الأحد 20 / ذو القعدة / 1446 - 18 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُۥٓ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلْغَيْبِ ۚ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٌ

المصباح المنير المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] وهذا تهديد وترهيب.


قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ [سورة المائدة:91] أي إنما حرمت هذه الأشياء من أجل هذا، فيدخل فيه سائر أنواع الألعاب التي تصد عن ذكر الله وتشغل عنه ولو لم يرد فيها النص بخصوصه، ولذلك فإن السلف نصوا على تحريم الشطرنج مع أن الحديث ورد في النرد سواء كان على سبيل اللعب من غير مال يدفعه الإنسان أو كان بمال، فالشطرنج يدخل فيه أيضاً غيره من الألعاب التي تلهي عن ذكر الله وتسبب العداوة والبغضاء والمشاحنات بين الناس فلا فرق بينها وبين هذه الأمور.

ذكر الأحاديث الواردة في بيان تحريم الخمر:
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله  ﷺ المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله ﷺ عنهما فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ إلى آخر الآية [سورة البقرة:219] فقال الناس: ما حرما علينا إنما قال: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب فخلط في قراءته فأنزل الله أغلظ منها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [سورة النساء:43] فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ منها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] قالوا: انتهينا ربنا، وقال الناس: يا رسول الله..


 هذا الترتيب في ذكر المراحل الثلاث هو المشهور وهو الذي تدل عليه الروايات خلافاً لمن قال: إن أول ما نزل في الأشربة – يعني الخمر - هو قوله تعالى: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا [سورة النحل:67] يقولون: امتن عليهم بها لشدة حبهم لها وكانت من مفاخرهم، والواقع أن قول الله  : سَكَرًا فسره كثير من السلف بأن المراد ليس المسكر فالله لا يمتن عليهم بالمسكر، وإنما المراد به ما يتخذ من العصير من هذه الثمرات، ولا يلزم من ذلك أن يكون على وجه الإسكار، وعلى هذا يكون الذي نزل في الخمر أولاً هو قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [سورة البقرة:219] ثم لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43] ثم بعد ذلك قوله: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] يعني على هذه المراحل الثلاث.

وقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وناس ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ [سورة المائدة:93] إلى آخر الآية، فقال النبي ﷺ : لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم انفرد به أحمد.

على كل حال هذا الجزء أو هذه الرواية في سبب النزول تدل على أن قوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ [سورة المائدة:93] فيمن لم يبلغه الحكم، أي أنه شربها ولم يبلغه الحكم أو أن ذلك كان قبل التحريم كما نزلت هذه الآية في هؤلاء الذين سألوا عمن قتل قبل تحريمها، وبهذا نعرف أنه لا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يحتج بهذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] على أنه يمكن أن يكون متقياً وهو يشرب الخمر، ومعلوم ما وقع من قدامة بن مظعون حينما كان في البحرين فشرب الخمر مع بعض أصحابه ثم شهد عليه أبو هريرة   وجماعة، وجيء به إلى عمر، أو دعاه عمر وهو من أهل بدر فاحتج بهذه الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ [سورة المائدة:93] فعمر بيّن وجه هذه الآية، وعلى كل حال أولئك تأولوا هذا التأويل، فبيّن لهم فرجعوا وتركوها، فليس لأحد أن يشربها محتجاً بمثل هذا، فإنه لا يكون متقياً إذا كان يفعل ما حرم الله عليه من هذه الآثام والكبائر.

وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [سورة البقرة:219]  فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43] فكان منادي رسول الله ﷺ إذا قال: حي على الصلاة نادى: لا يقربن الصلاة سكران، فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ قول الله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] قال عمر : انتهينا انتهينا، وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي[1].
وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله ﷺ : أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.

يعني في زمانهم كانت الخمر تصنع من هذه الأشياء، لكن هذه الجملة التي ختم بها "والخمر ما خامر العقل" تدل على أن كل ما يصنع مما يكون مسكراً فإنه داخل فيها، فألوان الثمرات في الدنيا صار الناس يصنعون منها الخمر كما يصنعونه من أشياء أخرى ليست من جملة المطعومات، فهذا كله داخل فيها ولا تختص بنوع دون نوع ولا بثمرة دون ثمرة، فالله إنما علق التحريم بهذا إِنَّمَا الْخَمْرُ [سورة المائدة:90] فكل ما خامر العقل فهو خمر وما خص به بعض هذه الأنواع، خلافاً لمن خصه ببعضها فأباح النبيذ المسكر، وعلى كل حال ذلك قول قد انقرض قائلوه فلم يعرف من يقول بهذا اليوم، والله تعالى أعلم.

