الثلاثاء 27 / ذو الحجة / 1446 - 24 / يونيو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ۝ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ۝ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة:90-93].
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار، وقد ورد عن أمير المؤمنين  علي بن أبي طالب أنه قال: "الشطرنج من الميسر" ورواه ابن أبي حاتم.
روى ابن أبي حاتم عن عطاء ومجاهد وطاوس - قال سفيان: أو اثنين منهم - قالوا: كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز.
وعن ابن عمر - ا - قال: الميسر هو القمار، وقال الضحاك عن ابن عباس - ا - قال: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة.
وأما الأنصاب فقال ابن عباس - ا - ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وغير واحد: هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأما الأزلام فقالوا أيضاً: هي قداح كانوا يستقسمون بها. رواه ابن أبي حاتم.


فقد سبق الكلام على هذه المعاني التي في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. [سورة المائدة:90] وذكرنا أن كل الأنواع التي ذكرها السلف كالنرد والشطرنج وسائر الألعاب التي يُقامرُ بها داخلة فيه.
وأما الأنصاب فذكرنا كلام الحافظ ابن القيم - رحمه الله - ومن وافقه أن المراد بها كل ما نُصِب ليُعبد من دون الله من الأحجار والأشجار وما إلى ذلك مما يقصده العابدون ليذبحوا عنده ويتقربوا إليه، وبعضهم خصَّ ذلك بأحجار كان يُذبح عندها، وقيل غير ذلك، وعلى كل حال فالأنصاب هي كل ما نصب ليعبد من دون الله .
والأزلام قال: "هي قداح كانوا يستقسمون بها" ويدخل في هذا كل ما يفعلونه طلباً لمعرفة الغيب والكشف عن المستقبل حيث كان الواحد إذا أراد سفراً أدخل يده في كيس أو خريطة ويستخرج قدحاً، وهذه الأقداح قد كتب على بعضها "لا تفعل" وكتب على الآخر "افعل" والثالث لا يكتب عليه شيء، وعلى كل حال العلماء تكلموا بالتفصيل في أخبار العرب وفي قصص العرب وما كانوا يتعاطونه في جاهليتهم من هذه القضايا، وقد مضى شيء يسير من ذلك ومن أراد معرفة شيء من هذا فليتطلبه في مظانه حيث إنه ألفت كتب في الميسر وفي ألعاب الصبيان عند العرب، وكتبت كتابات تتعلق بالأزلام وطريقة العرب فيها واسم هذه القداح، وبعضهم زاد فيها على الثلاثة وذكر أسماء كثيرة، ولهم في ذلك طرق معروفة، وعلى كل حال فكل ما كانوا يتعاطونه مما يطلبون فيه معرفة الغيوب فهو داخل في هذا سواء عن طريق قدح يستخرجه، أو بطريقة أخرى يريد أن يعرف بها هذا.

وقوله تعالى: رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [سورة المائدة:90] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : أي سُخط من عمل الشيطان.


عبارات السلف في الرجس سواء قيل: السخط أو الإثم أو كما قال ابن جرير هو النتن، كل هذا صحيح؛ لأن الرجس والركس يقال بإزاء معنيين اثنين أو هو يدور على معنى النجس ويدخل فيه النجس حساً والنجس معنىً، فالنجاسة المعنوية يقال لها: رجس قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [سورة الحـج:30] ونجاسة الأوثان قطعاً ليست نجاسة حسية، فكل دنس يقال له: رجس سواء كان ذلك من الدنس الحسي أو كان ذلك من الدنس المعنوي، والدنس الحسي مثل الأقذار والنجاسات، فإنه يقال لها: رجس وركس، قال النبي ﷺ في روثة الحمار: هذه ركس[1] والركس هو النجس، وكذلك يقال أيضاًَ للأمور النجسة نجاسة معنوية كالشرك، وسائر الآثام يقال لها رجس، ولهذا فسره بعضهم بالإثم، وفسره بعضهم بالنتن - كما قال ابن جرير - وقال هنا: أي سخط من عذاب الله  ، والسخط إنما يكون بسبب مقارفة ما حرم الله - تبارك وتعالى - وهذا هو الإثم.

وقال سعيد بن جبير: إثم، وقال زيد بن أسلم: أي: شرٌّ من عمل الشيطان.


