال أبو حنيفة: "إن غدّاهم، وعشاهم أجزأه" يعني لا يُشتَرط فيه التمليك؛ لأنه قال في جزاء الصيد: إطعام، ولم يقل: طعام فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَام [المائدة: 95] فلم يقل: إطعام، فالطعام يُمَلَك لهم في جزاء الصيد، لكن هنا قال: إطعام، فلا يُشتَرط فيه التمليك بناءً على هذا، هكذا فهم أبو حنيفة، وطائفة من أهل العلم؛ لأنه قال: إطعام، فهو يترك ذلك، يُمكِنهم من الأكل، لكن لا يُشتَرط فيه التمليك، في فرق بين أن يضع طعامًا يأكلون منه، وبين أن يملكهم إياه.
وهذه المسألة في الفقه لها يعني تعلقات، وأحكام، ونظائر... إلى آخره، يعني مثلاً لو دعاك أحد من الناس، ووضع الطعام بين يديك، هل لك أن تأخذ منه لبيتك باعتبار أنه وضعه قرى لك في بيته هو، أو في فندق، أو في مطعم؟ الجواب: لا، ففرق بين إباحة الأكل، ووضع ذلك بين يديك، وتمكينك من تناوله، وبين التمليك، فأنت لا تملكه، فليس لك أن تأخذ معك، كالذي يُوضَع بالفنادق مثلاً، لساكني هذا الفندق، كالبوفيه المفتوحة، ونحو ذلك، هذا تمكين لهم من الأكل، وإباحة، ولكن هل له أن يأخذ منه معه شيئًا؟ الجواب: لا، ليس له أن يأخذ منه، لكن إن أعطاك هذا الطعام تمليكًا لك، يقول: خذ هذا الطعام، ففرق بين هذا، وهذا، فالفاكهة التي في الفندق يضعونها في الغرفة فهذه ليست تمليك، وإنما هي تمكين، تأكل منه، لكن لو ما أكلت منها، أو بقي منها، وتريد أن تحملها معك إذا أردت السفر؟ الجواب: لا، ليس ذلك، ففرق بين التمليك، والتمكين من الشيء أن تأكل منه.
لكن هناك صورة تكون خارجة عن هذا: إذا كان ذلك سيُتلَف، يعني أنت تعلم أن هذا الطعام الذي بقي سيُتلَف، أنت أخذت الآن معك في هذا الإناء طعامًا، وبقي منه بقية، هو مباشرة سيجعلها في النفايات، ففي هذه الحالة سيُتلَف، فله أن يأخذ ما لم يلحقه في ذلك تهمة، من طعامه هو الذي بقي، ولا يتقصد الإكثار من أجل أن يأخذ، فهذا الطعام يُعطَى لأحد يحتاج إليه، أو هو يأكل منه بعد ذلك، أو يعطيه من يأكله، أو نحو ذلك.
لكن بقية الطعام الموجود الذي لم تمسه الأيدي، الذي يأخذ منه الناس، فيقول: في النهاية، والمآل يبقى منه الكثير، ويُتلَف، فنقول: هذا لا شأن لك به الآن، أنت مُكِنت من الأكل، فتأكل من هذا، فهناك فرق بين الصورتين، فهذا يلتبس أحيانًا، فيظن الإنسان أنه ما دام هذا الطعام موضوعًا، فله أن يأخذ ما شاء معه، وليس الأمر كذلك، وقد تكون بعض هذه الأشياء جافة تُحمَل، فيحملها معه، وليس له ذلك، وهكذا ما يُترَك له في الغرفة من أشياء، فيُقال للنزلاء: هذه لكم، فهذا تمكين، وليس بتمليك، كالصابون، وما له هذا المعنى، إلا إذا كان سيُتلَف، أما إذا كان لا يُتلَف، كأن يضيفوا عليه، كما هو معروف، فليس له أن يأخذه، ذكرت هذا للمناسبة؛ ولأنه يلتبس، ويسأل بعض الناس عنه - والله أعلم -.
يقول: "هذا بالنسبة للقدر" يعني الأوسط هو الأعدل في المقدار، أو الجنس، أو القلة، والكثرة، كما سيأتي، يعني بين القليل، والكثير، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - فابن جرير يرى أن الأعدل الأوسط بين القلة، والكثرة، وهو نصف صاع، ورُوِي هذا عن جماعة من الصحابة ثم من بعدهم: كعمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك.
