الخميس 01 / ذو الحجة / 1446 - 29 / مايو 2025
إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله : إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى أي لعبرةلِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أي لُبٌّ يعي به، وقال مجاهد: عقل  أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ  أي: استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه، وقال مجاهد: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ يعني لا يحدث نفسه في هذا بغيره، وقال الضحاك: العرب تقول، ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه، وهو شاهد بقلب غير غائب، وهكذا قال الثوري وغير واحد.

قوله -تبارك وتعالى-:إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى"ذلك" الإشارة ترجع إلى البعيد إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى، ابن جرير -رحمه الله- يقول:إن فِي ذَلِكَ يعني: في إهلاك القرون التي عذبها الله واستأصلها، هؤلاء الذين ذكرهم الله -تبارك وتعالى- الذين نَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ  هل من مفر؟، أن في إهلاك هؤلاء  لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ولهذا ذكرت في الكلام عن الأمثال في القرآن أن القصص التي يذكرها الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الأمم وما جرى لهم وما إلى ذلك أنها جميعاً عند شيخ الإسلام ابن تيمية من قبيل الأمثال في القرآن باعتبار أنها ذُكرت للعبرة والعظة، فيذكر الله خبر هؤلاء ليتعظ غيرهم، ولذلك يعقب الله في بعض المواضع على ذكر القصص فيقول:  وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ  [سورة الحشر:21]، وما أشبه ذلك مما يُذكر فيه المثل بعد ذكر خبرهم وقصصهم، إن فِي ذَلِكَ يعني في إهلاك هؤلاء عبرة وعظة،لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ القلب هنا ما المقصود به؟، يقول هنا: قال مجاهد: عقل، قال: هنا: أي لُب يعي به، عبارات السلف متقاربة، بعضهم يقول: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ  يعني القلب المعروف، قلب حي وقَّاد، وبعضهم يقول: عقل، ولا إشكال إذا عرفنا أن موطن وموضع العقل في القلب كما دل عليه القرآن، فالإنسان إنما يعقل بقلبه، وقد مضى الكلام على هذا في أول الأعمال القلبية، وإن كان له نوع اتصال بالدماغ، ولكن مستقر العقل هو في القلب، إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ بعض أهل العلم يقول: التنكير هنا في القلب، لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أي: قلب حي وقّاد كامل الحياة، فهذا الذي يعتبر وينتفع الانتفاع الكامل، وبعضهم يعكس المعنى، يقول: إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ  يصدق على أدنى ما يمكن أن يقال له ذلك، يعني ولو كان فيه أدنى حياة، ولو كان فيه أدنى عقل فإنه يتذكر بهذه العقوبات والمَثُلات التي أوقعها الله بهؤلاء المجرمين إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ إذا عرفنا أن التذكر والاعتبار والاتعاظ يحصل بقدر ما يكون عند الإنسان من الحياة في قلبه فهو يزيد وينقص، فمن كان قلبه حياً الحياة الكاملة وقاداً فإنه ينتفع بالعبر والعظات الانتفاع الكامل، ومن نقص فيه من هذا الوصف نقص فيه من الاعتبار ومن الاتعاظ بقدره حتى يصير القلب إلى حال من الموت لا يعقل معه شيئاً؛ ولهذا الله -تبارك وتعالى- يقول: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7]، ووصفهم بأنهم: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة:18]، فهؤلاء لا يعقلون ولا يصل إلى قلوبهم شيء، وقالوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة البقرة:88] مغلفة،وقالوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ[سورة فصلت:5]، يعني لا يصل إلى هذه القلوب شيء فلا تنتفع الأدوات التي يحصل فيها اقتباس العلم والمعرفة، وما يصل إلى القلب مما يحصل به العظة والعبرة عن طريق السمع والبصر، لا يصل من هذا شيء لأنهم عمي وصم، فهذا إذا كان القلب في حال من الموت الكامل وصار عليه الرَّان فأطبقت عليه الغفلة فهذا لا ينتفع، إنما الذي ينتفع من كان له قلب، وهنا قال:أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌيقول: أي: استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه، وقال مجاهد: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ يعني لا يحدث نفسه في هذا بغيره،أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ شاهد القلب، يعني هو فسر أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ  بشاهد القلب يعني إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يعني لا يحدث نفسه بغيره، أي قلب حاضر، هذا قول مجاهد،إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ  أي حي، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ يعني لا يحدث نفسه بغيره، وَهُوَ شَهِيدٌ شاهد القلب، هذا كلام مجاهد، هنا قوله -تبارك وتعالى-:أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ الإلقاء هنا يدل على الإصغاء التام، ألقى سمعه بمعنى أنه كان في غاية الإنصات،أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌولهذا يقال في تدبر القرآن، والانتفاع بالقرآن، وعند قراءة القرآن أمر الله فقال:فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[سورة الأعراف:204] ما قال اسمعوا بل قال: استمعوا أمر بالاستماع والإنصات، وما معنى الإنصات؛ لابد يشتغل عنه بغيره بمعنى ممكن الآن وأنا أستمع المذياع، أستمع المسجل أستمع القارئ يقرأ ممكن في نفس الوقت أشتغل بالكتابة، أو المرأة تطبخ، أو تغسل الأواني، أو أنه يشتغل بكتابة رسائل بالجوال، أو يقرأ رسائل بالجوال، أو يقرأ في تويتر، أو غير ذلك، هل هذا منصت، هل هذا محقق لأمر الله؟ الجواب لا، يدل على هذا: الخطيب يوم الجمعة بماذا أمر النبي ﷺ أو ما الذي ذكره،من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب، ثم دنا.. [1]، والحديث الذي ذكر فيه الإنصات ماذا قال النبيﷺ: من مس الحصى فقد لغا [2]، وأنه: إذا قال لصاحبه: أنصت فقد لغا [3]، فمس الحصى وهو جالس يستمع إلى الخطيب فقط مس الحصى، لو أنه قاعد يلمس الكيس أو أنه بجواله يضعه على الصامت أو على غيره، أو يقرأ رسالة ماذا يعتبر هذا أنصتَ أو لغا؟، يعتبر لغا مع أنه يستمع، لكن يده مشغولة بشيء آخر، فهنافَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ليس معنى أنصتوا استمعوا؛ لأنه قال: استمعوا فليس من قبيل التأكيد، هو معنى آخر تفهمه على ضوء هذه الأحاديث والنصوص الأخرى: من مس الحصى فقد لغا ؛ لأنه غير منصت، منشغل بهذا الذي ينشغل فيه، ذلك لو أردت أن تعرف هذا وتدرك هذا المعنى استمع لشريط وأنت بالسيارة لا تحصل في الغالب، أكثر من ثلاثين بالمائة من المعاني، استمع إليه مرة ثانية تشك أحياناً هل أنت سمعته، أو لا، ليس بعد شهر لا، إعادة مباشرة، ستجد أن كثيراً من المعاني فاتت؛ لأن التركيز غير موجود إلا جزءاً قليلاً منه ؛ لأن الإنسان مشغول بشيء آخر فهو غير منصت، الآن لو واحد في الدرس وجالس طول الوقت أثناء الدرس ومعه الجوال ويقول: أنا معك أستمع هل يستمع؟، فهذا معنى في غاية الأهمية إذا أردنا أن ننتفع بالقرآن حال الاستماع فعلينا أن نستمع بالإضافة إلى الإنصات، أن ننصت. أن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ يعني هو في غاية الإنصات، قال الضحاك: العرب تقول ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه، وهو شاهد بقلب غير غائب، وهكذا قال الثوري وغير واحد هنا هل يعني هذه في حالين، أو هي حال واحدة اجتمع فيها الوصفان، يعني مجيء، "أو" هنا هل تدل على حالتين، أو أنها حالة واحدة جمعت بين وصفين؟، قولان لأهل العلم وإن تفرقت أقوالهم وتعددت وتنوعت عباراتهم، بعضهم يقول: إن قولهإن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ  هذا المؤمن، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا في أهل الكتاب، إذا استمعوا وأنصتوا كانت قلوبهم حاضرة عند الاستماع؛ لأنهم ليس لهم قلوب حية، كفار، فإنهم يحصل لهم التذكر في ذلك، وهذا قال به جماعة من السلف قتادة ومجاهد والحسن، أنها في أهل الكتاب، وابن القيم -رحمه الله- رد هذا المعنى، ولذلك قال بعض السلف كمحمد بن كعب القرظي وأبي صالح: إنها في أهل القرآن، وهذا هو الصحيح، يبقى السؤال إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ، إن قلنا في أهل القرآن هل هي لحالين، أو لحال واحدة؟