قوله: "من عمل الشيطان" يعني من تسويله وتزيينه للناس، فصار بهذا الاعتبار من عمل الشيطان، والله يقول: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [سورة المجادلة:10] يعني من تزيينه وتسويله، فصارت من عمله بهذا الاعتبار، وهكذا كل ما يزينه الشيطان لابن آدم فهو من عمله، فهذا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ليس مما دعا إليه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أو أنه مما يعد من مكارم الأخلاق ومن الأعمال الطيبة الحسنة وإنما هو من الأمور السيئة التي تجلب العداوة والبغضاء بين الناس، فمثل هذا يقال: إنه من عمل الشيطان، يعني من تزيينه وتسويله لابن آدم.

فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] الضمير عائد إلى الرجس أي: اتركوه.


يقول: "الضمير عائد إلى الرجس" والرجس يعود إلى هذه الأمور المذكورة جميعاً أي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس، والرجس هو النجس.
والعلماء الذين يقولون: إن الخمر نجاستها نجاسة حسية وليست معنوية مما يحتجون به بل أشهر الأدلة التي احتجوا بها هو هذا الدليل رِجْسٌ وعلى كل حال الله هنا قرنها بالميسر والأنصاب والأزلام وهذه الأشياء الثلاثة قطعاً ليست نجاستها نجاسة حسية إطلاقاً، وإنما هي نجاسة معنوية، ولما حرمت الخمر ماذا فعل بها الصحابة  ؟ أراقوها في سكك المدينة فلو كانت نجاسة الخمر نجاسة حسية لما أريقت بسكك المدينة؛ لأن هذا تقذير لها وتلويث لها بالنجاسات التي يلامسها الناس ويمرون بها ويطئون عليها، إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على أن الخمر طاهرة العين ولكنها نجسة نجاسة معنوية، ولكن يمكن لمانع الانتفاع بالخمر أو بما أسكر بوجه من الوجوه أن يحتج بعموم المقتضى - يعني المحذوف المقدر في قوله: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] - فإن الله ما قال: فاجتنبوا شربه مثلاً وإنما قال: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] والأصل في المقتضى أنه يحمل على أعم معانيه، وهذا الذي عليه الجمهور، فيقال: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] أي اجتبوا شربه واجتنبوا سائر أنواع الانتفاع من التطيب أو غير ذلك، وليس لأنه نجس نجاسة حسية، وهذا وجه إلا أن هذا فيه إشكال، والذي قد يكون أقرب -والله تعالى أعلم- أن يقال: إنما وضع من أجل أن يُتعاطى على وجه الإسكار فيحرم ويجب إراقته ولا يجوز إبقاؤه بحال من الأحوال، ولا إهداؤه ولا بيعه ولا غير ذلك، وأما ما وضع على وجه آخر فإنه لا يقال: إنه يحرم تعاطيه على ذلك الوجه الذي وضع له ولو كان إن استعمله أحد أسكره فإنه لم يوضع لهذا أصلاً كما يقال في أنواع من المصنوعات والمنتجات والأشياء كالغراء ونحوه فهي لم توضع من أجل أن تكون مسكرة لكن لو تعاطاها الإنسان بأكل أو شرب أو شم أو غير ذلك فقد يسكر، فلا يقال: إنها تحرم، والله تعالى أعلم، وإنما ما وضع لهذا المعنى - يعني ليؤكل أو ليشرب أو يشم أو يكون عن طريق إبر أو نحو ذلك للإسكار - فهذا يحرم اقتناؤه ويحرم تعاطيه ويحرم إهداؤه وبيعه وصناعته، وإلا فهل يقال لمن يصنع الصمغ مثلاً - حيث إن بعض أنواعه يسكر - : إنه ملعون كما لعنت الخمر وحاملها والمحمولة إليه؟ وهل يقال لهؤلاء الذين يصنعون البنزين: إنهم ملعونون وكذا حامله والمحمول ومشتريه وبائعه؟ يعني أن الله لعن في الخمر عشرة والبنزين يسكر – أيضاً - فهل يقال فيه هذا؟ وإذا أصاب البنزين ثوبك فمعنى ذلك أنك تحتاج إلى غسل الأثر، فهل يقال هذا؟!
المقصود أن نجاسة الخمر نجاسة معنوية وليست حسية، وإنما يحرم بيع وتصنيع ما عمل لهذا الغرض وما عداه فلا يحرم، لكن لو أن أحداً تعاطى تلك الأشياء على وجه الإسكار فهذا يحرم قطعاً بلا مرية، والله تعالى أعلم.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] وهذا ترغيب.


