السبت 19 / ذو القعدة / 1446 - 17 / مايو 2025
جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْىَ وَٱلْقَلَٰٓئِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ [سورة المائدة:97] يقول تعالى: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قِواماً للناس الذين لا قِوام لهم من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم ومسيئهم عن محسنهم.
قيل للكعبة كعبة؛ لأنها مكعبة، وبعض أهل العلم يقول: لأنها ناتئة فكل ناتئ يقال له ذلك، ولهذا يقال: الكواعب جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثديها مع أن شكله ليس مكعباً، وكذلك كعب الرِّجل سمي كذلك لنتوئه وبروزه.
قوله تعالى: قِيَامًا لِّلنَّاسِ يقول: "قواماً للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم ومسيئهم عن محسنهم وظالمهم عن مظلومهم" والمعنى جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ كل ذلك قياماً للناس، وهذا القيام للناس يحصل بصور متعددة، ومن ذلك أنه يحجز بين القوي والضعيف؛ لأن العرب لم يكن لهم رئيس مطاع وكانوا يأنفون من ذلك غاية الأنفة، والشريعة التي عندهم بين هذه القبائل هي شريعة الغاب، القوي يأكل الضعيف، فالكعبة المراد بها الحرم فهذا يحرم عليهم التعدي فيه والظلم حتى إن الرجل كان في الجاهلية - على عتوهم وتمردهم فلا أمن ولا قوة تمنع هذا من هذا - كان يرى قاتل أبيه في الحرم ولا يحرك ساكناً مع قوة دوافع الثأر عنده، وكذلك الأمر بالنسبة للشهر الحرام والهدي والقلائد، فالحاصل أنهم في الأشهر الحرم كانوا يعظمونها ولا يتعدون فيها فيحصل لهم بذلك ألوان المصالح، فكانوا يتنقلون في هذه الأشهر الحرم ويسافرون فيها يقصدون البيت الحرام ويأمنون فيها على أنفسهم وتجارتهم وما أشبه ذلك، فكأنها بمثابة قوة تمنع القوي من التعدي على الضعيف، فتقوم نفوسهم وأمنهم وحياتهم ومعايشهم بهذا.
وكذلك الهدي والقلائد حيث كانوا يعلقون على هذا الهدي - وقد يكون كثيراً يغري من رآه - يعلقون عليه القلائد أو يشعرون البدن فإذا رآها من رآها عرف أنها مقدمة مهداة للبيت الحرام فلا يقربها أحد، وربما أيضاًَ هم قلدوا على نفوسهم من لحاء شجر الحرم يطلبون بذلك الأمان فلا يتعرض لهم أحد، إضافة إلى ما يحصل لهم بسبب ما أقامه الله لهم من بيته الحرام من قيام الدين، فهو مظهر لقيام الدين يجتمعون فيه لعبادة الله ويحصل فيه أيضاً ألوان من المصالح الدنيوية من التجارة فيأتون من أنحاء مختلفة يجلبون معهم ما يجلبون من بضائعهم وسلعهم، وتقوم أسواقهم وتزدهر من البوادي ومن القرى، ولهذا قال الله : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة التوبة:28] لذلك فبسبب منع المشركين من دخول الحرم حُرموا مصدراً كبيراً في الاقتصاد فحصل بسبب ذلك كساد خافوا منه فوعدهم الله بإغنائهم من فضله.
فالمقصود أن البيت الحرام وما جعل أيضاً من الهدي ومن القلائد كل ذلك كان سبباً لقيام دينهم وقيام مصالحهم ومعايشهم، والله تعالى أعلم.


وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ [سورة المائدة:97] يقول: وجعل هذه أيضاً قياماً للناس كما جعل في قوله تعالى: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ نحتاج هنا إلى تقدير والمقدر ينبغي أن يكون أليق بالسياق، فما هو الأليق هنا أن يقال: جعل الله نُصب الكعبة قياماً للناس، أو جعل الله حرمة الكعبة قياماً للناس وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ؟
عند التقدير ينبغي أن يُتخير الأليق والأنسب بالسياق، والأليق والأنسب بالسياق هنا حرمة الكعبة ليكون موافقاً لما بعده يعني جعل الله حرمة الكعبة وحرمة الشهر الحرام والهدي والقلائد قياماً للناس.
فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض إذ لم يكن لهم قيام غيره، وجعلها معالم دينهم ومصالح أمورهم، وجعل تعالى الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قِواماً - لمن كان يحرم ذلك من العرب ويعظمه - بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه، وأما الكعبة فالحرم كله، وسماها الله حراماً لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها وكذلك كانت الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قوام أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية وهي في الإسلام معالم حجهم ومناسكهم ومتوجههم لصلاتهم

ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  يقول تعالى: صيرت لكم أيها الناس ذلك قياماً كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث مما به قوامكم علماً منه بمنافعكم ومضاركم أنه كذلك يعلم جميع ما في السماوات والأرض مما فيه صلاح عاجلكم وآجلكم، ولتعلموا أنه بكل شيء عليم لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم وهو محصيها عليكم حتى يجازي المحسن منكم بإحسانه والمسيء منكم بإساءته.


