كثيراً ما نذكر وجه الجمع بين الصلاة والزكاة في كثير من المواضع في القرآن، وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43]، فهنا ذكر الصلاة بالليل، وذكر أيضاً الإنفاق، إنفاق الأموال في مرضات الله -تبارك وتعالى-، وسعادة العبد دائرة بين أمرين: حسن الصلة بالله ورأس ذلك بالصلاة، والإحسان إلى الخلق وأعظم ذلك بالزكاة، وهذا لا ينافي قول من قال: إن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، وإن الزكاة هي رأس العبادات المالية؛ لأن العبادات إما مالية وإما بدنية، وإما مركبة من هذا وهذا، لا تخرج عن هذه الأقسام.
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أما السائل فمعروف، وهو الذي يبتدئ بالسؤال، وله حق.
وأما المحروم فقال ابن عباس، ومجاهد: هو المُحَارَف الذي ليس له في الإسلام سهم.
يعني:وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ[سورة المعارج:24]، هذه السورة مكية بالإجماع، ومعروف كلام العلماء -رحمهم الله- هل الزكاة فرضت بمكة أو لا، وسورة الأنعام سورة مكية، وقد قال الله فيها:وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ[سورة الأنعام:141]، فما هذا الحق؟
العلماء اختلفوا فيه، فمنهم من قال: هذه الآية من سورة الأنعام مدنية، وفسروها بالزكاة، ومنهم من قال: هذه الآية ليست في الزكاة وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، وإنما هو شيء يُعطَى وقت الحصاد غير مقدر، ثم نسخ بالزكاة، وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، والأقرب -والله أعلم-: أن أصل الزكاة فرض بمكة من غير تقدير وتحديد للأنصباء، ثم بعد ذلك في المدينة فصلت هذا التفصيل: أنواع الأموال الزكوية، ومقادير الأنصباء، وما أشبه ذلك، هذا كله في المدينة، فالآية مكية -أعني من سورة الأنعام-، وهنا هذه السورة مكية وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ هل هذا الحق هو الزكاة؟ أو أنه حق جعلوه على أنفسهم ولم يوجبه الله عليهم؟ وقد جاء في الحديث: إن في المال حقاً سوى الزكاة[1]، فمن قائل: إن هذا قد نسخ بالزكاة، ومن قائل: إنه موجود لكنه شيء يُعطَى غير مقدر كما دلت عليه آية الأنعام، ويقول هنا في تفسير المحروم: قال ابن عباس -ا- ومجاهد: هو المُحَارَف الذي ليس له في الإسلام سهم، يعني ليس له سهم من الغنيمة مثلاً، ما عنده سهم يستغني به، والمقصود بالمُحارَف: هو الشخص الذي يطلب ويبتغي ويكتسب يعني لا يكسب مالاً لكنه يطلب ذلك ويروح ويجيء ويعمل ولكنه لا يخرج بطائل، يعني: أنه لا يحصل له كسب، يعمل ويزاول أعمالاً من أول النهار إلى آخر النهار، لكنه لا يخرج بنتيجة، فالله قد قدر له هذا، صار في ضيق من العيش، قدر عليه رزقه، والله جعل الخلق في هذا التفاوت الذي نراه في المعايش والمكاسب لحكمة يعلمها، ومن الناس من يعمل عملاً يسيراً تافهاً ويكتسب الملايين في لحظات، ومن الناس من يجد ويجتهد ويعمل أعمالاً كثيرة تستغرق عليه يومه وليلته ولا يجد قوتاً، فهذا المُحارَف هو الذي يعمل ولكنه لا يخرج بنتيجة، ليس عنده مال يكفيه، هذا المحروم على هذا التفسير.
يعني: لا سهم له في بيت المال، ولا كسب له، ولا حرفة يتقوت منها.
وقالت أم المؤمنين عائشة -ا-: هو المُحَارَف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه.
وقال قتادة والزهري:الْمَحْرُوم: الذي لا يسأل الناس شيئاً.
المحروم الذي لا يسأل الناس شيئاً، هذه المعاني التي ذكروها للسائل والمحروم كلها صحيحة، وكذا قول من قال: إنه مَن أصابته جائحة ذهبت بماله، حرم ماله، فهو يستحق أن يعطى وأن يلتفت إليه، وهكذا قول من قال: إنه المملوك، محروم؛ لأنه لا مال له، كل ما يكتسب فهو للسيد، وهكذا قول من قال: الكلب، فالكلب يزجر ويطرد إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ[سورة الأعراف:176] تحمل عليه يعني تدفعه وتطارده.
أَمَا تَرَى الأُسْدَ تُخشَى وهي صامتةٌ | وَالكَلْبُ يَخْسى لَعَمْرِي وَهو نَبَّاحُ |
يَخْسى، فهذا قال به بعض السلف، أن المراد به الكلب، وهذا من باب التفسير بالمثال، فكل واحد من هؤلاء ذكر مثالاً على ما يصدق عليه أنه محروم يحتاج أن يلتفت إليه ويعطى، وكل هذه المعاني لا إشكال فيها، وكلها صحيحة، وإن استشكل هذا بعض أهل العلم، مثل الشعبي -رحمه الله- إمام من أوعية العلم- كان يقول: منذ احتلمت وأنا أتطلب معنى المحروم، ولم أصل فيه إلى شيء إلى يومي هذا، يقول: ما عرفت معنى المحروم، لكن هؤلاء العلماء فسروا المحروم بهذه التفسيرات، وكل ذلك صحيح، فالمحروم هو المحروم، لا يسأل ولا يُتفطن له، ليس عنده وظيفة تكفيه ولا دخل ثابت، وليس عنده تجارة، وإذا ذهب هنا وهناك يطلب الرزق يخرج صفر اليدين، وهكذا كل من كان بهذه الصفة -ليس عنده ما يكفيه- فإنه محروم، ويحتاج إلى أن يحسن إليه، والله لم يجمع عليه حرمانين، حيث حرمه قدَراً فأمر شرعاً بإعطائه والإحسان إليه ورعايته، والله أعلم.
هذا الحديث يدل على معنى المحروم هو لا يسأل فلا يتفطن له، ما عنده شيء يكفيه إن تطلب لم يربح، وليس له سهم في بيت المال ولا الفيء ولا الغنيمة، فهو ما عنده كفاية، مثل ابن القيم -رحمه الله- يفسر المحروم بالذي لا يسأل الناس فلا يتفطنون له، وهذا معنى صحيح، وكل المعاني التي ذكرها السلف لا تنافي هذا، ولهذا يحمله مثل ابن جرير -رحمه الله- على أعم معانيه، كل المعاني التي ذُكرت داخلة تحته؛ لأن أصل معنى الحرمان المنع، فهذا محروم أي أنه ممنوع لا يصل إليه رزقه، لا يسأل وليس عنده كفاية، لا من تجارة ولا غيرها.
- رواه الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة، برقم (660)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (979)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (1903).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (3636)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف".