قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ يعني ما يصطاد منها طرياً وَطَعَامُهُ ما يتزود منه مليحاً يابساً.
وقال ابن عباس - ا - في الرواية المشهورة عنه: صيده ما أخذ منه حياً وطعامه ما لفظه ميتاً.
فقوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [سورة المائدة:96] البحر معروف ولا نحتاج أن نقول: إنه الماء الكثير المستبحر، ولكن نبهت على هذا؛ لأن كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - فسره في هذا الموضع بالأنهار، وهذا فيما أظن - والله أعلم - لا حاجة إليه لسببين:
السبب الأول: أن البحر إذا أطلق فأول ما يتبادر منه الماء الكثير المالح المعروف الذي يقال له البحر، ويُلحق به الأنهار وما يعيش في الماء بالنسبة لهذا الحكم في صيد البحر، يعني لو وجد شيء من البحيرات أو المستنقعات أو الآبار التي يوجد فيها أسماك فإنه يحل صيدها.
الأمر الثاني: أن الأنهار لا وجود لها في جزيرة العرب، والكلام عن الإحرام، فمن أين يحرم الإنسان، لا يحرم من بلاد فيها أنهار، فالحاصل أن البحر هنا هو البحر المعروف ويحلق به غيره مما يصطاد منه.
ونقل عن سعيد بن جبير - رحمه الله - أنه قال في صيد البحر: "ما يصطاد منه طرياً" وهذا القيد لا حاجة إليه أيضاً، فصيد البحر يبقى على ظاهره، وهو ما يصطاد منه أي من البحر.
وقوله: وَطَعَامُهُ قال هنا: "ما يتزود منه مليحاً يابساً" يعني جعل صيد البحر هو الطري وجعل طعامه من المليح المجفف الذي يتزودونه معهم وينقلونه معهم مما ليس بطري، ويمكن أن يقال: في حكمه اليوم المبرد أو المثلج، لكن هذا غير مراد - والله تعالى أعلم - ؛ لأن هذا المليح - يعني المملوح أو المجفف أو المبرد أو نحو ذلك - في الواقع إن كان مما صيد فهو من جملة صيد البحر، ولهذا يقال: إن هذا التفسير فيه بعد، والعلم عند الله - تبارك وتعالى -، وابن جرير - رحمه الله - أرجعه إلى ما ذكرت، أي أن هذا المليح إن كان مما صيد فهو من جملة صيد البحر.
وبعضهم قال: إن طعامه هو ما ينعقد فيه من الملح، وبعضهم يقول: طعامه هو ما يؤخذ منه من النباتات ونحوها، وهذا لا حاجة إليه، وإنما يقال: صيد البحر ما صيد منه فإنه حلال للمحرم، ومن باب أولى للمحل، وَطَعَامُهُ ما طفا أو ألقاه ميتاً فإنه يحل؛ لأن النبي ﷺ قال: أحلت لنا ميتتان ودمان[1].
وأما قوله - تبارك وتعالى - : لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [سورة النحل:14] يعني أنه يستخرج منه اللحم الطري وغير الطري لكنه ذكر أشرف النوعين وأحسن النوعين؛ لأن المقام مقام امتنان لا يذكر فيه إلا الأشرف.
وبعض أهل العلم يقول: هذا من الاكتفاء كقوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] يعني والبرد فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] أي وإن لم تنفع، فذكر أشرف القسمين، وهناك أمثلة معروفة في هذا، والله أعلم.
وقوله: مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [سورة المائدة:96] أي: منفعة وقوتاً لكم أيها المخاطبون.
وَلِلسَّيَّارَةِ وهم جمع سيَّار، قال عكرمة: لمن كان بحضرة البحر والسفر، وقال غيره: الطري منه لمن يصطاده من حاضرة البحر.
القول بأن طعامه أي ما لفظه ميتاً هو الذي عليه الجمهور، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- وهو القول الذي لا ينبغي العدول عنه.
قوله: مَتَاعًا لَّكُمْ [سورة المائدة:96] يعني أنه متاع لمن كان مقيماً منكم فينتفع به غاية الانتفاع، وقوله: وَلِلسَّيَّارَةِ أي: وللمسافرين يحملونه معهم مليحاً مجففاً يأكلون منه في أسفارهم ويتنقلون به وما أشبه ذلك.