وبعضهم يقول: إن الأوسط بمعنى الأجود، وهذا مروي عن عطاء الخراساني وإن كانت كلمة الأوسط قد تأتي بمعنى الأجود لكن الذي يظهر هنا أنها ليست مرادة، وإنما يكون بين بين إما في المقدار، وإما في الصنف.
وذكر هنا في الصنف أنه يُطعِم من عيش نفسه، أو من عيش أهل بلده، وعلى التأويل الثاني من أوسط ما تُطعِمون أيها الناس أهليكم على الجملة، يعني عيش أهل البلد، وهكذا أيضًا ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد التوسط بين الجيد، والرديء، وهذا جاء عن ابن عمر، والأسود، وعبيدة السلماني، والحسن، وابن سيرين، وشريح وسطٌ بين بين، ليس الأجود، وليس الرديء، يعني بعض الناس، وللأسف في الكفارات، وحتى أيضًا في زكاة الفطر يبحث عن أرخص الأنواع، ويخرجه، فهذا لا يجوز، وإنما مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ.
والقول بأن المقصود بالأوسط بين الجودة، والرداءة هو اختيار أيضًا القرطبي - رحمه الله -.
وهل ذلك باعتبار عيش أهل البلد، أو باعتبار عيش نفسه؟ قال: "وعلى الأول يختص الخطاب بالمكفّر" مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يعني ما تُطعِم أهلك في الكفارة، والذي يُطعِم أهله من أوسطه، إما بين القلة، والكثرة، أو بين الجيد، والرديء، ولا يبعد أن يُقَال: بأن ذلك كله مراد، أن يكون بين القلة، والكثرة، فلا يكون قليلاً، وإنما بنحو نصف صاع، أو مد، عند من يقول بأنه مد، كذلك أيضًا بين الجودة، والكثرة، كما يُقال في زكاة بهيمة الأنعام، ونحو ذلك، فلا يأخذ الأجود، ولا الرديء، وإنما وسطٌ بين ذلك؛ لئلا يشق عليه، ولا يكون ذلك من قبيل البخس في حق الفقراء - والله أعلم -
فلو أنه لو أخذ وجبات من المطعم، وأعطاها لكل فقير مثلاً قطعة من اللحم، أو الدجاج، ونحو هذا مع الرز فهذا يُجزِئ - والله أعلم - يعني بالقدر الذي يكفيهم، يكون وسطًا سواء في الجودة، أو في المقدار، يعني لا يبحث عن الأرخص، والأردأ.
"قوله تعالى: أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة: 89] قال كثير من العلماء: يجزئ ثوبٌ واحدٌ لمسكين؛ لأنه يقال فيه: كسوة، وقال مالك: إنما يجزئ ما تصح به الصلاة، فللرجل ثوبٌ واحد، وللمرأة قميص، وخمار".
الله - تبارك، وتعالى - أطلق في الكسوة أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة: 89] فقال مجاهد: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئت وقال كثير من العلماء: يجزئ ثوبٌ واحدٌ لمسكين؛ لأنه يقال فيه: كسوة، وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله - وبه قال من السلف الحسن، وعطاء، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة - رحم الله الجميع -.
وقال مالك: إنما يجزي ما تصح به الصلاة، فللرجل ثوبٌ واحد، وللمرأة قميص، وخمار ولا يبعد أن يُقال: بأن ذلك يختلف باختلاف الزمان، والمكان، يعني قديمًا في بعض البيئات يكفي ثوب واحد ليس تحته شيء، ويُقال فيه: كسوة، ولكن إذا رجعنا إلى العرف مراعين الزمان، والمكان فيختلف ذلك، يعني مثلاً الكسوة في بلدنا هنا، أو في عرف الناس هنا، هل يكفي ثوب فقط، فيخرج فيه للناس من غير أن يلبس شيئًا تحته؟ لا يكفي هذا، هذه الثياب التي يلبسها الناس الآن لا تستر، فلا بد من شيءٍ آخر معها، بل إذا كان في عرفهم، وعادتهم أن الواحد منهم لا يخرج إلا بشيءٍ على رأسه، فيكون ذلك مما يدخل فيه، ويكون من جملة الكسوة.
والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: ما يصح أن يُصلِي فيه إن كان رجلاً، أو امرأةً، كلٌ بحسبه كما قال الإمام مالك - رحمه الله - لكن كما سبق أن هذا يختلف باختلاف العرف، يعني هذا الثوب هل يصح أن يصلي فيه وحده؟ هل يشف؟ وضابط ذلك عند الفقهاء أن ما يظهر معه البشرة لا تصح معه الصلاة، وهذه الثياب هكذا إذا أُفرِدت.