وروى البخاري عن ابن عمر - ا - قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربه ما فيها شراب العنب.
حديث آخر: روى الإمام أحمد عن أنس قال: "كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبيَّ بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفراً من أصحابه عند أبي طلحة حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آتٍ من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حُرِّمت؟، فقالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس اسكب ما بقي في إنائك، فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر وهي خمرهم يومئذ" [أخرجاه في الصحيحين].
وفي رواية عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حُرِّمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي، قال: اخرج فانظر، فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت فجرت في سكك المدينة، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها فهرقتها فقالوا أو قال بعضهم: قتل فلان وفلان وهي في بطونهم قال: فأنزل الله:لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ الآية [سورة المائدة:93].

كان من عادتهم وهي عادة العرب حتى في الجاهلية أنهم كانوا يشربون الخمر إذا أرادوا الحرب، وقد ذُكرت بعض منافعها عند الكلام على قوله - تبارك وتعالى - : قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا [سورة البقرة:219] ومما ذكر من جملة منافعها أن الجبان يتشجع في الحرب وذُكر هذا كثيراً في أشعارهم من أنه إذا شربها فإنه لا يبالي بشيء مما يلاقيه أمامه من العدو، وذكروا من جملة فوائدها - قبحها الله - أن البخيل يجود وربما أتلف ماله وهو لا يُخرج شيئاً في حال الصحو، لكن هذه منافع ضئيلة في مقابل مفاسدها الكثيرة.

وروى ابن جرير عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء حتى مالت رءوسهم من خليط بسر وتمر، فسمعت منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرِّمت، قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا وأصبنا من طيب أم سُليم - ا - ثم خرجنا إلى المسجد فإذا رسول الله ﷺ يقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] فقال رجل: يا رسول الله فما ترى فيمن مات وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ الآية [سورة المائدة:93] فقال رجل لقتادة: أنت سمعته من أنس بن مالك؟ قال: نعم، وقال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله ﷺ قال: نعم، أو حدثني من لم يكذب وما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب.
حديث آخر: روى الإمام أحمد عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ : لُعِنَت الخمر على عشرة أوجه لعنت الخمر بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحمالها والمحمولة إليه وآكل ثمنها ورواه أبو داود وابن ماجه[2].
وروى أحمد عن ابن عمر - ا - قال: خرج رسول الله ﷺ إلى المربد فخرجت معه فكنت معه فكنت عن يمينه.
قوله: "إلى المربد" المربد يطلق على المكان الذي تُجمع فيه الغنم أو الإبل، ويقال أيضاً للمكان الذي يجمع فيه التمر.
فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه، فكان عن يمينه وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره، فأتى رسول الله ﷺ المربد، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر: فدعاني رسول الله ﷺ بالمدية.
قوله: "فإذا بزقاق على المربد" يعني ظرفاً أي وعاء من جلد أراد النبي ﷺ أن يشقه.
قال ابن عمر: وما عرفت المدية إلا يومئذ، فأمر بالزقاق فشقت، ثم قال: لعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحمالها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها[3].
حديث آخر: روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن سعد قال: أنزلت في الخمر أربع آيات، فذكر الحديث، قال: وصنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا، فشربنا الخمر قبل أن تحرَّم حتى انتشينا فتفاخرنا فقالت الأنصار: نحن أفضل، وقالت قريش: نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لَحْى جزور فضرب به أنف سعد ففزره وكان أنف سعد مفزوراً فنزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [سورة المائدة:90] إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] أخرجه مسلم[4].
حديث آخر: روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: إن هذه الآية التي في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] قال: هي في التوراة "إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب والمزامير والزفن والطنابير والشعر..".


