الأحد 20 / ذو القعدة / 1446 - 18 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقْتُلُوا۟ ٱلصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًۢا بَٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّٰرَةٌ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِۦ ۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:95] وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ونهي عن تعاطيه فيه، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور[1].
وعن ابن عمر - ا - أن رسول الله ﷺ قال: خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور[2].
ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر - ا - مثله، قال أيوب: فقلت لنافع: فالحية؟، قال: الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها، وألحق بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد؛ لأنها أشد ضرراً منه أو لأن الكلب يطلق عليها، فالله أعلم.

الكلب له إطلاقان، له إطلاق متبادر وهو الكلب المعروف، والأصل: أن يحمل مثل هذا الخطاب على الظاهر المتبادر، وقد يطلق بإطلاق أوسع من هذا وهو عند العرب يدخل فيه ما ذكر، كالذئب والنمر والأسد والفهد وما أشبه ذلك، ويدل على هذا: الحديث الذي قال فيه النبي ﷺ : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك[3] فعدا عليه الأسد، فهو كلب بهذا الاعتبار، ولذلك فإن بعض من ذكر أسماء الكلب ذكر منها كل هذه الأشياء وقال: إن أبا العلاء المعري - وهو رجل أعمى البصر والبصيرة ولكل مسمى له من اسمه نصيب - كان يمشي في المسجد فعثر برِجْل رجلٍ نائم في المسجد فقال النائم: من هذا الكلب فقال: الكلب الذي لا يعرف للكلب سبعين اسماً، فالسيوطي لما رأى هذا ألف رسالة سماها "التبري من معرة المعري" فجمع للكلب مائة اسم ثم نظمها، فله رسالة في هذا، وذكر من أسماء الكلب الذئب والأسد والنمر، وذكر هذه الأشياء جميعاً، فهي عند العرب بهذا الاعتبار، وأما أهل علم الحيوان المعاصر فعندهم فصيلة الكلبيات لا يدخلون فيها الأسد مثلاً؛ لأنه عندهم من فصيلة السنوريات، وعلى كل حال لا عبرة بهذه الاصطلاحات الجديدة، لكن الكلام يحمل على الظاهر المتبادر.
والمقصود بالعقر في قوله: الكلب العقور أي الذي يعدو على الناس فيعقرهم، وما كان فيه هذا المعنى، بمعنى أنه يعدو فيفسد ويضر فإنه يلحق به، والله تعالى أعلم.

قال: وعن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه سئل عما يقتل المحرم؟ فقال: الحية والعقرب والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور والحدأة والسبع العادي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث حسن[4].
وقوله تعالى: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ  [سورة المائدة:95] قال مجاهد بن جبر: المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد الناسي لإحرامه، فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه فذلك أمره أعظم من أن يكفِّر وقد بطل إحرامه، وهو قول غريب والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه.

هذا القول الذي ذكره عن مجاهد هو في غاية الغرابة حيث يقول: إن المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد الناسي لإحرامه، يعني أنه قصد قتله وليس حاله كمن أراد أن يقتل كلباً عقوراً يطارد الظباء مثلاً، فأصاب ظبياً فهذا بالخطأ وقد ينسى أنه محرم ويقتل الصيد، ففي هذه الحال يكون وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ [سورة المائدة:95] لكن إذا كان ذاكراً لإحرامه - فعند مجاهد - الأمر يختلف فهو يرى أن الإحرام قد بطل، وهذا قول في غاية الغرابة، فارتكاب محظورات الإحرام وقتل الصيد لا تبطل الإحرام وإنما يبطله الجماع فقط.
وجمهور أهل العلم يقولون في قوله: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا [سورة المائدة:95] مفهوم المخالفة لهذا الشرط غير معتبر، أي من قتله متعمداً ومن قتله غير متعمد، فإنْ قتَله غير متعمد كأن يكون قتله خطأ أو قتله متعمداً؛ لأنه قد نسي إحرامه فعليه الجزاء ولا إثم عليه؛ لأنه لا يؤاخذ بالخطأ والنسيان، وإنْ قتله متعمداً ذاكراً للإحرام فإنه في هذه الحال يكون عليه الجزاء ويأثم، فهذا الجزاء ليس بكفارة، وهذا المعنى أكده ابن جرير وقوّاه، وقال: هذا ليس من باب الأمور المكفِّرة خلافاً لما جاء في الحدود بأنها كفارات..الخ، فالحاصل أن هذا عندهم من قبيل الجناية التي توجب العوض، والإثم يبقى بينه وبين الله .
وهناك قول آخر: وهو أن هذا الشرط وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا [سورة المائدة:95] هو قيد معتبر، ومفهومه أنه إن قتله من غير عمد فلا شيء عليه؛ لأن هذا القيد علق عليه الحكم، وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] مفهوم المخالفة إن قتله غير عامد فلا جزاء، هذا هو ظاهر القرآن، وهو الأقرب والله تعالى أعلم، وهذا القول منقول عن ابن عباس – ا - وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد خلافاً للأئمة الثلاثة، وبه قال جماعة كداود الظاهري وسعيد بن جبير وطاوس بن كيسان وأبي ثور، والحسن، وإبراهيم النخعي، وهو الذي رجحه ابن جرير الطبري، ومال إليه الشيخ محمد الأمين - رحمه الله - وعلى كل حال فمفهوم المخالفة حجة، لكن الذين قالوا: إنه هنا غير معتبر جعلوه أحد الأنواع السبعة أو الثمانية التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، ومنها أن يكون ذلك خرج مخرج الغالب، فإذا خرج مخرج الغالب فليس بمعتبر نحو قوله تعالى في المحرمات من النساء: وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ [سورة النساء:23] فلو كانت الربيبة ليست في حجره وإنما هي عند جدتها فإنها تحرم عليه أيضاً، إذاً قول الله  : وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ [سورة النساء:23] مفهوم المخالفة لهذه الآية أنها إن لم تكن في حجره فإنها تحل له لكن قالوا: هذا خرج مخرج الغالب، وهذا هو الراجح في هذه الآية، وذلك أن الغالب أن تكون مع أمها عنده فتحرم عليه، فإن كانت في مكان آخر – خلاف الغالب - فإنها تحرم عليه أيضاً.
وهنا في الصيد الذين قالوا: إن المفهوم غير معتبر، قالوا: إن قوله: مُّتَعَمِّدًا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الإنسان يعمد إلى قتل الصيد ويستفزه الصيد إذا رآه حيث إنه لا يتمالك ولا يصبر فينسى نفسه ويسرع إلى قتله، هذا هو الغالب، وقالوا: إن الصيد أحد وجوه المكاسب المعروفة عند العرب فهم يتطلبونه غاية التطلب بخلاف غيرهم من بعض الأمم الذين لا يشتغلون بالصيد، والله المستعان.

