هذا كله تطمين للنبي ﷺ وتسكين له وتصبير، ولهذا قال الله في الآيات السابقة:فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ هذا وغيره من الآيات التي في هذا المعنى كما في سورة الدهر من قول الله -تبارك وتعالى-:إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أو كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا[سورة الإنسان:26] هذه الآيات كلها يؤخذ منها معنى كبير، وهو أن الصبر على أعباء الدعوة وتحمل المشاق والأذى الذي يلقاه الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- وما إلى ذلك مما يعانيه الإنسان، فإن الطريق إلى تحمل هذه الأعباء هو الصبر الذي يعين عليه هذه الأمور المذكورة هنا في قوله تعالى:فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِقيام الليل، المحافظة على الصلوات لاسيما العصر والفجر، بالإضافة إلى التسبيح والإكثار من الذكر لله-تبارك وتعالى-، ولهذا ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي-رحمه الله- في هذا المعنى أن من أعظم ما يستعان به على تحمل الأذى هو المحافظة على هذه الصلوات بالإضافة إلى التسبيح والذكر في طرفي النهار، فلا يصح أن يكون الداعية متلاشياً خاوياً ضعيفاً هشاً ومفرطاً في الصلوات لا يأتي إلا في أواخر الصفوف وهو قليل الذكر لله -تبارك وتعالى- غافل، ثم يكون بعد ذلك داعية فإذا أصابه الأذى حصل له تراجع وانكسر وصدر عنه ما لا يليق من الكلام، أو الفعال التي توقعه في حرج أمام الناس، وقبل ذلك أمام الله وينسى المبادئ التي كان يدعو الناس إليها، وحينما كان يصبرهم ويثبتهم، فيكون أول من ينكسر ويضعف وينهزم إذا ابتلي، فلابد من هذه الأمور، والذين يتحملون أعباء أكبر من الجهاد في سبيل الله بقتال الكفار وما إلى ذلك هم أحوج إلى هذه المعاني، والجميع بحاجة إليها، ولهذا قال الله : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ[سورة البقرة:45]، فهذه الصلاة من أعظم ما يقوي القلب ويثبت الجنان ويجعل العبد في حالٍ من الصلة بالله -تبارك وتعالى- تتلاشى معها المخاوف، لكن بقدر إقامته لها وحضور قلبه يحصل له من الصبر والثبات، ولهذا كان النبيﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، هذا معنى نحتاج إليه، وقوله -تبارك وتعالى-: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ[سورة البقرة:45] يدخل فيه الاستعانة بها على طاعة الله إقامة العبودية لله -تبارك وتعالى-، والنهوض بالتكاليف الشرعية، وترك المحرمات، والصبر على أقدار الله المؤلمة اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ الاستعانة بها على المشاق في هذه الحياة الدنيا، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ[سورة البلد:4] الذين يقيمون الصلاة كما أمر الله -تبارك وتعالى- هم أكثر الناس ثباتاً وتماسكاً، ولذلك في الإحصاءات التي تقرؤها هنا وهناك في دراسات تقام فيما يتعلق بالكآبة والانتحار ونسب الانتحار واستبانات توزع وأشياء تخرج من حين لآخر في مواقع وأماكن وبلدان مختلفة، حتى المخدرات، فنجد أن الذين يحافظون على الصلوات الخمس أبعد ما يكونون عن هذه الرزايا والبلايا بأنواعها؛ لأنه يحصل لهم من الثبات والصبر والطمأنينة والراحة مالا يحصل لغيرهم، ولكن بقدر إقامة الإنسان لها يجد من هذه الآثار، فهذا المعنى نحتاج دائماً أن نتأمله، أولائك الذين ينهزمون وينكسرون -نسأل الله العافية للجميع- الذين يضيقون ذرعاً بالمصائب والآلام فتتعاظم في نفوسهم الهموم والمخاوف، هؤلاء يحتاجون إلى مراجعة لهذا المعنى، وكلنا نحتاج إلى ذلك.
وقوله -تبارك وتعالى-:وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍأي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك مما كلفت به، ثم قال : فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ أي بلغ أنت رسالة ربك فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده، كقوله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40]، وقوله : فَذَكِّرْ إنما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [سورة الغاشية:22]، لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة البقرة:272]، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء[سورة القصص:56]، ولهذا قال تعالى هاهنا:وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يا بار يارحيم.
آخر تفسير سورة "ق"، والحمد لله وحده، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هنا خص الله -تبارك وتعالى- بالتذكير بالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ باعتبار أن هذا هو الذي ينتفع، وإلا فإنه يذكر بالقرآن الجميع، ولكنه خص المنتفعين بذلك كما قال الله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] فهؤلاء هم الذين ينتفعون به ويهتدون، والله -تبارك وتعالى- يقول:إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [سورة فاطر:18]، فإقامة الصلاة هنا وأثرها في الانتفاع بالموعظة والنذارة هذه معانٍ تتكرر في القرآن، لو قرأناه بتدبر وتفكر وتمعن لحصل في ذلك من الانتفاع ومعالجة جميع الجوانب التي نحتاج إليها مما لا نحتاج معه إلى فلسفات وتنظير وكلام كثير ننشئه من عند أنفسنا، أو نستمده من غيرنا، كتب مترجمة ونحو ذلك، والله المستعان.
تنبيه على ما مضى من كلام ابن كثير -رحمه الله- في العبارة التي ذكرها عند قوله تعالى:يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا قال: وذلك أن الله ينزل مطراً من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور، فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض فيقول الله : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فترجع كل روح إلى جسدها إلى آخر ما ذكر.
هذا الكلام الحديث فيه عن أمور غيبية، وابن كثير -رحمه الله- ذكره على أنه رواية في موضع آخر،فهاهي المواضع التي ذكر الحافظ ابن كثير فيها هذا الكلام: في سورة الأنعام قال عنه: "هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وفي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ، تَفَرَّدَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ قَاصُّ أهل الْمَدِينَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَثَّقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَهُ، وَنَصَّ عَلَى نَكَارَةِ حَدِيثِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاس، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَحَادِيثُهُ كُلُّهَا فِيهَا نَظَرٌ إِلَّا أنه يَكْتُبُ حَدِيثَهُ فِي جُمْلَةِ الضُّعَفَاءِ".
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أيضاً: "وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ أَفْرَدْتُهَا فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَمَّا سِيَاقُهُ فَغَرِيبٌ جِدًّا، وَيُقَالُ: إنه جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَجَعَلَهُ سِيَاقًا وَاحِدًا، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ: إنه رَأَى لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ مُصَنَّفًا قَدْ جَمَعَ فِيهِ كُلَّ الشَّوَاهِدِ لِبَعْضِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ".
رواه الطبراني في الطوال، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في البعث والنشور، والحديث بهذا السياق لا يصح ولبعضه شواهد، ما سبق نجده في سورة الأنعام عند قوله -تبارك وتعالى-:وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... الآية [سورة الأنعام:70].
وفي سورة النمل عند قوله تعالى:مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ[سورة النمل:89] قال -رحمه الله-: "وفي حديث الصور أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح" إلى آخر ما ذكر.
وهنا في سورة "ق" لم يذكره على أنه حديث، وصرح برفعه في المواضع السابقة.