قيل للكعبة كعبة؛ لأنها مكعبة، وبعض أهل العلم يقول: لأنها ناتئة فكل ناتئ يقال له ذلك، ولهذا يقال: الكواعب جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثديها مع أن شكله ليس مكعباً، وكذلك كعب الرِّجل سمي كذلك لنتوئه وبروزه.
قوله تعالى: قِيَامًا لِّلنَّاسِ يقول: "قواماً للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم ومسيئهم عن محسنهم وظالمهم عن مظلومهم" والمعنى جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ كل ذلك قياماً للناس، وهذا القيام للناس يحصل بصور متعددة، ومن ذلك أنه يحجز بين القوي والضعيف؛ لأن العرب لم يكن لهم رئيس مطاع وكانوا يأنفون من ذلك غاية الأنفة، والشريعة التي عندهم بين هذه القبائل هي شريعة الغاب، القوي يأكل الضعيف، فالكعبة المراد بها الحرم فهذا يحرم عليهم التعدي فيه والظلم حتى إن الرجل كان في الجاهلية - على عتوهم وتمردهم فلا أمن ولا قوة تمنع هذا من هذا - كان يرى قاتل أبيه في الحرم ولا يحرك ساكناً مع قوة دوافع الثأر عنده، وكذلك الأمر بالنسبة للشهر الحرام والهدي والقلائد، فالحاصل أنهم في الأشهر الحرم كانوا يعظمونها ولا يتعدون فيها فيحصل لهم بذلك ألوان المصالح، فكانوا يتنقلون في هذه الأشهر الحرم ويسافرون فيها يقصدون البيت الحرام ويأمنون فيها على أنفسهم وتجارتهم وما أشبه ذلك، فكأنها بمثابة قوة تمنع القوي من التعدي على الضعيف، فتقوم نفوسهم وأمنهم وحياتهم ومعايشهم بهذا.
وكذلك الهدي والقلائد حيث كانوا يعلقون على هذا الهدي - وقد يكون كثيراً يغري من رآه - يعلقون عليه القلائد أو يشعرون البدن فإذا رآها من رآها عرف أنها مقدمة مهداة للبيت الحرام فلا يقربها أحد، وربما أيضاًَ هم قلدوا على نفوسهم من لحاء شجر الحرم يطلبون بذلك الأمان فلا يتعرض لهم أحد، إضافة إلى ما يحصل لهم بسبب ما أقامه الله لهم من بيته الحرام من قيام الدين، فهو مظهر لقيام الدين يجتمعون فيه لعبادة الله ويحصل فيه أيضاً ألوان من المصالح الدنيوية من التجارة فيأتون من أنحاء مختلفة يجلبون معهم ما يجلبون من بضائعهم وسلعهم، وتقوم أسواقهم وتزدهر من البوادي ومن القرى، ولهذا قال الله : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة التوبة:28] لذلك فبسبب منع المشركين من دخول الحرم حُرموا مصدراً كبيراً في الاقتصاد فحصل بسبب ذلك كساد خافوا منه فوعدهم الله بإغنائهم من فضله.
فالمقصود أن البيت الحرام وما جعل أيضاً من الهدي ومن القلائد كل ذلك كان سبباً لقيام دينهم وقيام مصالحهم ومعايشهم، والله تعالى أعلم.
وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ [سورة المائدة:97] يقول: وجعل هذه أيضاً قياماً للناس كما جعل في قوله تعالى: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ نحتاج هنا إلى تقدير والمقدر ينبغي أن يكون أليق بالسياق، فما هو الأليق هنا أن يقال: جعل الله نُصب الكعبة قياماً للناس، أو جعل الله حرمة الكعبة قياماً للناس وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ؟
عند التقدير ينبغي أن يُتخير الأليق والأنسب بالسياق، والأليق والأنسب بالسياق هنا حرمة الكعبة ليكون موافقاً لما بعده يعني جعل الله حرمة الكعبة وحرمة الشهر الحرام والهدي والقلائد قياماً للناس.
فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض إذ لم يكن لهم قيام غيره، وجعلها معالم دينهم ومصالح أمورهم، وجعل تعالى الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قِواماً - لمن كان يحرم ذلك من العرب ويعظمه - بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه، وأما الكعبة فالحرم كله، وسماها الله حراماً لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها وكذلك كانت الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قوام أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية وهي في الإسلام معالم حجهم ومناسكهم ومتوجههم لصلاتهم