قال: والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه، وقال الزهري: دل الكتاب على العامد وجرت السنة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله: لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ [سورة المائدة:95] وجاءت السنة من أحكام النبي ﷺ وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ كما دل الكتاب عليه في العمد، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمد مأثوم والمخطئ غير ملوم.

الذين قالوا: إنه لا يضمن الصيد، قالوا: الإتلاف مضمون في حق الآدميين، فلو أن إنساناً صدم دابة إنسان، أي قتلها خطأً فإنه يضمن، ولو أتلف سيارته خطأً فإنه يضمن، فالخطأ لا يذهب معه الحق، لكن هذا يختلف، فهذا في حق الله وصاحب الحق يقول: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] أي فمن قتله غير متعمد فلا جزاء، هذا صاحب الحق جعل ذلك على العامد دون غيره، هذا جواب من قال: إن ذلك يختص بالعمد، والله أعلم.

قال: وفي قوله: فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] دليل لوجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي كما حكم به الصحابة.

قوله: فَجَزَاء مِّثْلُ مَا الراجح أن المثل ثم ما ذكر بعده أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [سورة المائدة:95] ليس للتخيير، وإنما ما كان له مثل فيجب فيه المثل وهذه المثلية إنما تكون لوجه من الشبه في الظاهر، ولهذا قالوا: الحمامة فيها شاة مع أنها ليست مثلها في الحجم، لكن قالوا: إنها عندما تشرب تعب الماء عباً، فهي تشرب بنفس الطريقة التي تشرب فيها الشاة فجعلوا فيها الشاة، وأما الدجاجة فطريقة شربها تختلف عن الحمامة فهي التي تقر الماء بأن تأخذه بمنقارها ثم ترفع رأسها حتى ينحدر، فالمقصود أن المثلية تكون لوجه من الشبه وليس للمطابقة، وهذا مما يستدل به على أن لفظة المثل لا تعني المطابقة من كل وجه في كل المواضع خلافاً للمشهور، فالمشهور أن الشبيه هو الذي يوجد بينه وبين مشابهه بعض وجوه التطابق أي يتطابق معه من بعض الوجوه فتقول: فلان يشبه فلاناً، وأما المثل فالمشهور أنه ما كان مطابقاً لنظيره، لكن المثل هنا في الآية فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [سورة المائدة:95] ليس المراد به المطابقة، ولذلك يقولون مثلاً: الوعل فيه بقرة، والنعامة فيها بدنة، والزرافة فيها بدنة مع أن الزرافة أكبر من البعير، والشاة أكبر من الحمامة والجدي أكبر من الضب، وهكذا.
وما حكم فيه الصحابة رُجع فيه إلى حكمهم، فقوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95] يعني من المسلمين، فيُرجع إلى أحكام الصحابة في هذا فيما حكموا فيه وما لم يحكم فيه الصحابة فإنه يحكم به اثنان من ذوي العدالة من المسلمين، وما ليس له مثل فإنه ينتقل إلى ما ذكر بعده أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [سورة المائدة:95] والمراد بالمساكين هنا يعني من مساكين الحرم، والعلماء اختلفوا في تقدير هذا الإطعام، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك باعتبار قيمة الصيد، لكن أيضاً اختلفوا في تحديد قيمة الصيد هل هو بسعره في ذلك المحل في ذلك اليوم؟، فقد يوجد في منطقة ما من يأكلون الصيود ولا يرفعون لها رأساً أو نحو ذلك فمثل هذا لو جاء الإنسان يبيع الصيد أو يشتريه فيمكن أن لا يباع ولا بريال وفي مكان آخر قد يباع بألف أو أكثر، فبعضهم قال: إنه يرجع في القيمة إلى المحل الذي هو فيه في يومه.
وقال بعضهم: بل يعرف ثمن الصيد الذي يستحقه فعلاً ثم يخرج بقدر ذلك من الطعام بحيث لو فرضنا أن قيمة الصيد تساوي خمسمائة ريال فإنه يشترى بهذا المبلغ برّاً أو أرزاً أو نحو ذلك ثم يُعطى للفقراء.
فإن عُدل إلى الصيام فيقدر هذا الذي قيمته خمسمائة ريال من البُّر بحيث لو فرضنا أن كيلو البُّر بريالٍ واحد فمعنى ذلك أن المطلوب منه خمسمائة كيلو كل مُد منه لمسكين، فإذا كان الصاع أربعة أمداد، والصاع كيلوان ونصف – كما في بعض التقديرات - فعلى هذا عليه أن يصوم يوماً عن كل مد، وعلى هذا سيحتاج إلى صيام مدة طويلة، فلا شك أن إخراج الطعام في هذه الحالة أسهل بكثير من الصيام.
وبعضهم قال: يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام، وهؤلاء كأنهم جعلوه كفدية الأذى، لكن نقول: هناك فرق بين جزاء الصيد وبين فدية الأذى، والله تعالى أعلم.

فإنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز، وأما إذا لم يكن الصيد مثلياً فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة، رواه البيهقي.

بالنسبة للثمن فالله قال: فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [سورة المائدة:95] أي أن هذا المثل يقرب إلى الكعبة، يعني يوصل به إلى أرض الحرم وليس المقصود بالكعبة البناء المعروف وإنما المراد إلى أرض الحرم فيذبح هناك ويوزع على فقراء الحرم كما يفعل بالهدي، لكن الطعام قال الله فيه: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [(95) سورة المائدة] ما قال: لفقراء الحرم، ولهذا قال بعضهم: يطعمه من حضره، كما يقال في فدية الأذى: إذا ذبح فإنه يذبح في مكانه، وكذلك المحصر في مكانه الذي أحصر فيه، وأما ابن عباس - ا - فيقول: إن الثمن والطعام يرسلان إلى الكعبة.

قال: وقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95] يعني أنه يحكم بالجزاء بالمثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من المسلمين.
وروى ابن جرير عن أبي جرير البجلي قال: أصبت ظبياً وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر.

قوله: "عن أبي جرير البجلي" أبو جرير هذا يروي عن عمر وعن بعض الصحابة، فهو غير جرير بن عبد الله البجلي الصحابي المعروف.

قال: فذكرت ذلك لعمر فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك، فأتيت عبد الرحمن وسعداً، فحكما عليَّ بتيس أعفر.
وروى ابن جرير عن طارق قال: أوطأ أربد ظبياً فقتله وهو محرم.

أوطأ أربد ضباً هكذا الرواية ضباً وليس ظبياً، بمعنى أنه جعل دابته تطأ الضب فقتله وهو محرم، فهذا متعمد لكن لو أنه حصل من غير عمد بأن وطِئت الدابة الضب أو وطِئت الجراد فليس عليه شيء، فالجراد إذا انتشر صار مثل البساط في الأرض فلا يمكن توقيه لذلك ليس عليه شيء إن قتله.

قال: فأتى عمر ليحكم عليه، قال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر ثم قال عمر.

قوله: "جدياً قد جمع الماء والشجر" يعني أنه مفطوم قد رعى الشجر وشرب الماء واستغنى عن لبن الأم، فعمر هنا في هذه الرواية - إن صحت - قال له: احكم معي مع أن الكثيرين من أهل العلم يقولون: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95] غير الجاني الذي وقع منه قتل الصيد، فمن وقع منه لا يحكم وإنما يحكم عليه.

قال: احكم، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر، ثم قال عمر: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:95].
وقوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أي: واصلاً إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرَّق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه     في هذه الصورة.

يبقى الخلاف في الطعام هل لا بد أن يوصل إلى الحرم أو لا؟.

قال: وقوله: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [سورة المائدة:95] أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال.

