هذا مشى عليه كثير من المفسرين, ذات الجمال, كما قال الله : إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ[سورة الصافات:6], زيّنا, فهي مزينة, أي ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء, مكتملة الخلقة, ليس في خلقها تفاوت, كما قال الله :مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ [سورة الملك:3],الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ[سورة الملك:3], هل ترى من تشقق؟ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [سورة الملك:4-5], فالله أتقن خلقها وسواه, وجعلها مزينة بالنجوم, وجعلها بهية حسنة, فهذه المعاني قالها كثير من السلف
فذلك الحبك, يعني الحبك كما يقال: كل شيء أحكمته وأتقنته فقد حبكته واحتبكته, وتقول: هذا قد حبك في صناعته مثلاً, وفي الثوب والنسج, وكل شيء أحكمت نسجه فقد حبكته واحتبكته, تقول: هذا محبوك أي: محكم متقن الصنع, والله قد وصف السماء بهذا,وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ يعني: أن خلقها متقن محكم مشدود, ليس فيه تفاوت, وجعلها الله كما نراها بهية حسنة مزينة بالنجوم, فهذا معنى, والمعنى الثاني الذي ذكره بعده يقول: مثل هذا التموج الذي نراه في الماء الدائم إذا ضربته الريح, الماء إذا جاءت الرياح عليه يكون فيه تمويج, وكثيب الرمل إذا جاءت عليه الرياح يكون فيه تمويج,وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ , فهي سقف كما وصفها الله وأخبر عنها وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [سورة الأنبياء:32], وهذا السقف في خلقه جعله الله -تبارك وتعالى- بهذه الصيغة فيه تمويج, فيه تموج كأثر الريح على الرمل, هذا هو المعنى الثاني, يقول: فذلك الحبك, يعني هذا التجعد, فالمتجعد يقال له ذلك, ومن أهل العلم من يفسر الحبك بالشدة,وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ذات الشدة, شديدة قوية, وهذه المعاني لا اختلاف بينها, وكل ذلك يصدق على السماء، ولا يحتاج إلى ترجيح معها, فيقال: وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ذات الشدة والقوة وهي محكمة الخلق في غاية الزينة والحسن والجمال, وقد خلقها الله بهذه الصفة, فحينما أطلق الله وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِحملنا الحبك على ما نعرفه من المعاني, والله خاطبنا بلغة العرب, ولم يخص معنى دون معنى, وإنما نطلق كما أطلق الله -تبارك وتعالى-وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ, الله يقول في صفة السماء في موضع آخر: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا[سورة النبأ:12], ذات الشدة, والزينة في قول الله:وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ[سورة الملك:5], وعلى تفسير ذلك بالطرائق -هذا التمويج- يكون وجه الإقسام بالسماء ذات الحبك مناسباً لما بعده من قوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ[سورة الذاريات:8],وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ يعني الطرائق, فهم على طرائق شتى, فيما ينسبون إلي النبي ﷺ, وما جاء به من الوحي, إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ , مِن قائل: إنه شاعر, أو ساحر, أو أخذ ذلك عن غيره أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة الفرقان:5], مجنون, كذاب, وهكذا الباطل لا يتفق, فالحق واحد لا يختلف, وأهل الحق لا يتفرقون فيه, وأما الباطل فلا أدل على بطلانه من تفرق أهله فيه كما هو مشاهد, يختلفون فيه, فهم لا يتفقون على قول واحد, وهذا يدل على أنهم أهل تخرص وكذب وبهتان, فالشاعر غير الساحر, غير الكذاب, غير المجنون, فمِن قائل بهذا ومِن قائل بهذا, ومِن قائل بهذا, لم يتفقوا فيه على شيء؛ لأن ذلك جميعاً من الاختلاق, افتراء وكذب عليه ﷺ.
وهذا من محاسن تفسير الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن كاتبه له بصر في التفسير وذوق وحسن نظر, يستطيع أن يتعامل مع النصوص الواردة عن السلف, ويجمع ما يمكن أن يجتمع تحت معنى الآية دون أن يكثر من ذكر الأقوال ويجعل القارئ في حيرة, ومثل هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير من أن هذه المعاني جميعاً صحيحة مشى عليه جمع من المحققين، من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.