الأحاديث السابقة كلها أحاديث صحيحة، وهي إما صحيحة بذاتها وإما بطرقها أو شواهدها، وأقل ذلك ما كان من قبيل الحسن لغيره، والمختصر ينتقي، لكن هذه الرواية التي جاء بها هنا هي من رواية عبد الله بن   عمرو بن العاص - ا - وقد كان يقرأ في كتب أهل الكتاب، ومعلوم أنه في وقعة اليرموك حصل زاملتين فكان يقرأ منهما ويحدث بذلك.
يقول -أي في التوراة-: "أنزل الله الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب" اللعب يعني اللعب الباطل، وعلى كل حال النبي ﷺ قال: كل شيء من لهو الدنيا باطل [5] ثم استثنى الثلاث، وكلمة "باطل" في الحديث لا تعني التحريم، فاللعب منه ما هو محرم، ومنه ما يذم الإكثار منه كما قال الشاطبي    - رحمه الله - ؛ لأن الإكثار من المباحات والتوسع فيها كالإكثار من اللعب أو التنزه يُذهب المروءة وترد شهادة من فعل ذلك، وتسقط به عدالته - يعني مَن أكثر من اللعب حتى عُرف به - وهناك لعب محرم أيضاً.
يقول: "يبطل به اللعب والمزامير والزَّفْن" المزامير يعني المعازف، والزفن يعني الرقص، والكَبَارات يعني الطبول سواء كان مغطىً من الوجهين أو من وجه واحد، ولهذا إذا قال المؤذن الله أكبار – بزيادة الألف - فإن المعنى يتحول فبدلاً من أن يكون المعنى "الله أكبر" صار شيئاً آخر، فالكَبَر هو الطبل، فالكَبَارات تقال للطبول في كلام العرب والبَرابِط آلة موسيقية توضع على الصدر مثل العود، والزَّمَّارات معروفة فهي قصبة مثقوبة تصدر صوتاً إذا نفح فيها، والمقصود أن هذه الأنواع من الملاهي والمعازف كلها محرمة فهي تصد عن ذكر الله وتشغل عنه، ولهذا قال الله  : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [سورة لقمان:6] وكلام ابن مسعود في هذا معروف حيث قال: "والذي لا إله غيره إنه الغناء" وأبو بكر حينما دخل بيت رسول الله ﷺ وجد الجاريتين تضربان بالدف – أي بنتين صغيرتين - ومع ذلك قال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ﷺ؟ فما أنكر عليه النبي ﷺ الحكم أنه مزمور الشيطان وإنما بيّن له علة استُثني فيها هذا، فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد [6]فالمقصود أن النبي ﷺ أقره على أن هذا مزمور الشيطان، فمن أين عُرف هذا؟
في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11] ذُكر في سبب النزول أن عيراً أتت لدحية بن خليفة الكلبي قبل إسلامه فضرب بين يديها بالطبل إيذاناً بقدوم العير كما كانت عادة الناس إذا قدمت العير، وهذا الرجل ما كان من المسلمين، وقد يكون هذا حصل قبل تحريم المعازف، قال تعالى: انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11] أي إلى عير التجارة، فالمقصود أن الله سمى هذا لهواً، فهذا وغيره يدل على أن هذه المعازف بجميع أنواعها من الباطل وأنها لا تجوز إلا في حالتين فقط: الأولى: في العيد لقوله - عليه الصلاة والسلام - : دعهما فإنها أيام عيد، والثانية: في الزواج كما في حديث عائشة: "هلا بعثتم معهم بلهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو، أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف" والمراد بإباحته في النكاح أنه يباح في اليوم الذي يعلن فيه النكاح وليس دائماً، وكذلك قولنا في العيد يعني في يوم عيد الفطر فقط - يوم واحد وليس ثلاثة أيام - أما في عيد الأضحى - العيد الأكبر - فهناك ثلاثة أيام بعده كلها أيام عيد بنص حديث رسول الله ﷺ وأما ما عدا أيام العيد والنكاح فلا يجوز، وهذه قضية لا يكاد ينازع فيها أحد من أهل العلم لكن في هذا الوقت - وقت الفتن التي تموج بالناس - تجد من يكتب أن اللحية لا يجب إعفاؤها ويجوز حلقها، وربما قال بعضهم يستحب حلقها، والمعازف مباحة ومع أن الحديث في الصحيح: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف[7] فتجده يضعفه، لكن مثل هؤلاء لا تُشترَى كُتبهم ولا يلتفت إلى كلامهم ولا يُشتغل بهم، وينبغي لطالب العلم أن ينأى بنفسه عن الشذوذات؛ لأنه حتى لو كان الإنسان يعتقد هذا فليس من المصلحة إخراج هذا في زمن اضطرب فيه الناس غاية الاضطراب وصاح بهم الشيطان حتى زلزلهم عن كثير من ثوابتهم وعقائدهم وقال لهم: كل ما تعلمتموه عبر هذه العقود الطويلة لا تسمعون فيه غير إنه حرام!!.
إباحة الضرب بالدف خاص بالنساء:
إباحة الضرب بالدف في العيد وعند إعلان النكاح إنما هو للنساء فقط، لكن إذا وصل صوت الدف إلى الرجال بسبب قربهم فإن الرجال لا يطالبون بالانتقال إلى مكان حيث لا يسمعون فيه، وكذلك إذا جاءت الجارية في البيت لتضرب بالدف وأهل البيت من الرجال موجودون فلا يطلب منهم الخروج، وكذا لو ضربت فيه المرأة من محارمهم فلا إشكال في هذا، لكن المقصود أن ذلك لا يكون للرجال، ولذلك عندما يأتون في الأعراس بشريط فيه رجال يضربون بالدف وينشدون فإنه يقال: ليس لهم هذا أصلاً وإذا كان هذا لا يجوز لهم فليس لكم سماع هذا الباطل؛ لأن فعلهم هذا منكر، فليس للنساء أن يأتين بصوت رجل ينشد ويضرب بالدف في العيد أو في الزواج ثم يقال: إنما الدف للنساء، فهذا هو الفرق؛ لأنه إذا كان فعل الرجل هذا محرم -وهو الإنشاد مع ضربه بالدف- فليس لأحد من الرجال ولا النساء أن يسمع هذا الباطل وإنما يرخص فيه للنساء بمعنى أن يضربن بالدف في هذه الحالات فقط، والله أعلم.