الجمهور - ومنهم ابن جرير - على أنه مخير، إما المثل وإما الإطعام وإما الصيام، وهذا على أن "أو" هنا للتخيير، ومنهم من يقول: إن "أو" هذه ليست للتخيير وإنما هي للتقسيم، وهذا الخلاف مثله الخلاف الذي في قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ [سورة المائدة:33] فهل الإمام مخير بحسب ما يراه من المصلحة أو أن ذلك ليس للتخيير، وإنما هو للتقسيم إن قتلوا قُتلوا، وإن أخذوا المال وقتلوا فإنهم يصلبون أو تقطع أيديهم، أو ينفوا الأرض إن أخذوا المال وأخافوا السبيل دون أن يقتلوا، هكذا قال بعض أهل العلم كالشافعي، وهنا الخلاف في "أو" كذلك، فمن قال: إنها للتخيير قال هو مخير وهذا قول الجمهور، وذهب بعض أهل العلم كابن عباس إلى أن ذلك لمن لم يجد المثل.

قال: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [سورة المائدة:95] فإذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

يقول: " فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" هذا الإطعام لستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام ورد في فدية الأذى عند قوله تعالى:وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196] ثم رخص فقال: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196] وقال النبي ﷺ لكعب بن عجرة: أتجد شاة؟[5] وذكر له أيضاً الإطعام - إطعام ستة مساكين - أو صيام ثلاثة أيام، وهذا في فدية الأذى، فالأقرب - والله أعلم وهو الذي عليه عامة أهل العلم - أن ذلك ليس كفدية الأذى بل يكون الإطعام مراعىً فيه القيمة، والصيام يكون عن كل مُدٍّ يوماً؛ لأن إطعام ستة مساكين أين هو من قيمة الصيد إذا كان كبيراً؟! والله أعلم.

قال: فإن قتل أيَّلاً أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً فإن لم يجد صام عشرين يوماً، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وزاد: الطعام مُدٌّ مـد يشبعهم.
وقوله: لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [سورة المائدة:95] أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة.
عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف [سورة المائدة:95] أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله، ولم يرتكب المعصية.
ثم قال: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ [سورة المائدة:95] أي: ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة المائدة:95] قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف؟ [سورة المائدة:95] قال: عما كان في الجاهلية، قال: قلت: وما وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ؟ [سورة المائدة:95] قال: ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه وعليه مع ذلك الكفارة، قال: قلت: فهل في العود من حد تعلمه؟، قال: لا، قال: قلت: فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه؟، قال: لا، هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله ولكن يفتدي، رواه ابن جرير. وقيل: معناه فينتقم الله منه بالكفارة، قاله سعيد بن جبير وعطاء، ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد.

قوله: "الأولى والثانية والثالثة" يعني كل ما قتل صيداً فإنه عليه الجزاء بناء على قوله: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ [سورة المائدة:95] يعني ليست الأولى فيها الجزاء والثانية كما قال بعضهم: إن من قتله متعمداً فهذا يترك؛ لأن عقوبته أشد وأعظم عند الله ، فهذا غير صحيح، بل الصحيح أنه كلما قتل صيداً فعليه الجزاء، وينتقم الله منه بما شاء يوم القيامة.

قال: وقال ابن جرير في قوله: وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [سورة المائدة:95] يقول - عزَّ ذكره - : والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره له العزة والمنعة.
وقوله: ذُو انْتِقَامٍ يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.
  1. أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد - باب ما يقتل المحرم من الدواب (1732) (ج 2 / ص 650) ومسلم في كتاب الحج - باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1199) (ج 2 / ص 858).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1199) (ج2/ ص858).
  3. أخرجه الحاكم (3984) (ج 2 / ص 588) والبيهقي في السنن الكبرى (9832) (ج 5 / ص 211) وصححه الذهبي في التلخيص.
  4. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك – باب ما يقتل المحرم من الدواب (1850) (ج 2 / ص 108) وأحمد (11003) (ج 3 / ص 3) وضعفه العلامة الألباني وشعيب الأرنؤوط.
  5. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدره (1201) (ج 2 / ص 859).

مرات الإستماع: 0

"لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ، وأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 95] معنى حرم داخلين في الإحرام، أو في الحرم، والصيد هنا عامٌ، خصّص منه الحديث: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور، وأدخل مالكٌ في الكلب العقور: كل ما يؤذي الناس من السباع، وغيرها[1] وقاس الشافعي على هذه الخمسة: كل ما لا يؤكل لحمه[2] ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد، وما لم يصد، مما شأنه أن يصاد، وورد النهي هنا عن القتل قبل أن يصاد، وبعد أن يصاد، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة: 96]".

يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 95] الحُرُم يدخل فيه حال الإحرام، والتلبس به، وكذلك إذا كان في الحرم، ولو كان غير محرم.

قال: "والصيد هنا عامٌ خصّص منه الحديث: الغراب..." إلخ آخره، وهذا جاء عن جماعة الصحابة يرونه عن النبي ﷺ من حديث عائشة[3] وابن عمر عن حفصة[4] وأبي هريرة[5] وأبي سعيد الخدري[6].