وروى الإمام مالك بن أنس عن جابر بن عبد الله - ا - قال: بعث رسول الله ﷺ بعثاً قِبَل الساحل فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة وأنا فيهم، قال: فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فنِيَ الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر، قال: فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمـرة، فقلت: وما تغني التمرة؟، فقال: قد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظَّرِب.
قوله: "فإذا حوت مثل الظَّرِب" يعني حوت مثل الجبل الصغير.
وروى مالك عن أبي هريرة قال: سأل رجل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله ﷺ : هو الطهور ماؤه الحل ميتته[3] وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل، وأهل السنن الأربع، وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وغيرهم، وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي ﷺ بنحوه.
وقوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [سورة المائدة:96] أي في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد، ففيه دلالة على تحريم ذلك.
قال: "يحرم عليكم الاصطياد" هذه اللفظة "صيد" في قوله: صَيْدُ الْبَحْرِ أو صَيْدُ الْبَرِّ [سورة المائدة:96] مصدر، والمصدر تارة يراد معناه المصدري، وتارة يراد معنى المفعول، فالمعنى المصدري لصيد البر أو صيد البحر يعني الاصطياد، مثل ما يقال في الكلام والكتابة وما أشبه ذلك فتقول مثلاً: هذا الذي أفعله كلام، أي تكلُّم، فهذا مصدر، وتقول: هذا كلام زيد، يعني ما تكلم به، هذا كلام الله تعني به القرآن، وتقول للأخ وهو يقرأ: هذه قراءة، ويقال للمقروء أيضاً قراءة،، يقال: أكْل لعملية الأكل - بالمعنى المصدري - ويقال أكْل للمأكول، ويقال: شرْب لنفس عملية الشرب، ويقال: شرْب للمشروب، وهكذا الصيد هل المراد به هنا المعنى المصدري أي حُرِّم عليكم الاصطياد بحيث إذا لم تصده أنت حلَّ لك، أو أن المراد بقوله: صَيْدُ الْبَرِّ [سورة المائدة:96] ما صيد في البر بحيث تكون الصيود محرمة على المحرمين سواء صادوها هم أو صادها غيرهم؟
خلاصة ذلك أن من أهل العلم من جعله بمعنى المفعول فقال: صَيْدُ الْبَرِّ [سورة المائدة:96] يعني جميع أنواع ما صيد منه – أي الصيود - بمعنى المفعول، فهي محرمَّة على المحرم سواء صادها أو صادها غيره له أو لم تصد له، ويحتجون بحديث الصعب بن جثامة لما أهدى للنبي ﷺ حماراً وحشياً، فرده النبي ﷺ عليه فلما رأى ما بوجهه من الكراهة بيّن له أنه إنما رده لكونه محرماً فقال: إنا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم[4] وكذلك جاء عن علي أنه كان يرى تحريم ذلك كما في القصة المعروفة حينما وضع بين يدي عثمان بن عفان حين استقبله أمير مكة في الطريق، وضع له لحم الصيد فعليٌّ امتنع من الأكل وأخبر أن هذا لا يحل، فالحاصل أنه مذهب معروف لبعض السلف وهو أنه لا يجوز أكل لحم الصيود سواء صيدت للمحرم أو لم تصد له، صادها أو صادها غيره.
ومنهم من يقول: إنما يحرم عليه ما صاده هو، فجعلوا الصيد بالمعنى المصدري، يعني يحرم عليهم الاصطياد فإذا حرم عليهم الاصطياد فإن ما نتج عنه فهو حرام، والأعدل في هذا - والله تعالى أعلم - أنه يفرق بين ما إذا صاده المحرم أو صيد له أو كان بإشارته أو إعانته، فهذا لا يجوز، وأما ما صاده المحل لنفسه أو صاده لغيره من المحلين فإنه يجوز للمحرم أن يأكل منه، ولذلك جاء عن النبي ﷺ في حديث أبي قتادة حينما صاد أيضاً حماراً وحشياً ثم سألوا عنه النبي ﷺ فسألهم: هل معكم منه شيء؟[5] فالحاصل أنه أباحه، فالجمع بينه وبين حديث الصعب أن الصعب بن جثامة صاده لهم، وأما حديث أبي قتادة فهو لم يصده لهم، ولهذا سألهم النبي ﷺ : عما إذا كانوا أعانوه على ذلك أو أشاروا إليه، أو نحو هذا، فأجابوا بالنفي.