 

مرات الإستماع: 0

 "جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيامًا لِلنَّاسِ أي: أمرًا يقوم للناس بالأمن، والمنافع.

وقِيل: موضع قيامٍ بالمناسك، ولفظ (الناس) هنا عام، وقيل: أراد العرب خاصةً؛ لأنهم هم الذين كانوا يعظِّمون الكعبة."

فقوله - تبارك، وتعالى - : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيامًا لِلنَّاسِ يقول: أي: أمرًا يقوم للناس بالأمن، والمنافع؛ يعني أنَّه قِوامٌ لهم، تقوم به منافعهم، ومصالحهم، ومعايشهم، ومعادهم أيضًا، ما يتّصل بدِينهم، ودُنياهم، وأمْنِهم؛ فعليه مَدار معادهم، ومعاشهم، ودِينهم، يأمَن فيه الخائف، ويُنصَر الضعيف، ويتَّجر مَن يتَّجر، ويتعبَّد مَن يتعبَّد، فتقوم به هذه المصالح الدنيويَّة، والأخرويَّة.

وأبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - فسَّر ذلك من جِهة كَونِه قِوامًا للناس الذين لا قِوام لهم من رئيسٍ يحجُز قويَّهم عن ضعيفهم، ومُسيئهم عن مُحسِنهم، وظالمهم عن مظلومهم، فهذا يقصِد به أنَّ ذلك من قَبيل العام المراد به الخصوص[1] بمعنى ما ذكره هنا من قوله: ولفظ (الناس) هنا عام، وهذا هو الظاهر، لكن مَن خصَّه بالعرب، فيكون (الناس) من قَبيل العام المراد به الخصوص، أطلق العام على بعض أفراده.

فقول ابن جرير - رحمه الله - هنا باعتبار أنَّ العرب لم يكن لهم في الجاهليَّة نظام، ولم يكن لهم رئيسٌ يمنع بعضهم من بعض، فكان هذا الحرام يأمنون به، ولا يحصُل فيه اعتداء، فتقوم بذلك مصالحهم الدِّينيَّة، والدنيويَّة، حيث يأمنون فيه، لكن ظاهر ذلك - كما سبق - العموم، وأنَّه لا يختصُّ بالعرب، وهكذا ما يتعلَّق بـ"الهَدي" وما ذُكِر معه؛ (الهَدي، والقلائد)؛ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ؛ يعني كذلك جعلها قِيامًا للناس كما جعَل الكعبة كذلك.

وابن جرير - رحمه الله - يحمِل هذا أيضًا بأنَّه حجَز بكلِّ واحدٍ من ذلك بعضهم عن بعض[2] يعني لم يكن لهم قِيام غير هذا، فهذا الهَدي لا يعتدي عليه أحد، وكذلك هذه القلائد من للِّحاء شجر الحَرم؛ إذا رأَوها عظَّموها، فكانت تكفي لِمَنع المعتدي، والظالم، فبهذا الاعتبار حملَه ابن جرير - رحمه الله -[3] مع كَونِها معالم لدِينهم، ومصالح أمور هؤلاء تقوم بذلك؛ بأن ينتفعوا بهذا الهَدي بالأكل، وينتفعون بجلودِه، وما إلى ذلك.

وهذا المعنى الذي قاله ابن جرير نقَله الحافظ ابن كثير، ولم يعزُه إليه[4] وذكَر ابن كثير بأنَّ الله - تبارك، وتعالى - جعَل هذه الأمور؛ يعني الكعبة، والشهر الحرام، والهَدي، والقلائد، قِيامًا لِمَن يُحرِّم ذلك؛ يعني مَن يعتقده، ويعتبر هذا، وهم العرب، كانوا يعظِّمونه، فهو بمنزلة الرئيس فيهم، يعني الأمم الأخرى كان لهم نظام، ورئيس، وكبير يرجعون إليه، ويحجُز بعضهم عن بعض، أمَّا العرب فكانوا قبائل متفرِّقة متناحرة، يُغِير القويّ على الضعيف، ولهذا فإنَّ مَن نأى عن البيت ما كان يستطيع الوصول إليه إلَّا في الشهر الحرام، فيُقلِّدون هَديَهم من لِحاء شجر الحَرم، فيُعرَف، فيُعظَّم، وكان ذلك كافيًا للذَّبِّ عنه، بهذا الاعتبار حمَله هؤلاء العلماء.

كذلك الكعبة، لكن الذي يظهر أنَّ المعنى أعمّ من هذا - والله أعلم -.

فالله - تبارك، وتعالى - جعَل الكعبة البيت الحرام قِيامًا للناس من العرب، وغيرهم، ولا يزال أمْرُ الناس قائمًا ما كان هذا البيت مطروقًا، يحُجُّ إليه الناس، ويأتونه، فإذا تعطَّل فذلك مؤذِنٌ بخراب العالَم، كذلك ما يحصُل من المنافع، والمصالح؛ من اجتماعهم، وتشاورهم، وتبادل مصالحهم، إلى غير ذلك.