س: ...
لا أَوْ كِسْوَتُهُمْ ما يصدق عليه أنه كسوة، لكن يُراعى فيه ما سبق، الأوسط، هنا لا يُقال: المقدار؛ لأنه إذا أرجعناه إلى العرف، أو قلنا: ما تصح الصلاة فيه، انتهى، لكن من ناحية الجودة، والرداءة يُراعى فيه مثل هذا، فلا يُعطِي الأردأ، فيبحث عن أرخص شيء، ولا يكون مطالبًا بالأجود، إنما الوسط مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ يعني من الثياب التي يلبسها عموم الناس ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وكذلك في الكسوة يُراعى فيها مثل هذا، وهو الوسط، يعني لا يُعطي ثيابًا لا يلبسها هو، ويتنزه عنها، فبعض الثياب لربما بعشرة ريالات، أو نحو هذا، وهو لا يمكن أن يلبسه، ولا للنوم، فيأتي، ويعطيه في الكفارة، فهذا غير صحيح.
وتقع في هذا أخطاء، أو اجتهادات من العامة، فبعضهم يُخرِج في الإطعام فاكهة، وهذا لا يُجزئ، لا بد أن يكون هذا الطعام من الطعام الذي لا يكون فاكهةً، الفاكهة هي قدرٌ زائد على الطعام الرئيس، الذي يقتات الناس منه - والله أعلم -.
س: ...
هذه الثلاث التي هي: الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، يكون فيها مخيرًا، وسبق ذكر قاعدة في هذا أن ما يكون للمكلف من باب الكفارات، ونحوها فهو للتشهي، يعني يختار ما شاء، وأما ما يرجع إلى المصالح العامة، فيكون بحسب ما تقتضيه المصلحة، مثل ما ذكرنا في المحاربين إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة: 33] أن هذا التخيير بناءً على المصلحة، إن كان يرجع إلى العموم، فيكون بحسب المصلحة، وأما ما يرجع إلى المكلف نفسه، فهذا يكون بالتشهي، فيختار هذا، أو هذا، مثل كفارة الأذى في فعل المحظور في الإحرام، فهو للتشهي، فيختار من أيها يشاء.
"قوله تعالى: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: 89] اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنةً لتقيدها بذلك في كفارة القتل فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، وأجاز أبو حنيفة هنا عتق الكافرة لإطلاق اللفظ هنا واشترط مالكٌ أيضًا أن تكون سليمةً من العيوب وليس في اللفظ ما يدل على ذلك".
يقول هنا: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ هذا من قبيل المطلق، يقول: "اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنةً لتقيدها بذلك في كفارة القتل، فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد" خلافًا لأبي حنيفة؛ لأن أبا حنيفة - رحمه الله - لا يرى حمل المطلق على المقيد، ومعلومٌ أن المطلق مع المقيد له أربعة أحوال، في حالتين وقع الاتفاق على الحكم، وفي حالتين توسطتا، واختلف العلماء فيهما، فما اتفق فيه الحكم، والسبب، فهذا لا شك أنه يُحمَل المطلق على المقيد، وما اختلف فيه الحكم، والسبب، فإنه لا يُحمَل المطلق على المقيد بلا إشكال، يبقى الوسط، إذا اتفق الحكم، واختلف السبب، أو اتفق السبب، واختلف الحكم، فهذا فيه خلاف بين الفقهاء، وشرح هذا قد يطول، والوقت يضيق علينا، وليس هذا بدرس أصول، فهذا تدرسونه في الأصول، في أحوال المطلق مع المقيد، ولا شك أنه مر عليكم، وعرفتموه.
لكن ما يتعلق هنا في مسألة تحرير الرقبة في كفارة اليمين، هنا جاءت مطلقة، وفي كفارة القتل رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء: 92] مقيدة، والسبب في كفارة اليمين: الحلف، وفي كفارة القتل: القتل، فاختلف السبب، يعني موجب الكفارة، والحكم واحد الذي هو عتق الرقبة، ففي كفارة القتل جاء مقيدًا بالإيمان، وفي كفارة اليمين جاءت مطلقة، فبعض أهل العلم يرى حمل المطلق هنا على المقيد، فهذه الصورة المختلف فيها، إذا اختلف السبب، واتحد الحكم، هذا مثاله، وعكسها إذا اختلف الحكم، واتحد السبب، فهذا مما اختلف فيه، الذين يمنعون في هذه الحالة يقولون: أن القتل غير اليمين، ولا التقاء بين القتل، واليمين، فهذا له حكمه، وهذا له حكمه، فهذا فيه كفارة عتق رقبة من غير تقييد بالإيمان، وذاك يكون مقيدًا بالإيمان، فهذا يحتمل، وهو محل خلاف كما ذكرت.