"لعلَّ" في جميع المواضع في القرآن يمكن أن تفسر بأنها للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وبهذا ينحل الإشكال؛ لأن أصل "لعل" للترجي والله لا يترجى، ولو فسرت للترجي يمكن أن يُخرّج هذا على وجه معروف وهو أن الخطاب قد يرد مراعىً فيه حال المخاطب، كما في قوله تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] أي على رجائكما، وهذا له أنواع كثيرة، والله أعلم.

  1. أخرجه النسائي في كتاب الطهارة - باب الرخصة في الاستطابة بحجرين (42) (ج 1 / ص 39) وأحمد (3966) (ج 1 / ص 418) وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم (42).

مرات الإستماع: 0

"الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ذُكر في البقرة وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ مذكوران في أول هذه السورة".

فالخمر معروف، والميسر يقول: "ذُكر في البقرة" وهذا مضى في صفحة (284)، والميسر هو القمار، من قولهم: يَسَر، يعني ضرب بالقدح، فيُقَال للقمار: الميسر، وبهذا فسّر جماعة من السلف، كابن عباس - ا - وعطاء، وطاووس، ومجاهد، فقالوا: كل شيء من القمار فهو من الميسر[1] حتى لعب الصبيان بالجوز، وجاء عن عليّ أنه عد منه الشطرنج، فالمقصود أن القمار بجمع أنواعه يدخل في جملة الميسر - والله أعلم -.

"قال: وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ [المائدة: 90] مذكوران في أول هذه السورة".

تجدون هذا في صفحة (477)، و(478).

وَالْأَنْصابُ مضى أنها أحجار يذبحون عليها، تقربًا لآلهتهم، ومعبوداتهم، من دون الله أو أنها أصنام يذبحون عندها، أو تُنصَب للعبادة، يعني أحجار يذبحون عندها، أو ما يُنصَب للعبادة من الأصنام، ونحوها، وبعض السلف فسره بالحجارة التي يذبحون عندها على سبيل الخصوص، يعني غير الأصنام، وبعضهم عممه، فكل ما نُصِب للعبادة فهو داخلٌ فيه، وقد جاء عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن أنها حجارة، كانوا يذبحون قرابينهم عندها[2] يعني غير الأصنام.

والحافظ ابن القيم - رحمه الله فسره: بكل ما نُصِب ليُعبَد من دون الله، فهو من جملة الأنصاب[3] سواءً كان حجرًا، أو شجرًا، أو وثنًا، أو قبرًا، فهو يدخل في جملة الأنصاب.

وَالْأَزْلامُ فُسِرَت: بالقداح التي يضربون بها، يعني للتكهن، ومعرفة الغيب، هل يفعل، أو لا يفعل؟ هل يُسافِر، أو لا يُسافِر؟ هل يتزوج، أو لا يتزوج؟ ونحو ذلك، فيضعون ثلاثة أقداح، أحد هذه الأقداح موجب يعني افعل، والثاني: سالب، لا تفعل، والثالث: ليس فيه شيء، وإذا خرج الذي ليس فيه شيء أعاد، ويفعل بمقتضى ذلك، يعني إذا خرج له لا تفعل، فلا يفعل، فهذا من عمل الجاهلية، يطلبون علم ما استأثر الله به بهذه الأمور.

رِجْسٌ [المائدة: 90] هو في اللغة: كل مكروهٍ مذموم، وقد يطلق بمعنى النجس، وبمعنى الحرام، وقال ابن عباسٍ - ا - هنا: رجسٌ سخطٌ[4]".

ابن عباس - ا - فسره هنا بالسخط رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أي: سخطٌ من عمل الشيطان.

وابن جرير - رحمه الله - يقول: إثم، ونتن[5] والرجس يُقال للنجس نجاسةً حسية، أو نجاسةً معنوية، ومن هنا اختلفوا في هذا الموضع: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ هل الخمر نجسة نجاسة معنوية، أو أنها نجاسة حسية؟ وإذا نظرنا إلى دلالة الاقتران، ودلالة الاقتران فيها كلام معروف للأصوليين، وهي على مراتب، ليست على ميزانٍ واحد، فمنها القوي، ومنها الضعيف، ومنها ما هو بين بين.