قال: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ؛ قِيل لها ذلك باعتبار أنَّها مكعَّبة؛ يعني مربَّعة، أو لبروزِها، وثبوتِها، كما يُقال للجارية تكعَّب ثديُها يُقال لها: كَعاب، بهذا الاعتبار؛ البروز.

"وَالشَّهْرَ الْحَرامَ؛ يريد جِنس الأشهر الحُـرُم الأربعة؛ لأنَّهم كانوا يكفُّون فيها عن القتال وَالْهَدْيَ؛ يريد أنَّه أمانٌ لِمَن يسوقُه؛ لأنَّه يعلم أنَّه في عبادة لم يأتِ لحرب."

يعني هي قِوامٌ في دِينهم بالثواب يتقرَّبون إلى الله بذلك، وفي دُنياهم بالبيع، والشراء، والأكل، والركوب.

"وَالْقَلائِدَ؛ كان الرجل إذا خرَج يريد الحجَّ تقلَّد شيئًا من السَّمُر."

السمر شجر من العِضاة معروف، يوجَد في أرض الحجاز.

"وإذا رجَع تقلَّد شيئًا من أشجار الحَرَم، ليُعلَم أنَّه كان في عبادةٍ، فلا يتعرَّض له أحدٌ بشيء، فالقلائد هنا هو ما تقلَّده المحرِم من الشجر، وقيل: أراد قلائد الهَدي.

قال سعيد بن جُبير: جعَل الله هذه الأمور للناس في الجاهلية، وشدَّدها في الإسلام[5]."

يعني الله - تبارك، وتعالى - خصَّ هذه بالذَّات بالذِّكر، وإن كانت من أقلّ متعلَّقات الحجّ؛ يعني الهَدي، والقلائد، يعني ليست في منزلة الطواف، والسَّعي، والوقوف بعرَفة، ورمْيِ الجِمار، ونحو ذلك، فبعض أهل العِلم يقول: خصَّها بالذِّكر، وهي الأقل؛ تنبيهًا على أنَّ جميع علائق الكعبة قيام للناس حتى أدنى العلائق، يعني ليست هذه فقط بل المشاعر التي هي أعظم كالوقوف بعرَفة، والمــَـبيت بمُزدلِفة، والمــُـكث في مِنَى، ورمْيِ الجِمار، والطواف بالبيت، والسَّعي بين الصَّفا، والمروة، كلُّ ذلك - والله أعلم -.

"ذلِكَ لِتَعْلَمُوا؛ الإشارة إلى جعْل هذه الأمور قِيامًا للناس، والمعنى: جعَل الله ذلك لِتعلموا أن الله يعلَم تفاصيل الأمور."

ذلِكَ لِتَعْلَمُوا؛ يقول: الإشارة إلى جعْل هذه الأمور قِيامًا للناس؛ يعني لِتعلموا أنَّ الله يعلَم تفاصيل الأمور، أو الأمر ذلك، أو الحُكم الذي حكمناه ذلك لا غيرُه، يعني على تقدير هذا كلُّه، يعني هنا يقول: جعَل الله ذلك؛ قد يكون التقدير: (الأمر ذلك)، أو (الحُكم الذي حكمناه ذلك لا غيرُه)، أو (ذلك الحُكم هو الحقّ لا غيرُه)، وهكذا بحسب الإعراب.

وذكَر ابن جرير - رحمه الله - أنَّه صيَّر ذلك قِيامًا للناس كي تعلموا أنَّ مَن أوجَد لكم هذه المصالح الدنيويَّة لِمَا به قِوامُكم؛ عِلمًا منه بمنافعكم، ومضارِّكم، أنَّه كذلك يعلم جميع ما في السماوات، وما في الأرض ممَّا فيه صلاح عاجِلكم، وآجِلكم، ولتعلموا أنَّه بكلِّ شيءٍ عليم، لا يخفى عليه شيءٌ من أموركم، وأعمالكم، وهو مُحصِيها عليكم حتى يُجازي المحسِن بإحسانِه، والمسيء بإساءتِه.

هذا معنى جيّد في بيان هذا الموضِع؛ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا.

"لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ لفظٌ عامٌّ في جميع الأمور من المكاسب، والأعمال، والناس، وغير ذلك."

وعلى هذا العموم جرى ابن جرير - رحمه الله -[6] وبعضهم يقول: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ يعني: الحلال، والحرام، وبعضهم يقول: المؤمن، والكافر، وبعضهم يقول: العاصي، والمطيع، وبعضهم يقول: الرديء، والجيِّد، واللفظ عام في الآية لا يختصُّ ببعضٍ دون بعض؛ لا يستوي الخبيث، والطيِّب من الذَّوات، الأفراد، الأشخاص، والأعمال، وكذلك أيضًا عموم الأشياء من المطعومات، والمكتسَبات، والمزاوَلات.

  1.  تفسير الطبري (9/5).
  2.  المصدر السابق.
  3.  المصدر السابق (8/29 - 30).
  4.  تفسير ابن كثير (2/10).
  5.  تفسير الطبري (9/8)، وتفسير ابن أبي حاتم (4/1214)، برقم (6856).
  6.  انظر: تفسير الطبري (9/12).