هنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسر وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ يقول: إن الملك الموكل بعمله يشهد عليه يوم القيامة ويقول: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أي معتد محضر بلا زيادة، ولا نقصان، بعض أهل العلم يقول: إن الملك يخاطب العبد يقول له: تفضل هذا عملك هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا الرصيد، هذا الذي كنت أكتبه وأسجله، هذا الديوان، هذا العمل حاضر من غير زيادة، ولا نقصان كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49].
فكما قال بعض السلف: ضجوا من الصغائر قبل الكبائر، فأول ما ذكروا الصغائر مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ولذلك الإنسان لا يتساهل بالصغائر، ويقول: الله غفور رحيم، انظر إلى هؤلاء ذكروا الصغائر قبل الكبائر، فبعضهم يقول: إن هذا خطاب من الملك هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ يخاطب به العبد، يقول: هذا عملك جاهز، حاضر، من غير زيادة، ولا نقصان، وهذا قال به جماعة كالحسن، والضحاك، وقتادة، وجاء عن مجاهد: أن الملك يقول للرب: هذه الأمانة يا رب، هذا الذي وكلتني به، هذا عمله، سجلته عليه من غير زيادة، ولا نقصان، هذا الذي وكلتني به، هذا ما صدر عنه، وجاء في رواية عن مجاهد: أن ذلك القائل هو قرينه من الشياطين يقول: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ يخاطب الإنسان، يقول: هذا الذي هيأته لك بإغوائي، وإضلالي، وتزييني للمعصية، والمنكر، والباطل هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا الذي أغويتك به، تفضل واجه المصير وحدك، ودافع عن نفسك، هذا وإن جاء في رواية عن مجاهد إلا أنه لا يخلو من بُعد - والله تعالى أعلم -، وهكذا ما جاء عن ابن زيد: أن القائل هو القرين من الإنس - الصاحب - يقول ذلك يتبرأ منه بتلك الحال، ويقول: هذا الذي قدتك إليه واجه مصيرك وعملك، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك من قول الملك هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ هل يخاطب به العبد يقول: هذه أعمالك التي سجلتها لك، أو يخاطب به الرب؟، فهذا يحتمل، فيحكم الله عندها أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ.
على هذا يكون الخطاب لاثنين وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ هذا السائق يسوقها من الملائكة، وهذا الشهيد من الملائكة يشهد عليها، فهذا الشهيد من الملائكة هو الذي يقول: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، فيقول الله لهما: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ باعتبار أن الخطاب لاثنين: السائق والشهيد، هذا الذي مشى عليه ابن كثير، ووجهه ظاهر، فهو أمر للملكين، وسبقه إلى هذا القول الزجاج، وبعضهم يقول: هو خطاب لاثنين لكن ليس للسائق، والشهيد، وإنما لاثنين من خزنة النار، أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ولكن هذا خلاف الظاهر - والله تعالى أعلم -، وبعضهم يقول: إن الخطاب هنا لواحد، إذا كان الخطاب لواحد كيف خرج مخرج الاثنين، كيف عبر بصيغة التثنية؟ فيكون هنا محل سؤال، أو إشكال، فبعضهم يقول: هذا معروف في لغة العرب، وهو صحيح لا إشكال فيه، فيقولون: جرى هذا المجرى تنزيلاً لتثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ وتكريره مثل: ألقِ ألقِ، تقول: قف قف، فيتوسع بالتعبير حينها فيثنى الفاعل لتكرير الفعل، يعني الفعل مكرر ألقِ ألقِ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ وهذا الذي مشى عليه جماعة من أهل اللغة، وأصحاب المعاني، والخليل بن أحمد، والأخفش يقول: إن العرب تخاطب الواحد بخطاب التثنية، يقول مثلاً في الناقة: أرحلاها، وازجراها؛ وهو واحد، خذاه، وأطلقاه، وبأي اعتبار؟ يقولون: إن العادة جرت أن الرجل يكون معه في الأسفار أعوان، يكون معه الذين يرحلون الناقة أو نحو ذلك فيكون في العادة معه رفقة، أدنى الأعوان أن يكون معه اثنان في إبله، وغنمه؛ كما يقوله الفراء، فتجد كلامهم عن الواحد بعبارة موجهة في ظاهر اللفظ لاثنين جرياً على عادتهم، وطريقتهم في المخاطبة، فيقول الرجل: قوما عني، انصرفا عني؛ وعنده واحد، وهذا جاء في قصيدة لامرئ القيس خليلىَّ وهو يخاطب واحداً:
خليليّ مُرا بي على أمِّ جُندَب | نقضّ لُبانات الفؤادِ المعذَّبِ |
وكذلك القصيدة المشهورة له التي مطلعها:
قفا نبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومنزلِ | بسقطِ اللِّوى بين الدخولِ فحَوملِِ |
وأيضاً:
فإنْ تزجراني يا ابن عفانَ أنزجرْ | وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا |
تزجراني وهو يخاطب واحداً، وكذلك ما ينقل عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه عبر بمثل هذا: "يا حرسي خذاه" وهو يتكلم لحارس واحد، وهذا يكون على طريقة العرب أو بناء على التكرير - كما سبق - ألقِ، ألقِ فنزل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل، يعني من باب التوكيد - والله تعالى أعلم -.