والطنابير والشعر، والخمر مرة لمن طعمها، أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعدما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه في حظيرة القدس، وهذا إسناد صحيح.


هو إسناد صحيح إلى عبد الله بن عمرو، لكنه متلقَّى من كتبهم الإسرائيلية – من التوراة - وهذه دخلها التحريف إلا أن هذا في الجملة يوافق ما في القرآن.

حديث آخر: قال الشافعي - رحمه الله - : أنبأنا مالك عن نافع عن ابن عمر - ا - أن رسول الله ﷺ قال: من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة أخرجه البخاري ومسلم[8].
وروى مسلم عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ : كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة[9]


هذه الأحاديث وردت في خصوص شارب الخمر، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن من تعاطى شيئاً من الشهوات المحرمة فإنه يُحرم نظيره في الآخرة، وهذا مشى عليه ابن القيم - رحمه الله - ولم يقتصر فيه على ما ورد فيه النص، إلا أن هذا لا يخلو من إشكال؛ لأن مثل هذه الأمور إنما تتلقى من الوحي ولا يدخلها القياس، لكن لا شك أن من تعاطى هذه الشهوات فإنها تنقص مرتبته في الآخرة، بل حتى التوسع في المباحات شأنها كذلك على قول بعض السلف كعمر حيث كان يتأول في ذلك قول الله  : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [سورة الأحقاف:20] مع أن المشهور أن تعاطي المباحات في الدنيا لا ينقصه عند الله - تبارك وتعالى - إذا أدى حق الله عليه فلم يكن مضيعاًَ، وهما قولان للسلف معروفان، ومن أراد أن يستزيد في تعاطي المباحات هل يؤثر أم لا فليراجع كتاب الموافقات في الكلام على المباح حيث ذكر مذهب عمر وما نقل عنه في هذا، ومن وافقه من السلف.

وعن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجلٌ فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت: إنا ندعوك لشهادة، فدخل معها فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع عليَّ، أو تقتل هذا الغلام، أو تشرب هذا الخمر، فسقته كأساً فقال: زيدوني فلم يَرِم حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه" [رواه البيهقي وهذا إسناد صحيح] وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه ذم المسكر مرفوعاً، والموقوف أصحُّ والله أعلم.