، بعض العلماء يقول: هي لحالتين  إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، بعضهم كابن القيم -رحمه الله- يقول: الإنسان على حالين إما أن يكون حي القلب -الحياة الكاملة- فهذا يحصل له التذكر بأدنى تنبيه، ومن كان دونه -الحالة الثانية- هذا يحصل له التذكر إذا ألقى السمع، أنصت وأحضر قلبه حال الاستماع، يعني الأول يحتاج لأدنى تنبيه ويحصل له التذكر، الثاني يحتاج جهداً أكبر؛ لأن القلب هذا ضعيف، فيحتاج إلى جهد مضاعف من أجل أن يحصل التذكر، مثل الذين عندهم صعوبات تعلم يحتاجون جهوداً أكبر في التعليم، فابن القيم جعله على هاتين الحالتين، أنه إما أن يكون قلباً وقاداً كامل الحياة، وإما أن يكون دون ذلك، وبعضهم يقول: إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ  إن الأشياء يعني إما أن يكون الإنسان شاهدها فيعتبر بقلبه، وإما أن تكون أشياء بلغته، تقص عليه يُخبر عنها فهذا يحتاج إلى أن ينصت ويحضر قلبه فينتفع، ولو قيل بأن ذلك المقصود به-والله أعلم- إن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حي وقاد كامل الحياة،  أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ يعني قد لا يكون له هذه الحياة الكاملة لكنه إن أحضر قلبه حال السماع وأنصت فإنه ينتفع، فهذا المعنى قريب باعتبار أن الكفار إذا استمعوا القرآن- من أراد الله هدايته-، وأخبار المشركين في مكة -مثلاً- لما كانوا يستمعون القرآن، جبير بن مطعم لما سمع النبي ﷺ يقرأ في المغرب سورة الطور وبلغ قوله:أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [سورة الطور:35] قال: "كاد قلبي أن يطير"[4]، وغير ذلك من أخبارهم وهم كفار، لكنه أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، أحضر قلبه حال الاستماع، لكن لا يقال: هذا قلبه كامل الحياة في حال الشرك، فالذي ينتفع ويتذكر من كان له قلب حي، أو يحضر قلبه حال السماع وينصت ولا يشتغل عنه بغيره فينتفع ويتأثر، ولذلك قال الله :وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ[سورة التوبة:6]، فسماعهم للقرآن يكون له أثر إذا حصل معه الإنصات وإحضار القلب، وبعض العلماء يجعل ذلك في حالة واحدة ويجعل "أو" بمعنى الواوإن فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ قد يكون له قلب حي ولكنه غير مهيأ تلك الساعة حال الاستماع، أو أنه مشغول بشيء آخر غير منصت، فهنا لا يحصل له الانتفاع، بحيث إن الاستماع لا يكفي في حياة القلب، فإن القلب قد يكون في مكان آخر تلك اللحظة، مشغول بشيء آخر، فيقرأ عليه القرآن إذا كان متهيئاً، أو يسمع القرآن، أو يقرأ القرآن من أجل أن يحصل له التدبر والتفكر والاعتبار، وهذا معنى قريب، ولا شك أن هذه الأمور الثلاثة مطلوبة بحيث إن الإنسان يكون له قلب حي وفي الوقت نفسه يحضر هذا القلب عند الاستماع، أو القراءة، وإلا فإذا كان قلبه حياً لكنه مسافر، مشغول، غائب، في مكان آخر فإنه لا يحصل له الاعتبار والاتعاظ، أو التفكر، أو التدبر فلابد من الأمور الثلاثة: حياة القلب وحضور القلب والإنصات والاستماع، فإذا وجد هذا حصل الانتفاع الكامل، فإذا نقص شيء من هذه الأمور، نقص من هذا الاعتبار، نقص واحد من هذه الأمور الثلاثة نقص الانتفاع بقدره، وكلام أهل العلم على هذا كثير وطويل، شيخ الإسلام له كلام كثير، وابن القيم له كلام كثير في مثل: مفتاح دار السعادة، والوابل الصيب وغير ذلك من الكتب، تكلم عليها طويلاً، وكذلك شيخ الإسلام في مواضع من كتبه، وكلام المفسرين على هذا كثير ويطول.

  1. رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم (345)، والنسائي، كتاب الجمعة، باب فضل المشي إلى الجمعة، برقم (1384)، وأحمد في المسند، برقم (16173)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، غير أن صحابيه لم يخرج له إلا أصحاب السنن"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (1388).
  2. رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم (857).
  3. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، برقم (934)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، برقم (851).
  4. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [ق:39]، برقم (4854).