الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَبِٱلْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم إنه تعالى بيّن إحسانهم في العمل فقال -جل وعلا-: كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [سورة الذاريات:17].

الهجوع أصله أو يطلق ويقال لنوم الليل خاصة، ونوم النهار لا يقال له: هجوع،كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، ويبقى النظر في معنى قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، فهذا اللفظ يحتمل معانيَ متعددة؛ ولهذا اختلفت فيه أقوال المفسرين، وسبب هذا الاختلاف يرجع إلى النص، والنص يحتمل.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال -جل وعلا-: كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ[سورة الذاريات:17] اختلف المفسرون في ذلك على قولين:

أحدهما: أن "ما" نافية، تقديره: كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه، قال ابن عباس لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً.

وقال قتادة عن مطرف بن عبد الله: قلَّ ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله ، إما من أولها وإما من أوسطها.

 وقال مجاهد: قلَّ ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون، وكذا قال قتادة.

وقال أنس بن مالك وأبو العالية: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.

والقول الثاني: أن "ما" مصدرية، تقديره: كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم، واختاره ابن جرير، وقال الحسن البصري:كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ: كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار بسحر.

وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن انجفل...

 فقوله -تبارك وتعالى-:كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ عرفنا أن الهجوع هو النوم في الليل خاصة، وهذه الأقوال التي ذكرها مرجع الخلاف فيها وسبب الإشكال هو "ما" هذه، فمن قائل: إنها نافية -كما ذكر في القول الأول- وعلى هذا فالمعنى كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ  يعني: أن هؤلاء مُدحوا، مدحهم الله وأثنى عليهم بأن لهم نصيباً من الليل قليلاً -وقتاً يسيراً- لا ينامون فيه، يصلون، مدحهم بأنهم يخصون وقتاً يسيراً من الليل للصلاة،كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، في وقت قليل من الليل لا يهجعون، هذا معنى، وهذا الوقت هل أنهم يصلون ما بين المغرب والعشاء، فهذا وقت من الليل؛ لأن الليل يبدأ من غروب الشمس، وكما ورد عن بعض السلف أنه في رمضان كان يقرأ ما بين المغرب والعشاء ويقول: هذا وقت غفلة، ومنهم من كان يصلي بين العشاءين، لكن هذا لا يقال: إنه قيام الليل، ليس ذلك بقيام الليل، ومن أهل العلم من يقول: يصلون من الليل وقتاً يسيراً، لكن هل هذا هو ما دل عليه السياق، كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، مع قوله تعالى:قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا[سورة المزمل:2]، و تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا[سورة السجدة:16]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أنهم يحيون كثيراً من الليل في الصلاة، فهذا القول فيه بُعد، أن "ما" نافية بمعنى أن وقتاً يسيراً من الليل يحيونه بالصلاة، لم يمدحهم بصلاة عشر دقائق من الليل، ليس السياق في هذا، وهكذا قول من قال: كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ عكس هذا القول، لا يهجعون قليلاً بمعنى أنهم يحيون الليل كله، ما يهجع قليلاً ولا وقتاً يسيراً، وهذا أيضاً فيه إشكال، فخير الهدي هدي محمد ﷺ، والله ما قال له: قم الليل كله،قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ۝ نِصْفَهُ [سورة المزمل:2-3]، وكذلك في آخر السورة -سورة المزمل-، وكذلك ما جاء عن النبي ﷺ في قيام داود وصلاة داود ﷺ، فكان يصلي صلاة لا تستغرق كل الليل، ولا يشرع للإنسان في غير العشر الأواخر من رمضان أن يحيي الليل كله، فهذا خلاف هدي النبي ﷺ، وفي قصة سلمان الفارسي المعروفة:إن لنفسك عليك حقاً [1]، فنهاه أن يصلي الليل كله، وأقره النبي ﷺ على ذلك، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص لما كان يحيي الليل فالنبي ﷺ لم يقره على هذا، فليس المقصود بهذه الآية -والله تعالى أعلم- أن الله مدحهم أنهم يصلون وقتاً يسيراً، ولا أنهم لا ينامون وقتاً يسيراً، ما ينامون ولو قليلاً من الليل، ليس هذا ولا هذا، والله أعلم.

