يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: "الشطرنج من الميسر" ورواه ابن أبي حاتم.
روى ابن أبي حاتم عن عطاء ومجاهد وطاوس - قال سفيان: أو اثنين منهم - قالوا: كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز.
وعن ابن عمر - ا - قال: الميسر هو القمار، وقال الضحاك عن ابن عباس - ا - قال: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة.
وأما الأنصاب فقال ابن عباس - ا - ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وغير واحد: هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأما الأزلام فقالوا أيضاً: هي قداح كانوا يستقسمون بها. رواه ابن أبي حاتم.
فقد سبق الكلام على هذه المعاني التي في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. [سورة المائدة:90] وذكرنا أن كل الأنواع التي ذكرها السلف كالنرد والشطرنج وسائر الألعاب التي يُقامرُ بها داخلة فيه.
وأما الأنصاب فذكرنا كلام الحافظ ابن القيم - رحمه الله - ومن وافقه أن المراد بها كل ما نُصِب ليُعبد من دون الله من الأحجار والأشجار وما إلى ذلك مما يقصده العابدون ليذبحوا عنده ويتقربوا إليه، وبعضهم خصَّ ذلك بأحجار كان يُذبح عندها، وقيل غير ذلك، وعلى كل حال فالأنصاب هي كل ما نصب ليعبد من دون الله .
والأزلام قال: "هي قداح كانوا يستقسمون بها" ويدخل في هذا كل ما يفعلونه طلباً لمعرفة الغيب والكشف عن المستقبل حيث كان الواحد إذا أراد سفراً أدخل يده في كيس أو خريطة ويستخرج قدحاً، وهذه الأقداح قد كتب على بعضها "لا تفعل" وكتب على الآخر "افعل" والثالث لا يكتب عليه شيء، وعلى كل حال العلماء تكلموا بالتفصيل في أخبار العرب وفي قصص العرب وما كانوا يتعاطونه في جاهليتهم من هذه القضايا، وقد مضى شيء يسير من ذلك ومن أراد معرفة شيء من هذا فليتطلبه في مظانه حيث إنه ألفت كتب في الميسر وفي ألعاب الصبيان عند العرب، وكتبت كتابات تتعلق بالأزلام وطريقة العرب فيها واسم هذه القداح، وبعضهم زاد فيها على الثلاثة وذكر أسماء كثيرة، ولهم في ذلك طرق معروفة، وعلى كل حال فكل ما كانوا يتعاطونه مما يطلبون فيه معرفة الغيوب فهو داخل في هذا سواء عن طريق قدح يستخرجه، أو بطريقة أخرى يريد أن يعرف بها هذا.
عبارات السلف في الرجس سواء قيل: السخط أو الإثم أو كما قال ابن جرير هو النتن، كل هذا صحيح؛ لأن الرجس والركس يقال بإزاء معنيين اثنين أو هو يدور على معنى النجس ويدخل فيه النجس حساً والنجس معنىً، فالنجاسة المعنوية يقال لها: رجس قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [سورة الحـج:30] ونجاسة الأوثان قطعاً ليست نجاسة حسية، فكل دنس يقال له: رجس سواء كان ذلك من الدنس الحسي أو كان ذلك من الدنس المعنوي، والدنس الحسي مثل الأقذار والنجاسات، فإنه يقال لها: رجس وركس، قال النبي ﷺ في روثة الحمار: هذه ركس[1] والركس هو النجس، وكذلك يقال أيضاًَ للأمور النجسة نجاسة معنوية كالشرك، وسائر الآثام يقال لها رجس، ولهذا فسره بعضهم بالإثم، وفسره بعضهم بالنتن - كما قال ابن جرير - وقال هنا: أي سخط من عذاب الله ، والسخط إنما يكون بسبب مقارفة ما حرم الله - تبارك وتعالى - وهذا هو الإثم.
قوله: "من عمل الشيطان" يعني من تسويله وتزيينه للناس، فصار بهذا الاعتبار من عمل الشيطان، والله يقول: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [سورة المجادلة:10] يعني من تزيينه وتسويله، فصارت من عمله بهذا الاعتبار، وهكذا كل ما يزينه الشيطان لابن آدم فهو من عمله، فهذا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ليس مما دعا إليه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أو أنه مما يعد من مكارم الأخلاق ومن الأعمال الطيبة الحسنة وإنما هو من الأمور السيئة التي تجلب العداوة والبغضاء بين الناس، فمثل هذا يقال: إنه من عمل الشيطان، يعني من تزيينه وتسويله لابن آدم.