وروى أحمد بن حنبل عن ابن عباس - ا - قال: لما حرمت الخمر قال ناس: يا رسول الله أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إلى آخر الآية [سورة المائدة:93] ولما حوِّلت القبلة قال ناس: يا رسول الله، إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143][10].
وعن عبد الله بن مسعود  أن النبي ﷺ قال لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] فقال النبي ﷺ : قيل لي: أنت منهم وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريقه[11].

في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة المائدة:93] ثم بعد ذلك كرره ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثم كرر أيضاً فقال: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ [سورة المائدة:93] ذكر هذا ثلاث مرات، فمن أهل العلم من يقول: هذا للتوكيد، ومنهم من يجعل ذلك بحسب الأزمنة الثلاثة، بمعنى أن قوله: اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ في الماضي، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ في الحاضر، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ في المستقبل.
ومعلوم أن التحليل والتحريم - بل التكليف عموماً - من شروطه بلوغ الخطاب والعقل، وهؤلاء الذين شربوا الخمر قبل نزول الحكم لا يتعلق بهم التحريم، ولهذا يقول الله  : عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف [سورة المائدة:95] كما سيأتي في الكلام على الصيد، ويقول: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [سورة النساء:22] وما أشبه ذلك، فهذه من شروط التكليف.
ولما حرم الله الربا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:278-279].
وبعض أهل العلم يقول في قوله تعالى: إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة المائدة:93] أي: اتقوا المحرمات وعملوا الصالحات، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ يعني بعد التحريم اتقوا ما حرم عليهم، وقوله:ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ يعني ما حرم عليهم بعد ذلك التحريم؛ لأن الشريعة نزلت شيئاً فشيئاً حتى اكتملت، كما قال الله  : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة:3] وكما جاء عن ابن عباس - ا - أن الله فرض عليهم الإيمان، ثم بعد ذلك زادهم الصلاة، فلما أذعنت قلوبهم زادهم الزكاة، ثم لما أذعنت قلوبهم زادهم، وهكذا حتى اكتمل الإيمان.
وبعضهم يقول: هذه الجمل الثلاث هي باعتبار المراتب الثلاث وهي المبدأ والوسط والمنتهى، وبعضهم يقول: هي بالنظر إلى ما يتقيه الإنسان ويجتنبه، فالمحرمات يتركها الإنسان من أجل اتقاء العذاب، والشبهات توقياً للحرام، ويتقي التوسع في المباحات حفظاً للمروءة؛ لأن التوسع فيها قد يذهب مروءته، وهذا لا يخلو من إشكال في تفسير الآية.
وبعضهم يقول: قوله: اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يعني اتقوا الإشراك وآمنوا بالله ورسوله، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ [سورة المائدة:93] يعني اتقوا الكبائر، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ [سورة المائدة:93] يعني اتقوا الصغائر، وهذا أيضاً لا يخلو من إشكال.
وعلى كل حال يمكن أن يقال: إن الأول لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] بتلقي أمر الله  بمعنى أنهم كانوا محققين للإيمان منقادين لله  - تبارك وتعالى - بقلوبهم وجوارحهم ويقبلون عن الله ويصدقون أحكامه ويعملون بطاعته.
وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] أي ثبتوا على إيمانهم وعلى تقواهم.
وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ أي تقربوا إليه بألوان القربات التي ترفعهم كألوان النوافل وتوقي المشتبهات وما أشبه ذلك مما يصل به الإنسان إلى درجة الإحسان.
هذا هو الأقرب في تفسير الآية وهو الذي قال به كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - والعلم عند الله .