قال: "وأدخل مالكٌ في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع، وغيرها" يعني ما يكون منه إغارة على الناس، وهجوم عليهم، ونحو ذلك، فهو داخلٌ فيه، وهذا صحيح، لا سيما أن الكلب يُطلَق بإطلاقٍ أوسع، فيُدخِلون فيه الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، ونحو ذلك، وذكرت في بعض المناسبات: أن أبا العلاء المعري لما دخل المسجد، وعثر برجل نائم، فقال النائم: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء المعري: الكلب من لم يعرف للكلب سبعين اسمًا.

والسيوطي - رحمه الله - ألف رسالةً سماها التبري من معرة المعري؛ لئلا يقع في مثل هذا، فيناله مثل هذا الوصف، فجمع للكلب أكثر من سبعين اسم، ثم نظمها، لكن إذا نظرت في هذه الأسماء التي يذكرونها، ومثل حديث: اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك[7] فعدا عليه الأسد، فالكلب، والذئب، والأسد، والنمر، والفهد كلها يُقال لها: كلب، مع أن العلماء المعاصرين، وعلماء الحيوان يفرقون - كما هو معلوم - بين الكلبيات، فيدخلون فيها مثل الذئب، والسنوريات: فيدخلون فيها الأسد، والقط، والنمر، والفهد، ونحوها، فيجعلون هذه فصيلة، وهذه فصيلة، لكن في لغة العرب، وكلامهم، وفي مقتضى الحديث أن ذلك سواء، فالكلب العقور قد يدخل في هذه جميعًا، فيدخل فيه الذئب، وغيره.

يقول أيوب السختياني - رحمه الله - : فقلت لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك فيها، ولا يُختَلف في قتلها[8] يعني لا تحتاج إلى تنبيه.

قال ابن كثير: وأُلحِق بالكلب العقور: الذئب، والسبع، والنمر، والفهد؛ لأنها أشد ضررًا منه[9] أو أن الكلب يُطلَق عليها، إما أنها من باب أولى إذا قلنا: إنه لا تدخل في مسمى الكلب، أو باعتبار أنها داخلة في هذا الإطلاق.

يقول: "وقاس الشافعي على كل ما لا يؤكل لحمه" هذا فيه إشكال، وإنما ما يؤذي.

يقول: "ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد، وما لم يصد" يعني الصيد مصدر، فيكون بمعنى المفعول، يعني ما صيد، المصيد، يعني لو أن أحدًا في حوزته صيد هل له أن يذبحه، الجواب: لا، لو أُهدِي له صيد هل له أن يذبحه؟ الجواب: لا، ولو طلب منه أحد أن يذبح صيدًا، يعني وجد امرأة معها صيد، فقالت: اذبح لي هذا الظبي، فليس له أن يقتل الصيد، وهو محرم، لا لنفسه، ولا لغيره، فيُطلَق الصيد على ما صيد، وعلى ما لم يُصَد: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فذاك يُسمَى صيد، قبل أن يُصاد، وبعد أن يُصاد، كل ذلك منهي عنه.

أما الاصطياد وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ماَ دُمْتُمْ حُرُمًا الصيد هنا أيضًا يشمل ما صيد، لكن لو أنه صاده غير محرمٍ، فهنا يُنظَر إن صاده لمحرم، أو أعانه عليه محرم بإشارةٍ، أو دلالةٍ، أو بأي نوع من المعاونة، فلا يصح للمحرم أن يأكل منه، وأما ما صاده المحرم، فهذا لا يجوز أن يأكله لا المحرم، ولا غير المحرم، يعني بمنزلة الميتة على الراجح.

وأما ما صاده الحلال للمحرم، فهذا لا يجوز للمحرم أن يأكله، ويجوز للحلال أن يأكله؛ لحديث الصعب بن جثامة لما أهدى للنبي ﷺ حمارًا، وحشيًا فرده، فلما رأى الكراهة في، وجهه، قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم[10] ودلالة عليه، ونحو ذلك، وهذا يدل أيضًا الحديث الآخر لما سأل النبي ﷺ أصحابه: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟[11].

"قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة: 95] مفهوم الآية يقتضي أن جزاء الصيد على المتعمد لا على الناسي، وبذلك قال أهل الظاهر".

هذا قال به أهل الظاهر، وغير أهل الظاهر، وممن قال به: سعيد بن جبير، وطاووس، والحسن، والنخعي، وأبو ثور[12] وداود الظاهري[13] وهو رواية عن الإمام أحمد[14] ومن المعاصرين قال بهذا الشيخ محمد الشنقيطي - رحمه الله -[15] باعتبار أن القيد هنا معتبر في المفهوم وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فهذا مفهوم صفة، فمفهوم المخالفة هنا أنه إن لم يكن متعمدًا، فليس عليه شيء، وكأن هذا هو الأرجح - والله تعالى أعلم =.

وأما من لم يُفرِق بين المتعمد، وغيره، فماذا قالوا عن مثل هذا القيد؟ قالوا: لا مفهوم له، لماذا؟ قالوا: إما لأنه عبر بالمتعمد باعتبار أنه أشد، وأشنع، أو باعتبار أن ذلك غالبًا لا يكاد يقع إلا بطريق العمد، فعبّر بهذا، يعني خرج مخرج الغالب، ومفهوم المخالفة حجة إلا في نحو سبعة مواضع فلا يكون فيها حجة، أو جرى على الغالب، كما قال في المراقي: 

  أو جرى على الذي غلب[16]

ففي هذه لا يكون له مفهوم.