فالمقصود أن الله قرن هنا بين الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ ولا شك أن الميسر، والأنصاب، والأزلام أن نجاستها معنوية، وليست حسية، فبهذا الاقتران فهم جماعة من أهل العلم أن الرجس هنا المقصود به النجاسة المعنوية، حتى في الخمر، وأنها ليست بنجسة العين، وهذا القول له وجه، ومما يدل عليه أنهم أراقوها في الطرقات، قالوا: ولو كانت نجسة العين لما لوثوا بها الطرق، ونجسوها، ويترتب على هذا من الأحكام فيما يكون من هذه الكحول المسكرة، فالكحول نوعان: نوع سام، ونوع مُسكِر، فالنوع المُسكِر إذا دخل في الطيب، والعطور هل يُقال: بأن ذلك يكون نجسًا فإن أصاب الثوب يُغسَل؟ باعتبار أنها نجسة العين، وكل ما أسكر فهو خمر، فهي بهذا الاعتبار مُسكِرة، أو أن النجاسة معنوية؟ إذا قلنا: بأنها ليست بنجسة العين فيبقى عموم المقتضى، وهذه مسألة أخرى، لكن الكلام على نجاسة العين في قوله: فَاجْتَنِبُوهُ ولم يقل: اجتنبوا شربه فقط، فهل يدخل فيه سائر أنواع الانتفاع؟ وهل فيما إذا رُكِب مع أشياء أخرى مما لا يخلو منه كثير من مصالح الناس اليوم، مما تتعطل به مصالح حيوية لو أنه تُرِك، فهل يُقال بأن ذلك لا يجوز بإطلاق؛ لعموم قوله: فَاجْتَنِبُوهُ؟ ويسمونه عموم المقتضي، يعني المحذوف المقدر، كما يقول صاحب المراقي:

والمقتضي أعم جل السلف[6]   

فهل هذا يدخل فيما ذُكِر في هذا المثال، فيُجتَنب مطلقًا لا لأنه نجس العين؟ فهذا يحتمل، ولكنه يُشكِل عليه: أن هذه لم يُقصَد بها أصلاً الشرب، ولا تُعَد له، فهذه الأنواع من الأشياء التي يُقال عنها: إنها قد تُسكِر تدخل في أنواع من مثل الطلاء، بل أيضًا الوقود (البنزين)، ونحو هذا، يسكر بعض الناس منه، فهل يُقال: إن هذا يحرم؟ لا يقال بحالٍ من الأحوال، ولا أعلم أحدًا يقول بهذا، فإذا تبيّن مثل هذا فقد يكون ذلك طريقًا للنظر، أو بيان حكم استعمال مثل هذه فيما دون ذلك، مثل العطور، بحيث لا يكون تفريق بلا مفرق، فتكون على نهجٍ واحد في الحكم، ما يُقال هذا نعم، وهذا لا - والله أعلم - لأن ذلك مما لم يُعد أصلاً للشرب، ومن، ثم يجوز استعماله، كمثل هذه الطلاءات، ومواد الغراء، والوقود، فهل يقول أحد بأن هذا يُمنَع؟ الجواب: لا - والله أعلم -

والأقرب أن نجاسة الخمر نجاسة معنوية، وليس حسية، لما سبق، ولا سيما إذا فُسِر بما ذُكِر هنا عن ابن عباس بأنه سخط، فهنا لم يذكر النجاسة، وكذلك قول ابن جرير بأنه: إثم، ونتن، فلم يذكر النجاسة، سواءً كانت معنوية، أو حسية، مع أن الرجس كما سبق يُطلَق على النجس.

"قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ نصٌ في التحريم، والضمير يعود على الرجس الذي هو خبرٌ عن جميع الأشياء المذكورة".

وبهذا قال ابن كثير - رحمه الله - : إن الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام هذه الأربعة رجس[7].

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/178).
  2.  المصدر السابق (3/179).
  3.  إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (ص: 193).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/565).
  5.  المصدر السابق (10/564).
  6.  نشر البنود على مراقي السعود (1/226)، وتمامه:
    والمقتضي أعم جل للسلف *** كذاك مفهوم بلا مختلف.
  7. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/180).