  1. أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة – باب في تحريم الخمر (3672) (ج 3 / ص 364) والنسائي في كتاب الأشربة - باب تحريم الخمر قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] (5540) (ج 8 / ص 286) وأحمد (378) (ج 1 / ص 53) وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم (5540).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة - باب العنب يعصر للخمر (3676) (ج 3 / ص 366) وابن ماجه في كتاب الأشرية - باب لعنت الخمر على عشرة أوجه (3380) (ج 2 / ص 1121) وأحمد (4787) (ج 2 / ص 25) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (3380).
  3. أخرجه أحمد (5390) (ج 2 / ص 71) وقال شعيب الأرنؤوط: حسن والمرفوع منه صحيح بطرقه وشواهده.
  4. أخرجه أحمد (1614) (ج 1 / ص 185)  والبيهقي (17788) (ج 8 / ص 285) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن، وبعض هذا الحديث في صحيح مسلم مختصراً في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (1748)  (ج 4 / ص 1876).
  5. أخرجه الطبراني في الأوسط (5309) (ج 5 / ص 278) وفي الكبير (1309) (ج 20 / ص 44) والحاكم (2468) (ج 2 / ص 104).
  6. أخرجه البخاري في كتاب العيدين – باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى (944) (ج 1 / ص 335) ومسلم في كتاب صلاة العيدين -  باب الرخصة في اللعب الذي لامعصية فيه في أيام العيد (892) (ج 2 / ص 607).
  7. أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الأشربة - باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (5268) (ج 5 / ص 2123) وابن حبان (6754) (ج 15 / ص 154) والطبراني في الكبير (3418) (ج 3 / ص 282) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5466).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الأشربة (5253) (ج 5 / ص 2119) ومسلم في كتاب الأشربة - باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة (2003) (ج 3 / ص 1587).
  9. أخرجه مسلم في كتاب الأشربة - باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام (2003) (ج 3 / ص 1587).
  10. رواه أحمد، (2450)، (ج4/ ص 264).
  11. رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، فضائل عبد الله بن مسعود وأمه، (2459)، (ج4/ ص 1910).

مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة المائدة:94-95].
قال الوالبي عن ابن عباس قوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه.
وقال مجاهد: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ [سورة المائدة:94] يعني صغار الصيد وفراخه وَرِمَاحُكُمْ يعني كباره.
وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94].


فقوله - تبارك وتعالى - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ [سورة المائدة:94] ذهب بعض أهل العلم - كالإمام مالك - رحمه الله - إلى أن هذا الخطاب للمُحلِّين، وكان ذلك في عام الحديبية، ومعلوم أن الصيد يحرم على المحرم سواء كان ذلك في أرض الحرم أو في غيره، وأما غير المحرم فإنه يشترك مع المحرم في التحريم إذا كان في أرض الحرم - في حدود الحرم - والحديبية منها ما هو في الحرم ومنها ما هو في الحل، فالمقصود أن الإمام مالك ذهب إلى أنها في المُحلِّين، وكان ذلك في عام الحديبية، وعلى كل حال فالخطاب عام لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ [سورة المائدة:94] فهو لا يختص بالمُحلِّين، ويمكن أن يقال: إنه أيضاً لا يختص بالمحرمين، كما ذهب إليه كثير من أهل العلم، بل هو حيث يحرم الصيد، سواء كان ذلك لحالٍ تلبّس بها العبد - وهي الإحرام - أو كان ذلك لمحل دخله - وهو أرض الحرم - فحيث ما حرم عليه الصيد في حال أو محل فإنه مخاطب بهذا.
وقوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] يدل على قرب الصيد منهم، ودنوّه بحيث إنه يكون قريب المأخذ، هذا هو المراد والله تعالى أعلم، وهذا ابتلاء وامتحان كما قال الله: لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فاللام للتعليل، فالله ابتلاهم بذلك كما جاء في الرواية التي عن مقاتل "فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم" وهذا أحسن من أن يُخص ما تناله اليد بالبيض كبيض النعام مثلاً والفراخ التي لا تستطيع أن تنأى بنفسها عمن أرادها، والذي تناله الرماح ما عدا ذلك، فالصيد يكون قريباً منهم يبتليهم الله به، والنبي ﷺ في طريقه إلى مكة مر بظبي حاقف يعني قد مال رأسه على جنبه فنهاهم عن أن يريبوه وأوقف عنده رجلاً[1]وهم على كثرتهم ما رابه أحد ولا اعتدى عليه أحد، وهذا من فضل الله على هذه الأمة فقد ابتلاهم في بعض المناسبات بخوف وطمع كما ابتلى بني إسرائيل بخوف وطمع حيث أمرهم بدخول قرية الجبارين فقالوا: يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] وابتلاهم بطمع في القرية التي كانت حاضرة البحر فكانت تتهافت عليهم الحيتان في يوم السبت، فلم يحجزهم التحريم عن التعدي في يوم السبت، فحملهم القَرَمُ على تعدي حدود الله والاصطياد في ذلك اليوم الذي حرم عليهم الاصطياد فيه، وأما هذه الأمة فابتلاهم بطمع كما في هذا المقام فما تعدى منهم أحد، وابتلاهم بخوف كما في يوم بدر حيث سألهم النبي ﷺ فقالوا له: لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، بل نقول: إنا معك مقاتلون نقاتل عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك.
فالحاصل أن قوله: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [سورة المائدة:94] يشمل هذا جميعاً فيكون قريباً منهم في متناول اليد، والله تعالى أعلم.

لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة الملك:12].
وقوله هاهنا: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ [سورة المائدة:94] قال السدي وغيره: يعني بعد هذا الإعلان والإنذار والتقدم، فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:94] أي: لمخالفته أمر الله وشرعه.
  1. أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج – باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد (2818) (ج 5 / ص 182) وأحمد (15782) (ج 3 / ص 452) وقال الألباني: صحيح الإسناد.

مرات الإستماع: 0

"لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ [المائدة: 94] أي: يختبر طاعتكم من معصيتكم، بما يظهر لكم من الصيد مع الإحرام، وفي الحرم [وفي النسخ: أو في الحرم] وكان الصيد من معاش العرب [وفي النسخ: من معايش العرب]".

مع الإحرام، وفي الحرم، وكان الصيد من معاش العرب، ومن معايش العرب، كل هذا لا إشكال فيه.

"وكان الصيد من معاش العرب، ومستعملاً عندهم، فاختبروا بتركه، كما اختبر بنو إسرائيل بالحوت في السبت، وإنما قلّله في قوله: بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ إشعارًا بأنه ليس من الفتن العظام، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها".

لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ في حال الإحرام، أو في الحرم، وبعض أهل العلم كالإمام مالك قال: إن الخطاب هنا: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ كان هذا الخطاب للمحلين في عام الحديبية[1] والحديبية بعضها في الحرم، وبعضها في الحل، وقال ابن عباس: للمحرمين[2] والأقرب - والله أعلم - أنها للعموم، فهو خطاب لأهل الإيمان، فسواءً كان محلاً في الحرم فلا يحل له أن يصيد من صيد الحرم، أو كان محرمًا فلا يحل له الصيد لا في الحرم، ولا خارج الحرم، للإحرام، هكذا يبدو - والله تعالى أعلم -.

"قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ [المائدة: 94] قال مجاهد: الذي تناله الأيدي الفراخ، والبيض، وما لا يستطيع أن يفرّ، والذي تناله الرماح كبار الصيد[3] والظاهر عدم هذا التخصيص".

تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ يقول مجاهد: "الذي تناله الأيدي: الفراخ، والبيض" قال: "وصغار الصيد" يعني مما لا يستطيع أن يفر.

وجاء عن ابن عباس - ا - : الضعيف من الصيد، وصغيره[4] والذي تناله الرماح: كبار الصيد، والظاهر عدم هذا التخصيص، فمعنى: تناله أيديكم، ورماحكم: أنه من القرب بمكان بحيث تناله الأيدي، أو الرماح، يعني يحوم حولهم، والعادة أن الوحشي يفر، فهذا يحوم حولهم بحيث تناله أيديهم، ورماحهم، وهذا يحصل أحيانًا ابتلاءً، ويحصل في غير الحرم، ولغير المحرم، في البلاد التي ما اعتاد الصيد أن يتعرض له أحد، فتجد أن هذه الصيود لا سيما في الليل واقفة لا تتحرك حركةً تذكر، ويأتي الإنسان بجانبها، ويكاد يأخذ ذلك بيده، وهي من كبار الصيد، من الظباء، ونحوها، يعني ليس بينك، وبينها إلا أقل من متر، وهي لا تذهب، ولا تتحرك؛ لأنها ما اعتادت أن يتحرك لها أحد أصلاً.

فهذا ابتلاء من الله - تبارك، وتعالى - لهم، كما ابتُلِيَ بنو إسرائيل في الصيد في يوم السبت، فيوم السبت تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف: 163] فلم يصبروا، ويثبتوا مع هذا الابتلاء، وأصحاب النبي ﷺ ثبتوا، مر بظبيٍ حاقف، يعني: قد مال عنقه إلى جنبه، فقال: لا يريبه أحد[5] فلم يتعرض له أحد، مع أن النفوس إذا رأت الصيد في بلاد العرب فإنها لا تتمالك، ومع ذلك لم يتعرض له أحد، وهو في غاية الإغراء. 