وممن قال: إنه لا فرق بين متعمد، وغير المتعمد ابن جرير أيضًا[17].

"وقال جمهور الفقهاء: المتعمد، والناسي سواء في وجوب الجزاء، ثم اختلفوا في تأويل قوله: مُتَعَمِّدًا على ثلاثة أقوال:

أحدها: أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد الذي في قوله: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ إذ لا وعيد على الناسي".

قد لا يرد النسيان هنا بصورته المعهودة الظاهرة، اللهم إن أصابه ذهول، ونسي إحرامه حينما رأى الصيد، لكن الغالب أن ذلك يقع بالخطأ، كأن يصدمه مثلاً بالسيارة خطأ، فلو أنه صدم طائرًا، أو صدم يربوعًا، أو نحو ذلك، فماذا عليه؟

"والثاني: أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمد.

والثالث: أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن، وأنّ الجزاء على الناسي ثبت بالسنة".

يعني على الثاني، والثالث أن تكون الآية في المتعمد، وأن ذلك ليس بطريق أنه خرج مخرج الغالب؛ وإنما المقصود المتعمد، طيب، والناسي ما حكمه؟ قالوا: قياسًا، أو باعتبار أن ذلك دلت عليه السنة.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - نقل عن الزهري قوله: دل الكتاب على العامد، وجرت السنة على الناسي[18] قال ابن كثير: ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد، وعلى تأثيمه بقوله: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ وجاءت السنة من أحكام النبي ﷺ وأصحابه في وجوب الجزاء في الخطأ، كما دل الكتاب عليه في العمد، وأيضًا فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد، والنسيان، لكن المتعمد مأثوم، والمخطئ غير ملوم[19].

يعني باعتبار أن إتلاف فيضمن ما أتلفه، هكذا يحتج من يقول بأن عليه الجزاء، هو يجب عليه ضمان ما أتلفه في حقوق الآدميين، ولو كان مخطئًا، لكن في مثل هذا في الصيد، الله نص على المتعمد، فظاهر الآية - والله أعلم - أن غير متعمد لا يشمله الحكم.

"قوله تعالى: (فَجَزاءُ مِثْلِ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) المعنى: فعليه جزاء، وقُرئ بإضافة جزاء إلى مثل، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول به، وقيل: (مثل) زائدة، كقولك: أنا أكرم مثلك، أي: أكرمك، وقرئ فجزاءٌ بالتنوين، و(مثلُ) بالرفع على البدل، أو الصفة".

يعني هذه القراءة التي نقرأ بها فَجَزاءٌ مِثْلُ [المائدة: 95] وهي قراءة عاصم، ومن معه من قراء أهل الكوفة، وقراءة الجمهور كما في قراءة المؤلف هنا، وهي قراءة نافع بغير التنوين، (فجزاءُ مثلِ)[20].

يقول هنا: "المعنى: فعليه جزاء، وقرئ بإضافة جزاء إلى مثل، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول به" (فجزاءُ مثلِ) فجزاء مصدر، فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول به "وقيل: (مثل) زائدة، كقولك: أنا أكرم مثلك، أي: أكرمك" وهذا سبق الكلام على قضية الزيادة، وهل يليق أن يقال: في القرآن زائد، أو لا؟ فمنع بعض أهل العلم من هذا، والكلام كثير في مثل قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11].

"وقرئ فجزاءٌ بالتنوين، و(مثلُ) بالرفع على البدل، أو الصفة" ويمكن أن يكون جزاءٌ مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: فعليه جزاء، أو أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فالواجب جزاء، أو أنه فاعل لفعلٍ محذوف، والتقدير: فيلزمه جزاء.

"والنعم: الإبل، والبقر، والغنم، خاصة، ومعنى الآية عند مالكٍ، والشافعي: أنّ من قتل صيدًا، وهو محرم أنّ عليه في الفدية ما يشبه ذلك الصيد في الخلقة، والمنظر، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الغزالة شاة، فالمثلية على هذا هي في الصورة، والمقدار، فإن لم يكن له مثلٌ أطعم، أو صام[21] ومذهب أبي حنيفة: أنّ المثل القيمة[22] يقوّم الصيد المقتول، ويخير القاتل بين أن يتصدّق بالقيمة، أو يشتري بالقيمة من النعم ما يهديه".

الأقرب: أنه يُنظَر فيه إن كان له مثل فيجب عليه أن يُخرِج المثل هذا الأصل، وإن لم يكن له مثل فعند ذلك يُقوَم، وما حكم به الصحابة فلا يحتاج إلى حكم حكمين، فيكفي حكم الصحابة .

"قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ [المائدة: 95] هذه الآية تقتضي أن التحكيم شرطٌ في إخراج الجزاء، ولا خلاف في ذلك، فإن أخرج أحدٌ الجزاء قبل الحكم عليه، فعليه إعادته بالحكم إلا حمام مكة، فإنه لا يحتاج إلى حكَمين، قاله مالك[23] ويجب عند مالكٍ: التحكيم فيما حكمت فيه الصحابة، وفيما لم يحكموا به[24] لعموم لفظ الآية، وقال الشافعي: يكتفى في ذلك بما حكمت به الصحابة[25]".

وهذا الأقرب، لكن الإمام مالك - رحمه الله - أخذ ذلك من قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ كأن كل واقعة عنده تحتاج إلى تحكيم.

"قوله: هَدْيًا [المائدة: 95] يقتضي ظاهره أن ما يخرج من النعم جزاءً عن الصيد يجب أن يكون مما يجوز أن يُهدى، وهو الجذع من الضأن، والثني مما سواه، وقال الشافعي: يخرج المثل في اللحم، ولا يشترط السن[26]".

المثل في اللحم يعني في المقدار، فلا يُشترَط السن، وهَدْيًا جمع هدية، وهنا مختص بما يُهدَى إلى البيت من الأنعام.

"بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] لم يرد الكعبة بعينها، وإنما أراد الحرم، ويقتضي أن يصنع بالجزاء ما يصنع بالهدي من سوقه من الحلّ إلى الحرم، وقال الشافعي، وأبو حنيفة[27]: إن اشتراه في الحرم أجزأه".

المقصود إخراج المثل، فهذا هو الجزاء الذي يحصل به، ولو اشتراه من الحرم.

"قوله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا [المائدة: 95] عدّد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد، فذكر أولاً: الجزاء من النعم، ثم الطعام، ثم الصيام، ومذهب مالكٍ، والجمهور أنها: على التخيير[28] وهو الذي يقتضيه العطف بـ(أو)، ومذهب ابن عباسٍ أنها: على الترتيب[29] ولم يبين الله هنا مقدار الطعام، فرأى العلماء أن يقدّر الجزاء من النعم [وفي النسخ: أن يقدر بالجزاء من النعم] إلا أنهم اختلفوا في كيفية التقدير، فقال مالك: يقدر الصيد المقتول نفسه بالطعام، أو الدراهم، ثم تقوّم الدراهم بالطعام، فينظر كم يساوي من طعامٍ، أو من دراهم، وهو حيّ، وقال بعض أصحاب مالك: يقدّر الصيد بالطعام، [وفي النسخ: تقدير الصيد بالطعام]."

يُقدر، لا إشكال.

"أي: يقال: كم كان يشبع الصيد من نفسٍ [في النسخ: أن يقال: كم كان]"

أن يقال، أو أي يُقال، لا إشكال.

"ثم يخرج قدر شبعهم طعامًا، وقال الشافعي: لا يقدر الصيد نفسه، وإنما يقدّر مثله، وهو الجزاء الواجب على القاتل له[30]".

فقوله هنا: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا العدل هنا يمكن أن يكون مثل ذلك صيامًا، أو ما يُعادِله، يقول: "فذكر أولاً الجزاء من النعم، ثم الطعام، ثم الصيام بهذا الترتيب" يعني أنه يجب أن يكون مرتبًا هكذا، قال: "ومذهب مالكٍ، والجمهور أنها: على التخيير" وهذا الذي اختار ابن جرير - رحمه الله -[31] يقول: "وهو الذي يقتضيه العطف بـ(أو)، ومذهب ابن عباسٍ أنها: على الترتيب".

وقال في الحاشية هنا: إذا أصاب المحرم الصيد وجب عليه جزاؤه، فإن كان عنده جزاؤه ذبحه، وتصدق بلحمه، وإن لم يكن عنده جزاؤه قُوِم جزاؤه دراهم، ثم قُوِمت الدراهم طعامًا، لاحظ هنا الذي يقوم هو الجزاء، يعني على قول الشافعي - رحمه الله - فصام مكان كل نصف صاع يومًا، وإنما أريد بالطعام الصيام، وأنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه.

وهنا يقول: "على الترتيب" وعن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة: فإذا قتل المحرم شيئًا من الصيد حُكِم عليه فيه، فإن قتل ظبيًا، أو نحوه فعليه شاة تُذبَح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلاً، أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا، فإن لم يجد صام عشرين يومًا، فإن قتل نعامةً، أو حمار وحش، أو نحوه فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا، فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا[32] وهذا فيه إشكال في تقدير الطعام، والصيام.

