قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا هذه تدل على التكثير وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ، والمقصود بالقرن هنا الأمة هم أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا أشد من هؤلاء المكذبين لك يا محمد ﷺ، أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ نقّبوا في البلاد، وفي قراءة أبي عمرو فَنَقَبُوا فِي الْبِلادِ والنقب هو الخرق، ويقال للطريق بين جبلين فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هنا للتكثير، زيادة المبنى لزيادة المعنى نَقَّبوا ونَقَبوا، فمن نظر إلى معنى الخرق فسره بهذا، قال ابن عباس: أثروا فيها نقبوا في البلاد يعني بما يعملون فيها من حفر الآبار، وبناء البنايات وما إلى ذلك، فكانت لهم من الآثار في الأرض ما هو مشاهد بقيته وآثاره، وهذه الأشياء عجيبة يعني الأهرام - مثلاً - ولا زالت بقايا، ودفائن، وأشياء تخرج من القصور العجيبة الهائلة التي هي في غاية التزيين، والنحت على هذه المدد، والآماد الطويلة؛ لم يتغير بعضها، فهذا يدل على أن أولئك أوتوا من القوى، والقُدر، والإمكانات؛ ما قد يعجز عنه الناس في عصرنا هذا، والله - تبارك وتعالى - يذكر هذا في مواضع من كتابه، والناس لا يرون إلا عصرهم، فقد يوجد عند بعض الأمم المهلكة من القوى، والإمكانات، والقُدر ما هو أعظم من الإمكانات الموجودة اليوم، والشواهد قد تدل على هذا، آبار تنحت في الصخر كأنها قد نحتت بالآلات في غاية الدقة، هذا لا يمكن أن يكون بمعاول عادية، والصخور حينما ينحت منها البيوت، ويوضع عليها الزخارف، وباقية إلى اليوم؛ فهذا في غاية العجب، ما فعله الناس اليوم، وهذه الأهرامات العجيبة، وما في داخلها أيًّا كان أولئك الذين بنوها هذه في غاية العجب، ولا زال الناس يعجبون من هذا، وما عندهم من الوسائل في حفظ هؤلاء الأموات والجثث إلى غير هذا من الأمور المعروفة التي لربما عُدت من عجائب الدنيا، فهذا المعنى الذي ذكره ابن عباس أثروا فيها، المعنى الثاني الذي قاله قتادة: فساروا في البلاد أي فساروا فيها يبتغون الأرزاق، والمتاجر، والمكاسب فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يعني كما يقول مجاهد: بمعنى طافوا، ساروا في البلاد، ضربوا فيها، فالمشي في الأرض، والتقلب فيها فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يقال له ذلك، يعبر عنه بالتنقيب فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ، وبعضهم يعبر عن هذا يقول: دوَّروا في البلاد، فهي معانٍ متقاربة، وهكذا قول من قال: تباعدوا يعني وصلوا إلى أقاصي الدنيا، أماكن البلاد البعيدة فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يحتمل أن يكون المراد أنهم ساروا طولاً وعرضاً، أو أثروا فيها كما - قال ابن عباس - ولكن هل أغني هذا عنهم من الموت، ومن المصير المحتوم مع هذه القُدر، والإمكانات، والانتقال، أو التأثير في الأرض بتشييد البنايات وغير ذلك مما شيدوا هل أغنى هذا؟ هل دفع عنهم الموت وما أنزله الله - تبارك وتعالى - بهم؟ لم يغن ذلك عنهم شيئاً، هذا معنى، والمعنى الثاني هَلْ مِنْ مَحِيصٍ يعني فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أنهم طلبوا البقاء فراراً من الموت، ولكنهم لم يرجعوا من ذلك بشيء، يعني أن التنقيب تطلّب البقاء، فنقبوا في البلاد هل من محيص.
هل من محيص من ماذا؟ الحافظ ابن كثير يقول: من عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل، وبعضهم يقول: من الموت، وذكر هذا بعض أصحاب المعاني كالزجاج، إذاً الآية تحتمل معنيين، طبعاً مَحِيصٍ هو المفر فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ بمعنى أنهم ساروا فيها طولاً وعرضاً، أو أنهم أقاموا فيها من الأعمال التي اعتملوها وغير ذلك مما شيدوه، فهل أغنى ذلك عنهم، وأورثهم الخلود، والبقاء في هذه الحياة الدنيا، ونجوا معه من الموت مع هذه القُدر، والإمكانات؟، أو من عذاب الله هل أغنى عنهم من عذابه على قول ابن كثير؟، المعنى الثاني: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أنهم ذهبوا وساروا طولاً وعرضاً طلباً للبقاء فواجهوا القدر المحتوم، فنزل بهم أمر الله - تبارك وتعالى -، وإذا قلنا بأن المقصود العذاب أيضاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ طلبوا الخلاص، ولكن نزل بهم أمر الله ، الله - تبارك وتعالى - يذكر هذه الأمم المهلكة أنها كانت أقوى، وأقدر، وأكثر آثاراً في الأرض؛ فما أغني ذلك عنهم، فنزل بهم ما قضاه الله - تعالى - عليهم، ولم يدفع عنهم ذلك تلك القوى، والقدر، والإمكانات من أمر الله قليلاً ولا كثيراً، فأنتم إلى أي شيء تفرون؟ فلا ملجأ من الله إلا إليه، يعني أن الله إذا قضى على عباده أمراً فهو كائن لا محالة مهما كان عندهم من الإمكانات، والقُدر، والقوى لا يستطيعون الخلاص من هذا، والله يرينا من الآيات ما فيه العبرة لمن هدى الله قلبه، فانظر الآن ما يقع من الكوارث التي صار الناس يشاهدونها في كل مكان يقع زلزال، يقع طوفان - كتسونامي -، وترى الناس تتحول ديارهم، وهذه العواصم أو المدن الواسعة الشاسعة إلى حطام، فتكون كالقش أمام أمر الله - تبارك وتعالى - وعذابه إذا نزل بهم، هؤلاء لا يستطيعون الفرار، ليس عندهم قدرة على رد أمر الله لا يمكن أن تغني عنهم هذه العلوم، والدفاعات، والتكنولوجيا وغير ذلك، وإذا نظرت إلى هذه السفن الضخمة، والبواخر يحملها هذا الماء الذي هو أرق الأشياء، ويلقيها بعنف، وإذا بها في وسط المدينة فوق بناياتهم، ويأتي هذا الهواء الرقيق اللطيف فيشتد إذا أراد الله أن يعذب به قوماً فتجده يحمل السيارات، ويحمل كل ما في طريقه، ويلقيه حتى تصير هذه كالهشيم، أو كالحطام المتجمع - نسأل الله العافية - هذا مُشاهد، نشاهد السيول إذا جاءت الأمطار - عندنا - ترون السيارات فوق بعضها تتحول إلى سكراب كما يقال، أو تشليح تجد السيارات فوق بعضها تعوم فوق الماء في مشاهد عجيبة، فإذا جاء أمر الله فلا مرد له، وذلك يحمل العباد على الأوبة، والتوبة، والرجوع إلى الله - تبارك وتعالى -، وألا يغتر الناس بقوتهم، وإمكاناتهم، وعلومهم.