وخص الأيدي في قوله: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ باعتبار أنها أعظم تصرفًا في الاصطياد، وفيها تدخل الجوارح، والحبالات، وما عُمِل باليد من شباك، وفخاخ، ويدخل في ذلك السهم، ونحوه، وهذا المعنى ذكره بعض أهل العلم كابن عطية[6] وغيره، فالمعنى يكون أوسع من مجرد القبض باليد، فكل ما يكون عن طريق اليد من جوارح الكلاب، والصقور، ونحو ذلك، وكذلك أيضًا ما يُنصَب، ويُوضَع من الشباك، ونحوها، والرماح يدخل في وقتنا هذا الرمي بهذه الآلات، والأسلحة الحديثة.

وبعضهم يقول: عبّر بالأيدي، والرماح؛ ليشمل الصيد القريب، والبعيد، وهذا يرجع إلى معنى ما سبق إلى حدٍ ما، فبعضٌ من الصيد يُتناول بالأيدي لقرب غشيانه، حتى تتمكن منه اليد، وبعضٌ منه يُنَال بالرماح لبعده، وتفرقه.

وبعضهم يقولون: عبّر بقوله: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ للدلالة على غاية قرب الصيد، وكأن هذا هو التي يُشعِر به ظاهر الآية؛ لأن الله قال: لِيَعْلَمَ فهو ابتلاء على غير العادة، حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه، وبهذا يقع الابتلاء، ويغشاهم في رحالهم، ويتمكنون من أخذه بالأيدي، والرماح؛ ليظهر من يطيع، ويعصي.

"قوله: لِيَعْلَمَ اللَّهُ [المائدة: 94] أي: يعلمه علمًا تقوم به الحجة؛ وذلك إذا ظهر في الوجود".

فمثل هذا الذي يُعلَق بعلم الله في المستقبل لِيَعْلَمَ اللَّهُ كذا، فالمقصود به دائمًا العلم الذي يترتب عليه الجزاء، يعني علم الوقوع، فالله يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لكن الله لا يُحاسِب الناس بمقتضى علمه، وإنما إذا وقع ذلك منهم، فهذا علم الوقوع الذي يترتب عليه الجزاء.

"قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى [المائدة: 94] أي: بقتل الصيد، وهو محرم".

يعني اعتدى بعد هذا الإنذار.

"والعذاب الأليم هنا في الآخرة".

ومقاتل بن حيان يقول: إن هذه الآية نزلت في عمرة الحديبية - كما سبق - يقول: فكانت الوحش، والطير، والصيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله، وهم محرمون[7] يعني حتى الطير، وهذا لا يُستَغرب أولاً لأنه ابتلاء، وأيضًا كما ذكرت لكم: أن في البلاد غير بلاد العرب ما اعتاد الصيد أن يُتعرَض له، يعني تجلس في مكان، والطيور التي يذهب الناس، ويُسافِرون من أجل صيدها بجوارك، وتحوم بكثرة، وهذا شاهدته، ولم أكن متتبعًا للصيد، ولا مسافرًا له، لكن شاهدته، وشاهدت كبار الصيد من الظباء، ونحوها تنالها الأيدي، وليس في الحرم، ولا في الإحرام، وإنما في بلاد أخرى، وليست في أماكن حدائق حيوانات مفتوحة، ولا غيرها، وإنما في الفلوات، والصيد يحوم، والطيور تحوم، وكذلك كبار الصيد تنالها الأيدي، وبكثرة، هذا في الليل، وأما في النهار فتجدها على بعد مائة متر، ونحو ذلك بكثرة، فلا يُستغرَب مثل هذا، لا سيما أن الذي وقع هنا في هذه الآية ابتلاء.

  1.  البحر المحيط في التفسير (4/361).
  2.  المصدر السابق.
  3.  المصدر السابق (4/362).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/584).
  5.  أخرجه بهذا اللفظ مالك في الموطأ رواية أبي مصعب الزهري برقم: (1139)، وهو عند أحمد بنحوه، ط الرسالة برقم: (15450)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  6.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/236).
  7.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/190).