وقد حمل ابن جرير - رحمه الله - هذه اللفظة صَيْدُ الْبَرِّ على ذلك جميعاً إلا ما صاده المحل لنفسه أو لمحل مثله فجعل صَيْدُ الْبَرِّ بالمعنى المصدري - هكذا ظاهر كلامه - أي أنه جعلها بمعنى المفعول، وهذا الذي عليه كثير من المحققين، والله تعالى أعلم.
على كل حال يحرم على المحرم صيد البر فلا يشتريه ولا يبيعه ولا يأكله ولا يقتله ولا غير ذلك سوى ما ذكرنا، والله تعالى أعلم.
لأنه في حقه كالميتة وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين.
أما كون أنه يصطاد أو يقتل الصيد وهو مخطئ فالأقرب أنه لا غرم عليه؛ لأن مفهوم المخالفة هنا معتبر من قتله منكم متعمداً فمن قتله غير متعمد فلا جزاء.
قالوا: فوجهه أن النبي ﷺ ظن أن هذا إنما صاده من أجله فرده لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه؛ لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالاً لم يحرم، وكان أصحابه محرمين، فتوقفوا في أكله ثم سألوا رسول الله ﷺ فقال: هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا وأكل منها رسول اللهﷺ وهذه القصة ثابتة أيضاً في الصحيحين بألفاظ كثيرة[7].
وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة المائدة:96] قد ذكر الحافظ ابن كثير هنا أربع آيات هي السادسة والتسعون والسابعة والتسعون والثامنة والتسعون والتاسعة والتسعون، ثم فسر أكثر الآية الأولى منها فقط إلى هذا الموضع، ولم يذكر تفسير آخرها ولا الثلاثة بعدها، وهذا هو الثابت في كل الأصول المخطوطة والمطبوعة، والظاهر أنه سها عن ذلك - رحمه الله - فمن البعيد جداً أن يكون ذلك سهواً من الناسخين يتفقون عليه في جميع النسخ على اختلاف مصادرها، فرأيت تكميل هذا النقص بإثبات تفسيرها من تفسير إمام المفسرين ابن جرير الطبري بشيء من الاختصار والتصرف والاقتصار على التفسير نفسه مراعياً الدقة في المحافظة على العبارة العالية ما استطعت إن شاء الله وبه الاستعانة.
تكميل بقلم الشيخ أحمد شاكر:
هذا كتب هنا في الأصل: سقط من هذا الموضع تفسير الثلاث الآيات - السابعة والتسعين والثامنة والتسعين والتاسعة والتسعين - وتُرك لها بياض في النسخة المكية، وليس فيه هذا التكميل [الناشر].
وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة المائدة:96] يقول تعالى: واخشوا الله أيها الناس واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنزلها على نبيكم ﷺ من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم فإن لله مصيركم ومرجعكم فيعاقبكم بمعصيتكم إياه ويجازيكم فيثيبكم على طاعتكم له.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة – باب الكبد والطحال (3314) (ج 2 / ص 1102) وأحمد (5723) (ج 2 / ص 97) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1118).
- أخرجه البخاري في كتاب الشركة - باب الشركة في الطعام والنهد والعروض (2351) (ج 2 / ص 879) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان – باب إباحة ميتات البحر (1935) (ج 3 / ص 1535).
- أخرجه أ[و داود في كتاب الطهارة – باب الوضوء بماء البحر (83) (ج 1 / ص 31) والترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (69) (ج 1 / ص 100) والنسائي في كتاب الطهارة – باب ماء البحر (59) (ج 1 / ص 50) وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها – باب الوضوء بماء البحر (386) (ج 1 / ص 136) وصححه الألباني في المشكاة برقم (479).
- أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد - باب إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل(1729) (ج 2 / ص 649) ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم الصيد للمحرم (1193) (ج 2 / ص 850).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير – باب اسم الفرس والحمار (2699) (ج 3 / ص 1048) ومسلم في كتاب الحج – باب تحريم الصيد للمحرم (1196) (ج 2 / ص 851).
- سبق تخريجه.
- أخرجه البخاري في أبواب الإحصار وجزاء الصيد - باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال (1728) (ج 2 / ص 648) ومسلم في كتاب الحج (1196) (ج 2 / ص 851).