السبت 21 / صفر / 1447 - 16 / أغسطس 2025
أَءُلْقِىَ ٱلذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنۢ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر  -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ۝ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ۝ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ۝ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ ۝ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ۝ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ۝ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ۝ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ۝ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ۝ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[سورة القمر:23-32].

وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا ﷺفَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، يقولون: لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كُلّنا قيادنا لواحد منا.

ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم، ثم رموه بالكذب فقالوا:بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي: متجاوز في حد الكذب.

فقوله -تبارك وتعالى-:كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ النُّذر: هذه اللفظة جاءت بصيغة الجمع، وهؤلاء القوم كذبوا نبيهم الذي بعثه الله إليهم وهو صالح ﷺ ولم يأتهم نبي سواه، فكيف ذكر الله -تبارك وتعالى- النُّذر، وإنما كذبوا نذيراً واحداً ؟ والجواب عن هذا من وجهين:

الوجه الأول: هو أن من كذب نبياً واحداً فكأنما كذب جميع المرسلين، كما قال الله : كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ[سورة الشعراء:105]، ونوح ﷺ قطعاً هو أول رسول، ومع ذلك أضاف إليهم أنهم كذبوا المرسلين، فهذا وأشباهه يحمل على هذا المعنى، من كذّب واحداً فهو مكذب بالجميع، ولهذا قال:لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ[سورة البقرة:285]، وهكذا في الموضع الآخر:وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [سورة النساء:150-151] فهذا جواب في هذا الموضع.

الوجه الثاني: هو أن "النُّذر" مصدر يعني كذبوا بالآيات والنذارة التي جاءتهم على يد نبيهم ﷺ كذبوا بالآيات التي أنذرهم الله -تبارك وتعالى- بها، فإن هذه الآيات هي نذر، والله يقول:وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا[سورة الإسراء:59] فأخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء آية فكذبوا بها، وعقروها، ولم يؤمنوا بما جاءهم به نبيهم ﷺ من دلائل صدقه وأمارات نبوته ورسالته.

وقوله -تبارك وتعالى-:فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ.

يقول الحافظ ابن كثير: "وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحاً فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ، يقولون: لقد خبنا وخسرنا".

و"السُّعر" إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ بعض أهل العلم فسره بالعناء والشقاء والعذاب،إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يعني: إذا اتبعنا واحداً فنحن في عناء وشقاء وعذاب وشدة، ويطلق السُّعر أيضاً على لهب النار، إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ وهذا في الواقع يرجع إلى المعنى الأول؛ لأنهم لا يقصدون أنهم في ضلال وسعر في الآخرة، وإنما يصفون حالهم إن اتبعوا صالحاً ﷺ فالذي يعيش في عناء وشقاء فإن ذلك يورث ضيقاً وحرارة وألماً كحرارة النار وإيلامها وشدتها، فهذا يرجع في الواقع إلى المعنى السابق، وهكذا قول من قال: إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أي: احتراق، فالذين قالوا: لهب النار، والذين قالوا: احتراق فسروا اللفظة بمعناها المتبادر، والمقصود بهذا الاحتراق هو راجع إلى القول الأول الذي ذكرناه، وأقول القول الأول تجوزاً؛ لأن هذه في الواقع يمكن أن ترجع إليه، فلا يحتاج إلى الترجيح بينها، يقولون: إن اتبعناه فنحن في حال من العناء والشقاء، فعبروا بهذه اللفظة؛ لدلالتها على هذا المعنى، وبعضهم يقول: السُّعر هو الجنون، وهم استبعدوا اتباع نبي، وأضافوا إلى أنفسهم: إنْ هم اتبعوه أنهم في حال غير طبيعة، يقولون: هذا لا يمكن، وبهذا نكون في ضلال أي ذهاب عن الحق، فأصل الضلال هو الذهاب عن حقيقة الشيء، ومنه قوله -تبارك وتعالى- في سورة يوسف عن قول إخوة يوسف لأبيهم يعقوب ﷺ:إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ[سورة يوسف:95] فلو كانوا يقصدون أنه ذاهب عن الحق مطلقاً لكانوا كفاراً بذلك، وإنما يقصدون أنه ذاهب عن حقيقة ما وقع ليوسف ﷺ، فهؤلاء ذاهبون عن الحق، ولهذا يقال لمن قُبر ودُفن: إن دافنيه قد أضلوه.

فآبَ مُضلّوه بعينٍ جليةٍ وغودر بالجولان حزمٌ ونائلُ

 يعني: دافنوه أضلوه، ومنه قولهم: ضل الماء في اللبن يعني اختلط وذهب، وتحلل فيه فلم يعد متميزاً عنه.