يقول: "واشترط مالكٌ أيضًا أن تكون سليمةً من العيوب" هذا رُوِي عن جماعة من السلف، ولم ينفرد به الإمام مالك - رحمه الله - ومعنى سليمةً من العيوب أي: عاملة، ليس فيه إعاقة، باعتبار أنه يُعتِق رقبة كاملة، يعني لا يُعتِق من به إعاقة تعوقه عن العمل، كالأقطع: مقطوع اليد، أو اليدين، أو مقطوع الرجل، أو الأعمى، ونحو ذلك، فمثل هذا رقبة ناقصة، ولا يستطيع العمل، وسيكون عالة على غيره، فيُعتِقه، فيكون ذلك ضررًا عليه؛ ولربما على غيره، يعني باعتبار أن المطلق يُحمَل على الكامل في الأوصاف، رقبة تامة، والفقهاء يتكلمون في إعتاق الصغير، والمعاق، ونحو هذا.
"قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [المائدة: 89] أي: من لم يملك ما يعتق، ولا ما يطعم، ولا ما يكسو، فعليه صيام ثلاثة أيام، فالخصال الثلاث على التخيير، والصيام مرتبٌ بعدها لمن عدمها، وهو عند مالك من لم يفضل عن قوته، وقوت عياله في يومه زيادة".
هذه الخصال الثلاث على التخيير، وهذا بالإجماع، وهو صريح في الآية.
يقول: "والصيام مرتبٌ بعدها لمن عدمها" وما ضابط هذا العدم؟ قال مالك: "ليس عنده يعني زيادة على قوته، وقوت عياله في يوم".
وابن جرير يقول: "في يومه، وليلته" وهم يُطلِقون اليوم، ويُقصِدون مع ليلته، كما هي عادة العرب، فيُطلقون الليلة، ويقصدون مع يومها، يعني في يومه، وليلته، فهذا الضابط لمن لم يجد، فمن يستطيع العتق، أو الكسوة، أو الإطعام، لا يُجزِئه الصيام، والذائع عند كثيرٍ من العامة أنهم إذا ذكروا اليمين فالصيام، مع قدرتهم على الإطعام، أو الكسوة، وهذا لا يُجزِئ، ولا يصح، ومن فعل ذلك فعليه أن يُخرِج الكفارة على الوجه الصحيح، ولا يكتفي بالصوم فإنه لا يُجزِئ، ولو صام، إلا إذا لم يجد، والصوم هل هو مقيدٌ بالتتابع، أو أنه يُجزِئ أن يصوم ثلاثة أيام متفرقة؟ هذا مما يدخل في مسألة حمل المطلق على المقيد، فهذه الصورة في اجتماع الحكم، والسبب معًا، وذلك أن الله قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وفي القراءة الأخرى غير متواترة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، والسبب فيهما كفارة اليمين، السبب واحد، والحكم: صيام ثلاثة أيام، واحد أيضًا، فجاء في القراءة المتواترة مطلقًا، وجاء في القراءة الأخرى مقيدًا، وهي صحيحة الإسناد، فيُحمَل المطلق في هذه الحال على المقيد، صيام ثلاثة أيام متتابعات، فيُقال: لا بد من التتابع؛ لأنه اتفق الحكم، والسبب، لكن من لا يُوجِب ذلك، قد لا يحتج أصلاً في القراءة غير المتواترة، ولو صح سندها، يعني في الأحكام، فيقول: لم تثبت قرآنيتها، فبطل العمل بها، ومن يقول: إنه يُحتج بها إذا صح سندها، وهو الأرجح، يقول: تُنَزل منزلة الحديث النبوي، صح إسنادها إلى النبي ﷺ فيُعمَل بها، وهذا الأقرب.
وذكرت في بعض المناسبات أن القراءة غير المتواترة إذا صح سندها يُستفاد منها ثلاثة أمور:
الاحتجاج بالأحكام، وتُفسِر القراءة المتواترة، ويُحتَج بها أيضًا في اللغة، فهذه ثلاثة أمور، لكن عند من لا يحتج بالقراءة غير المتواترة، ولو صح سندها، فهل يُقال: التتابع هنا واجب باعتبار كفارة الجماع مثلاً في نهار رمضان، صيام شهرين متتابعين، وكفارة القتل صيام شهرين متتابعين؟ فهنا قيد بالتتابع فهل يُقال: بأن كفارة اليمين يُطلَب فيها التتابع باعتبار أنه جاء مقيدًا بذلك في كفارة القتل، وكفارة الجماع في نهار رمضان، فلاحظ السبب هنا يمين، وفي الجماع في نهار رمضان السبب: الجماع، وفي كفارة القتل: القتل، فالسبب مختلف، والحكم الصيام، فاتحد الحكم، واختلف السبب، فهذه الصورة هي التي وقع فيها الخلاف، لكن اجتماع الحكم، والسبب في القراءة غير متواترة، صيام ثلاثة أيام متتابعات، فهذا يُحمَل بالاتفاق، لكن هنا ما الذي جعل العلماء يختلفون فيه؟ بناءً على العمل بالقراءة غير المتواترة إذا صح سندها، هل يُعمل بها في الأحكام، أو لا؟ فهذا منشأ الخلاف في المسألة.
"قوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ [المائدة: 89] معناه: إذا حلفتم، وحنثتم، أو أردتم الحنث، واختلف هل يجوز تقديم الكفارة على الحنث، أم لا".
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ يعني حلفتم، ثم حنثتم، أو أردتم ذلك، ففرق بين وقوع ذلك منه، أو الإرادة، يعني أنه يُكفِر قبل أن يفعل بخلاف مقتضى اليمين، يقول: اختُلِف هل يجوز تقديم الكفارة على الحنث، أم لا؟ لا شك أنه لا يصح تقديم الكفارة على الحلف، يعني لو أنه أخرج كفارة باعتبار أنه سيحلف، ثم يحنث فيها، فهذا لا يصح بلا إشكال، وبالاتفاق، لكن هل يُقدِم الكفارة على الحنث باليمين؟ فهذا فيه خلاف، والأقرب أن ذلك يصح، فيصح له أن يُخرِج الكفارة قبل، ويصح أن يكون ذلك بعد، فهو مخير بين هذا، وهذا، وحديث لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير، أو: أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني فدل على أنه يمكن أن يُقدِم الكفارة.
وجاء عن عائشة - ا - لما حلفت ألا تُكلِم ابن أختها - أعني عبد الله بن الزبير - في القصة المعروفة لما قال كلمةً، في كثرت نفقة عائشة، وصدقاتها - ا - بأنه إن لم تكف فإنه سيحجر عليها، فبلغها ذلك، فغضبت، وحلفت ألا تكلمه أبدًا، فأدخل شفعاء في هذا، فأبت، ثم بعد ذلك دخل عليها، واعتذر إليها، ونحو ذلك، فكانت تتأبى لشدة اليمين، وكان قد أعتق عنها أربعين، وكان ذلك قبل أن تحنث، حتى رضيت - والله أعلم -.
"قوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [المائدة: 89] أي: احفظوها فبروا فيها، ولا تحنثوا، وقيل: احفظوها بأن تكفروها إن حنثتم، وقيل: احفظوها؛ أي لا تنسوها تهاونًا بها".
الذي يظهر - والله أعلم - أن الآية تشمل ذلك جميعًا، يعني احفظوها من حيث عدم الحنث، لكن لا يعني هذا أن الإنسان إذا رأى غيرها خيرًا منها أنه يتمسك بيمينه؛ لأن النبي ﷺ قال: لا أحلف على يمين... إلى آخره، ففي هذه الحال يحنث، ويُكفِر عن يمينه، ولكن إذا كان الداعي غير موجود فينبغي أن يحفظ يمينه، ولا يتساهل فيها، وكذلك أيضًا إذا حصل منه الحنث فإنه يُكفِر عن يمينه، فهذا من حفظها أيضًا، وهذا الذي قاله ابن جرير في محمله هنا وكذلك قال: "احفظوها أي لا تنسوها تهاونا بها" وكذلك تُحفَظ عن أن يحلف كاذبًا، فلا يحلف إلا صادقًا، وكذلك تُحفَظ عن كثرة الحلف، وجاء عن بعض السلف كإبراهيم النخعي أنهم كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف وتجد الصغير إذا اعتاد على هذا، أو يسمع من الكبار يكثرون من الحلف، لربما بين كل كلمتين يمين، فهذا استخفاف باليمين، وبمقام الله ولهذا جاء في كتاب التوحيد - كما تعلمون - : باب ما جاء في كثرة الحلف ومدخله في كتاب التوحيد أن ذلك مما يُؤذن عن استخفاف، أو عن قلة تعظيم لله - والله أعلم -.