ومن أهل العلم من يقول: إن "ما" هذه صلة، يقصدون زائدة إعراباً،كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ يعني: قليلاً من الليل، وقتاً من الليل الذي يهجعونه، أو هجوعهم قليل، فإذا حذفت "ما" هذه صار المعنى كانوا قليلاً من الليل يهجعون. بمعنى أنهم يصلون وقتاً أطول، وهكذا قول من قال: إنها موصولة، كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعون، وهكذا قول من قال: إنها مصدرية كانوا قليلاً من الليل هجوعهم، وهذه كلها ترجع إلى معنى واحد، وهو أن الله مدحهم بأنهم يصلون من الليل صلاة طويلة، وقتاً طويلاً،  تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة السجدة:16]، فهذه الآية تدل على أنهم يضّجعون، لا يصلون كل الليل، ولكن لا يستغرقون في نومهم فينامون نوماً طويلاً فيتركون صلاة الليل، يصلون من الليل صلاة طويلة كثيرة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-، أن الله مدحهم بطول الصلاة في الليل وبكثرتها، بإحياء كثير من الليل في القيام،كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [سورة الذاريات:17-18]، يصلون إلى السحر، ينامون بعض الليل، ويستغفرون في وقت السحر.

وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه ﷺ عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول:يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام[2].

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر -ا- قال: إن رسول الله ﷺ قال:إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فقال أبو موسى الأشعري : لمن هي يا رسول الله؟ قال:لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائما والناس نيام[3].

وقوله :وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[سورة الذاريات:18]، قال مجاهد، وغير واحد: يصلون، وقال آخرون: قاموا الليل، وأخروا الاستغفار إلى الأسحار، كما قال تعالى:  وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ [سورة آل عمران:17]، فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن.

قوله:وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ هل المراد بهذا الاستغفار أنه صلاة،كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، يعني: يصلون، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ؟، من أهل العلم من فسره بالصلاة باعتبار أن هذا المصلي يطلب مغفرة الله، فهو سائل بفعله، وقد يكون سائلاً بقوله حينما يستغفر في صلاته، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، فهذا الذي يصلي من الليل أو بالسحر إنما يطلب مغفرة الله -تبارك وتعالى-، والمعنى الظاهر المتبادر هو أنهم في السحر يستغفرون، يعني: يطلبون المغفرة بقولهم: أستغفر الله، أو نحو هذا، هذا هو الظاهر المتبادر، وهذا أمر معروف، وهو أنه يشرع للإنسان أن يستغفر كما ورد عن النبي ﷺ بعد الصلاة، فكان إذا انفتل من الفريضة يقول: أستغفر الله، ثلاثاً، ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام...[4]، فيستغفر بعد هذا، والله  يقول:فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[سورة البقرة:200]، ويكون ذلك الاستغفار بعد العمل الطيب الصالح من القيام، يستغفر في السحر؛ لأن الإنسان لا يخلو في عمله من تقصير فيحتاج إلى استغفار، وهو بهذا يطرد العجب عن نفسه، فلا يكون مُدِلاً على ربه -تبارك وتعالى- بهذا العمل، يستكثره ويستعظمه، فهذا قد يحبط العمل الصالح، والله أعلم.

وهنا يقول: فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن، يكونون جمعوا بين هذا وهذا، وهذه الآية تدل على فضل الاستغفار في السحر.

وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله ﷺ أنه قال:إن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر[5].

وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخباراً عن يعقوب : أنه قال لبنيه: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي[سورة يوسف:98] قالوا: أخرهم إلى وقت السحر.

الذين قالوا بهذا -أعني التأخير- أخذوه من سوف،سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ[سورة يوسف:98]، فهي تدل على التأجيل، لماذا لا يستغفر في الحال؟ قالوا: أخرهم إلى وقت السحر، وهذا يحتاج إلى دليل، لكنهم أخذوا ذلك من هذه اللفظة سَوْفَ.

  1. رواه أبو داود، أبواب قيام الليل، باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة، برقم (1369)، والترمذي، في كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، برقم (2413)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1239).
  2. رواه ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام، برقم (3251)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7865).
  3. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (6615)، وقال محققوه: "حديث حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف"، والحاكم في المستدرك، برقم (1200)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
  4. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (591).
  5. رواه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم (1145)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، برقم (758).