هنا يقول: ولم يبين الله هنا مقدار الطعام، فرأى العلماء أن يقدّر الجزاء من النعم، إلا أنهم اختلفوا في كيفية التقدير، فقال مالك: يقدر الصيد المقتول نفسه بالطعام، أو الدراهم، ثم تقوم الدراهم بالطعام، فينظر كم يساوي من طعام، أو من دراهم، وهو حي، وقال بعض أصحابه: يُقدَر الصيد بالطعام، وليس بالدراهم، يعني البدنة، والشاة مثلاً كم تُشبِع من نفس، البدنة مثلاً مائة، فكم طعام المائة، يعني تُخرِج مثلاً مائة مد، كل مد بصيام يوم، وهكذا، ثم يُخرِج قدر شبعهم طعامًا."وقال الشافعي: لا يقدر الصيد نفسه، وإنما يقدّر مثله، وهو الجزاء الواجب على القاتل له" يعني إذا كانت الحمامة فيها شاة، باعتبار أنها تشرب مثل الشاة، يعني وجِدت المشابهة في الشرب، فإذا كانت فيها الشاة هل يُقدَر الحمامة بالطعام، أو يُقدَر الجزاء التي هو الشاة؟ فالفرق كبير، أليس كذلك؟ يعني يترتب على أنه يُقدَر الصيد، أو جزاء الصيد يترتب عليه فرق ليس باليسير.

"قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا [المائدة: 95] تحتمل الإشارة بذلك أن تكون إلى الطعام، وهو أحسن؛ لأنه أقرب، أو إلى الصيد، واختلف في صفة تعديل الصيام بالطعام، فقال مالكٌ: يصوم مكان كل مدٍّ يومًا[33] وقال أبو حنيفة: مكان كل مدّين يومًا[34] وقيل: مكان كل صاع يومًا، ولا يجب الجزاء، ولا الإطعام، ولا الصيام إلا بقتل الصيد، لا بأخذه دون قتل؛ لقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ وفي كل وجهٍ يشترط حكم الحكمين، وإنما لم يذكره الله في الصيام، والطعام استغناءً بذكره في الجزاء لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ [المائدة: 95] الذوق هنا مستعارٌ؛ لأن حقيقته بحاسة اللسان، والوبال سوء العاقبة، وهو هنا ما لزمه من التكفير".

يعني جزاء الذنب، أو ثقل فعله مثلاً، أو نحو ذلك، وأصل الوبال كما مضى في بعض المناسبات، وفي الغريب: الوبال، والوبيل فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ [التغابن: 5] أصله المرعى الوخيم الذي تنجذب إليه البهائم، ثم يقتلوها، يعني يكون فيه نباتات سامة، ونحو هذا، يُقال: مرعىً وبيل ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ يعني عاقبة أمرهم السيئة.

"قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المائدة: 95] أي: عما فعلتم في الجاهلية من قتل الصيد في الحرم وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: 95] أي: من عاد إلى قتل الصيد، وهو محرمٌ بعد النهي عن ذلك فينتقم الله منه بوجوب الكفارة عليه، أو بعذابه في الآخرة".

ينتقم الله منه بوجوب الكفارة هذا قال به بعض السلف، كسعيد ابن جبير، وعطاء[35] أو ينتقم منه بعذاب الآخرة.

  1.  بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (2/128).
  2.  المجموع شرح المهذب (7/333).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم، وغيره قتله من الدواب في الحل، والحرم برقم: (1198).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب برقم: (1828)، ومسلم في كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم، وغيره قتله من الدواب في الحل، والحرم برقم: (1200).
  5.  أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب برقم: (1847)، وقال الألباني: حسن صحيح.
  6.  أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب برقم: (1848) [حكم الألباني]: ضعيف، وقوله: يرمي الغراب، ولا يقتله، منكر.
  7.  أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم: (10052).
  8.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/190).
  9.  المصدر السابق (3/191).
  10.  أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل برقم: (1825)، ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم برقم: (1193).
  11.  أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال برقم: (1824)، ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم برقم: (1196).
  12.  فتح القدير للشوكاني (2/88).
  13.  بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (2/123).
  14.  المغني لابن قدامة (3/439).
  15.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/438).
  16. نشر البنود على مراقي السعود (1/98)، وتمامه:
    أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ، أو النُّطْقُ اِنْجَلَبْ *** لِلسّؤل، أو جرى على الذي غلب.
  17.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/12).
  18.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/192).
  19. المصدر السابق.
  20.  السبعة في القراءات (ص: 247 - 248)، ومعاني القراءات للأزهري (1/338).
  21.  ينظر: بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (2/123) ونهاية المطلب في دراية المذهب (4/399).
  22.  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/199).
  23.  الكافي في فقه أهل المدينة (1/395)، والدر الثمين، والمورد المعين (ص: 532)، والمختصر الفقهي لابن عرفة (2/273).
  24.  المعونة على مذهب عالم المدينة (ص: 546).
  25.  المجموع شرح المهذب (7/439).
  26. المصدر السابق.
  27.  الحجة على أهل المدينة (2/339).
  28.  بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (2/123)، وبحر المذهب للروياني (4/47)، والمغني لابن قدامة (3/449).
  29.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/195).
  30.  المجموع شرح المهذب (7/438).
  31. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/31).
  32.  المصدر السابق (10/18).
  33.  الكافي في فقه أهل المدينة (1/395)، والمدونة (1/444).
  34.  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/201).
  35.  التفسير الوسيط للواحدي (2/230)، وتفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1209).