وعن عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] فقال النبي ﷺ : قيل لي: أنت منهم وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريقه[2].
في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة المائدة:93] ثم بعد ذلك كرره ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثم كرر أيضاً فقال: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ [سورة المائدة:93] ذكر هذا ثلاث مرات، فمن أهل العلم من يقول: هذا للتوكيد، ومنهم من يجعل ذلك بحسب الأزمنة الثلاثة، بمعنى أن قوله: اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ في الماضي، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ في الحاضر، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ في المستقبل.
ومعلوم أن التحليل والتحريم - بل التكليف عموماً - من شروطه بلوغ الخطاب والعقل، وهؤلاء الذين شربوا الخمر قبل نزول الحكم لا يتعلق بهم التحريم، ولهذا يقول الله : عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف [سورة المائدة:95] كما سيأتي في الكلام على الصيد، ويقول: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [سورة النساء:22] وما أشبه ذلك، فهذه من شروط التكليف.
ولما حرم الله الربا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:278-279].
وبعض أهل العلم يقول في قوله تعالى: إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة المائدة:93] أي: اتقوا المحرمات وعملوا الصالحات، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ يعني بعد التحريم اتقوا ما حرم عليهم، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ يعني ما حرم عليهم بعد ذلك التحريم؛ لأن الشريعة نزلت شيئاً فشيئاً حتى اكتملت، كما قال الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة:3] وكما جاء عن ابن عباس - ا - أن الله فرض عليهم الإيمان، ثم بعد ذلك زادهم الصلاة، فلما أذعنت قلوبهم زادهم الزكاة، ثم لما أذعنت قلوبهم زادهم، وهكذا حتى اكتمل الإيمان.
وبعضهم يقول: هذه الجمل الثلاث هي باعتبار المراتب الثلاث وهي المبدأ والوسط والمنتهى، وبعضهم يقول: هي بالنظر إلى ما يتقيه الإنسان ويجتنبه، فالمحرمات يتركها الإنسان من أجل اتقاء العذاب، والشبهات توقياً للحرام، ويتقي التوسع في المباحات حفظاً للمروءة؛ لأن التوسع فيها قد يذهب مروءته، وهذا لا يخلو من إشكال في تفسير الآية.
وبعضهم يقول: قوله: اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يعني اتقوا الإشراك وآمنوا بالله ورسوله، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ [سورة المائدة:93] يعني اتقوا الكبائر، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ [سورة المائدة:93] يعني اتقوا الصغائر، وهذا أيضاً لا يخلو من إشكال.
وعلى كل حال يمكن أن يقال: إن الأول لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] بتلقي أمر الله بمعنى أنهم كانوا محققين للإيمان منقادين لله - تبارك وتعالى - بقلوبهم وجوارحهم ويقبلون عن الله ويصدقون أحكامه ويعملون بطاعته.
وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] أي ثبتوا على إيمانهم وعلى تقواهم.
وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ أي تقربوا إليه بألوان القربات التي ترفعهم كألوان النوافل وتوقي المشتبهات وما أشبه ذلك مما يصل به الإنسان إلى درجة الإحسان.
هذا هو الأقرب في تفسير الآية وهو الذي قال به كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - والعلم عند الله .
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة المائدة (3050) (ج 5 / ص 254) وأحمد (2452) (ج 1 / ص 272) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3050).
- أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه - ا - (2459) (ج 4 / ص 1910).