قوله - تبارك وتعالى -: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فالقول الذي لا يبدل بعض أهل العلم يقول: المراد بذلك مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة الأنعام:160] الآية، والمشهور أن المراد من ذلك هو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة:13] أن الله قضى بملء جهنم، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وبعضهم يقول: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ بزيادة، ولا نقصان، لا يستطيع أحد أن يكذب كما يقوله جماعة من أصحاب المعاني، بهذا قال الفراء، وابن قتيبة مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لا يستطيع أحد أن يزيف، ويروج كذباً بين يدي الله - تبارك وتعالى - لكونه يعلم الغيب والشهادة، وهذا اختاره الواحدي من المفسرين.
وآخرون يقولون: إنه قال: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ما قال: ما يبدل قولي، يردون على الذين قالوا: إن المقصود مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا أو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قالوا: ما قال: ما يبدل قولي، وإنما قال: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ يعني عندي، لا أحد يستطيع أن يكذب، أو يتزيد، أو نحو ذلك. والمشهور هو الأول الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَي يعني قضيت ما أنا قاضٍ كما يقول مجاهد - رحمه الله -، وهذه من الآيات التي تورِد في هذا المقام مسألة تخلف الوعيد، فالمشهور أن الوعيد يتخلف، وأن الوعد لا يتخلف، ويذكرون البيت المعروف:
وإنِّي وإنْ أوعدتُه أو وعدتُه | لمخلفُ إيعادي ومنجزُ موعدي |
يقول: الكريم ينجز الوعد - يعني بالخير -، ويمكن أن يخلف الوعيد يعني لا يوقع العقوبة، وقلنا: إن هذا ليس على إطلاقه في إخلاف الوعيد، وإن الوعيد الحاصل للكافرين لا يتخلف، ومما يدل على هذا مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ على أحد المعنيين، إن عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [سورة الطور:7-8] فوعيده - تعالى - بالكافرين حاصل لا محالة، وأما الوعد فلا يتخلف، أما وعيده لأهل الإيمان فيمكن أن يتخلف، وهكذا في قوله تعالى: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ فنفى هنا صيغة المبالغة وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ فيرد سؤال: وهو أنه إذا نفيت المبالغة فإن هذا لا ينفي أصل وقوع الظلم، ظَلَّام على وزن فَعَّال يعني كثير الظلم، فنفى عنه كثرة الظلم، لكن هل يكون هذا نفياً للظلم القليل أو لا؟
وقلنا عن هذا أجوبة متعددة منها:
الأول: أن الآيات دلت على أن الله لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [سورة يونس:44] فـ "شيئاً" نكرة في سياق النفي، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [سورة فصلت:46] هذه صيغة مبالغة، ولاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا بدون صيغة مبالغة، فهذه النصوص الكثيرة في نفي الظلم تشمل قليله، وكثيره، فدل على نفي أصل الظلم، هذا جواب باعتبار النصوص الأخرى، أن الله لا يظلم مثقال ذرة، فهذا نفي لأقل الظلم.
الثاني: أن ذلك - يعني صيغة المبالغة - باعتبار كثرة العبيد، يعني فلو وقع لكل واحد مظلمة فهم كثير، فعبر بصيغة المبالغة وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ فلو وقع لكل واحد ولو ظلم يسير فعلى كثرتهم يكون الظلم كثيراً.
الثالث: أن عقاب الله فظيع، لا يُقادَر قدره، فلو أن هذا العذاب وقع على غير مستحق لكان من أعظم الظلم.
الرابع: هذه الصيغة - صيغة المبالغة ظلام -: تأتي في لغة العرب بمعنى النسبة، يعني بمنزلة الياء كقوله:
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها | فاقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي |
فالياء للنسبة، فهنا ظلام وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍِ يكون المعنى: بذي ظلم للعبيد، فهذا يأتي في لغة العرب أي استعمال صيغة المبالغة مراداً بها النسبة، وليس معنى المبالغة، هذه أربعة أجوبة وهناك غيرها.