الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
فَبِأَىِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال:يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ أي: لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم، لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام المحشر، الملائكة محدقة بالخلائق، سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب.

إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الأقطار يعني الأطراف، من أطراف السماوات والأرض من نواحيها فَانفُذُوا هذا يحتمل أن يكون في الدنيا، بمعنى إذا استطعتم أن تخرجوا من ملك الله   فافعلوا فإنكم لا تستطيعون ذلك، ويحتمل أن يكون في الدنيا –أيضاً- بمعنى إن استطعتم أن تفروا من قبضته ومن الموت فافعلوا، ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة، إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي إن استطعتم أن تفروا من الحساب والجزاء وما ينتظركم من الأهوال والأوجال فافعلوا فإنكم لن تستطيعوا ذلك، وهذا قد يكون أقرب -والله أعلم- باعتبار السياق، يعنى بالنظر إلى ما قبله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ فإذا حملنا هذا على أنه في الآخرة -بل هي في الآخرة- فقال بعده:فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ[سورة الرحمن:37] إلى آخر ما ذكر فهذا كله في الآخرة، مع أن الآية تحتمل أن يكون ذلك في الدنيا، ويمكن أن تحمل على المعنيين، والله أعلم.

إِلا بِسُلْطَانٍ أي: إلا بأمر الله، يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ۝ كَلا لا وَزَرَ ۝ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ[سورة القيامة:10-12].

السلطان يأتي بمعانٍ، يأتي بمعنى الحجة، قال بعض أهل العلم: السلطان في القرآن بمعنى الحجة، وبهذا فسره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله-،لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ أي: بحجة، ومن أهل العلم من قال: إلا بقوة وقهر، فـ "السلطان" يأتي بمعانٍ، والله يقول:وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ[سورة الإسراء:33] بعضهم قال: حجةً، وبعضهم قال: اقتداراً وتسلطاً على القاتل، أن له سلطاناً فسلطه عليه شرعاً وجعل له إليه سبيلاً، ومكنه منه قدراً،لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ بقوة وقهر أو بحجة، هنا قال: إلا بأمر الله.

وقال تعالى:وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[سورة يونس:27]؛ ولهذا قال:يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الشواظ: هو لهب النار.

لهب النار وبعضهم يقيده باللهب الصافي الذي لا دخان فيه، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله.

وقال أبو صالح: الشواظ هو اللهيب الذي فوق النار ودون الدخان.

الذي فوق النار يعنى الملون، ولهذا بعضهم قال: الأخضر الذي فوق النار في أعلاها، ودون الدخان؛ لأن النار يكون جلها في أسفلها ثم بعد ذلك يكون ما ارتفع منها من لسانها ثم بعد ذلك يكون الدخان، يتصاعد منها، وبعضهم فسره بالدخان شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ أي دخان من نار، وبعضهم قال: النار والدخان.

وقال الضحاك:شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ سيل من نار.

وقوله:وَنُحَاسٌ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:وَنُحَاسٌ دخان النار، وروي مثله عن أبي صالح، وسعيد بن جبير، وأبي سنان.

وَنُحَاسٌ قال: دخان النار يعني الذي لا لهب له، وهذا قال به الخليل بن أحمد، وهو اختيار ابن جرير، وفي القراءة الأخرى المتواترة قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالخفض ونحاسٍ فيكون ذلك عائداً إلى النار يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٍ فيكون عائداً إلى النار مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٍ.

قال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاسا -بضم النون وكسرها- والقراء مجمعة على الضم، وقال مجاهد: النحاس: الصُّفر، يذاب فيصب على رءوسهم، وكذا قال قتادة، وقال الضحاك:وَنُحَاسٌ سيل من نحاس.

والمعنى على كل قول: لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا؛ ولهذا قال:فَلا تَنْتَصِرَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .

 

قول ابن جرير والعرب تسمي الدخان نُحاسا بضم النون وكسرها يعني نُحاسا ونِحاسا قال: والقراء مجمعة على الضم يعني أن الكسر لغة ولكنه لم يرد في القراءة، وليس مقصوده أن نحاساً أجمع القراء فيه على الرفع ليس هذا المراد؛ لأن القراءة الأخرى المتواترة ونحاسٍ، وقال:فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هنا كما قيل في السابق وجه الامتنان أن هذا التهديد والوعيد يكون سببا لازدياد المحسن في إحسانه والمسيء يرعوي ويكف عن إساءته.