يقول: "الضمير عائد إلى الرجس" والرجس يعود إلى هذه الأمور المذكورة جميعاً أي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس، والرجس هو النجس.
والعلماء الذين يقولون: إن الخمر نجاستها نجاسة حسية وليست معنوية مما يحتجون به بل أشهر الأدلة التي احتجوا بها هو هذا الدليل رِجْسٌ وعلى كل حال الله هنا قرنها بالميسر والأنصاب والأزلام وهذه الأشياء الثلاثة قطعاً ليست نجاستها نجاسة حسية إطلاقاً، وإنما هي نجاسة معنوية، ولما حرمت الخمر ماذا فعل بها الصحابة ؟ أراقوها في سكك المدينة فلو كانت نجاسة الخمر نجاسة حسية لما أريقت بسكك المدينة؛ لأن هذا تقذير لها وتلويث لها بالنجاسات التي يلامسها الناس ويمرون بها ويطئون عليها، إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على أن الخمر طاهرة العين ولكنها نجسة نجاسة معنوية، ولكن يمكن لمانع الانتفاع بالخمر أو بما أسكر بوجه من الوجوه أن يحتج بعموم المقتضى - يعني المحذوف المقدر في قوله: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] - فإن الله ما قال: فاجتنبوا شربه مثلاً وإنما قال: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] والأصل في المقتضى أنه يحمل على أعم معانيه، وهذا الذي عليه الجمهور، فيقال: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] أي اجتبوا شربه واجتنبوا سائر أنواع الانتفاع من التطيب أو غير ذلك، وليس لأنه نجس نجاسة حسية، وهذا وجه إلا أن هذا فيه إشكال، والذي قد يكون أقرب -والله تعالى أعلم- أن يقال: إنما وضع من أجل أن يُتعاطى على وجه الإسكار فيحرم ويجب إراقته ولا يجوز إبقاؤه بحال من الأحوال، ولا إهداؤه ولا بيعه ولا غير ذلك، وأما ما وضع على وجه آخر فإنه لا يقال: إنه يحرم تعاطيه على ذلك الوجه الذي وضع له ولو كان إن استعمله أحد أسكره فإنه لم يوضع لهذا أصلاً كما يقال في أنواع من المصنوعات والمنتجات والأشياء كالغراء ونحوه فهي لم توضع من أجل أن تكون مسكرة لكن لو تعاطاها الإنسان بأكل أو شرب أو شم أو غير ذلك فقد يسكر، فلا يقال: إنها تحرم، والله تعالى أعلم، وإنما ما وضع لهذا المعنى - يعني ليؤكل أو ليشرب أو يشم أو يكون عن طريق إبر أو نحو ذلك للإسكار - فهذا يحرم اقتناؤه ويحرم تعاطيه ويحرم إهداؤه وبيعه وصناعته، وإلا فهل يقال لمن يصنع الصمغ مثلاً - حيث إن بعض أنواعه يسكر - : إنه ملعون كما لعنت الخمر وحاملها والمحمولة إليه؟ وهل يقال لهؤلاء الذين يصنعون البنزين: إنهم ملعونون وكذا حامله والمحمول ومشتريه وبائعه؟ يعني أن الله لعن في الخمر عشرة والبنزين يسكر – أيضاً - فهل يقال فيه هذا؟ وإذا أصاب البنزين ثوبك فمعنى ذلك أنك تحتاج إلى غسل الأثر، فهل يقال هذا؟!
المقصود أن نجاسة الخمر نجاسة معنوية وليست حسية، وإنما يحرم بيع وتصنيع ما عمل لهذا الغرض وما عداه فلا يحرم، لكن لو أن أحداً تعاطى تلك الأشياء على وجه الإسكار فهذا يحرم قطعاً بلا مرية، والله تعالى أعلم.
"لعلَّ" في جميع المواضع في القرآن يمكن أن تفسر بأنها للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وبهذا ينحل الإشكال؛ لأن أصل "لعل" للترجي والله لا يترجى، ولو فسرت للترجي يمكن أن يُخرّج هذا على وجه معروف وهو أن الخطاب قد يرد مراعىً فيه حال المخاطب، كما في قوله تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] أي على رجائكما، وهذا له أنواع كثيرة، والله أعلم.
- أخرجه النسائي في كتاب الطهارة - باب الرخصة في الاستطابة بحجرين (42) (ج 1 / ص 39) وأحمد (3966) (ج 1 / ص 418) وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم (42).