وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ عالية وطيئة ناعمة، ويحتمل أن يكون المراد بكونها مرفوعة أنه رُفع بعضها فوق بعض، وهذا يدل على أنها ناعمة وطيئة، ويحتمل أنها مرفوعة على الأسرّة وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍهذا كله إذا فسرت الفرش على ظاهرها، أن الفرش هي الفرش، مَرْفُوعَةٍ قد رفع بعضها على بعض، أو رفعت على الأسرّة وقد يكون ذلك الارتفاع بمعنى آخر، يكون معنوياً وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي مرفوعة القدر والمنزلة، ويحتمل تفسير الفرش بمعنى آخر وهو النساء، فالعرب تكني عن النساء بمثل هذا، كناية عن المرأة بالفراش، ويكنون عنها بالإزار في البيعة التي بايع فيها النبي ﷺالأنصار، وكان من ذلك أن يمنعوه مما يمنعون منه أَُزُرهم.
فـ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إذا فسر بالنساء يحتمل أن يكون الارتفاع حسياً أي على الأرائك، ويحتمل أن يكون معنوياً مرفوعة أي في القدر والمنزلة،وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ والقرينة التي تدل على أن المراد بالفرش النساء، أنه قال بعده:إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً يعني النساء،فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا[سورة الواقعة:36] فقالوا هذا يرجع إلى الفرش، فالمقصود به النساء، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وتحتمله الآية احتمالاً قريباً، وقد يكون بين المعنيين ملازمة فهؤلاء النساء فرش مرفوعة فيها النساء، ثم قال:إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ يعني يكون إشارة بالفرش إلى النساء، وإن كانت الفرش معناها معروف المعنى المتبادر جمع فراش، وأنه على ظاهره فتكون مشيرة إلى النساء؛ لأنه قال بعده:إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، والله تعالى أعلم.
يعني هنا جرى الضمير على غير مذكور باعتبار تفسير الفرش بالفرش المعروفة، وليست النساء، فيكون جرى الضمير على غير مذكور؛ لأنه مفهوم من السياق، فالسياق قرينة تدل عليه، مفهوم من السياق، وإذا كان المعنى مفهوماً من السياق فإن العرب تكتفي بذلك، فتعيد الضمير إلى غير المذكور، وإذا قلنا: إن الفرش بمعنى النساء فيكون الضمير عائداً إلى مذكور، وفرش أي النساء، مرفوعة أي مرفوعات القدر والمنزلة والحسن والكمال،إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ أي: المذكورات المكنى عنهن بالفرش.
باعتبار أن الضمير يكون عائداً إلى غير مذكور حَتَّى تَوَارَتْ يعني: الشمس، ولكن على التفسير الآخر أن التي توارت هي الخيل -انطلقت حتى غابت عن نظره؛ لبعدها،حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ- فيكون الضمير عائداً إلى مذكور، وفي القرآن أمثلة متعددة في عود الضمير إلى غير مذكور؛ لأنه مفهوم من السياق.
يعني أن الضمير عائد إلى الحور العين وليس الفرش، و لعل ما قيل قبله أقرب، والله تعالى أعلم.
قوله: كُنَّ عجائز رُمْصًا، الرَّمَص هو في موق العين يجتمع، أذى، وسخ، ويكون جامداً، فإذا سال فهو-بالغين- الغَمَص.
قوله:إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً يحتمل معنيين: يحتمل أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً يعني أعدنا إنشاءهن يعني في نساء الدنيا، بحيث تعاد شابة فتية في غاية الحسن والجمال بعد أن كان ذهب حسنها وجمالها لتقادم الزمان، وتكون في غاية الحسن والجمال والملاحة، وتعود بكراً متحببة إلى زوجها بعد أن سئمت وملت لربما من الحياة فتعود بهذه الصفة، ويحتمل أن يكون المعنى إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً أي خلقنا خلقاً جديداً من غير توالد، خلقاً جديداً في الجنة غير نساء الدنيا، والقائل بهذا استدل عليه بأنه أكد بالمصدر إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً يعني إنشاءً جديداً فليس المراد بذلك نساء بني آدم، ويمكن أن يحتج للقول الذي قبله أيضاً إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً أي نساء الدنيا بالحديث الذي جاء بروايات متعددة.
عن عائشة -ا- أن نبي الله ﷺ أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول
الله، ادع الله أن يدخلني الجنة فقال نبي الله:إن الجنة لا يدخلها عجوز، فذهب نبي الله ﷺ فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة: لقد لقيتْ من كلمتك مشقة وشدة، فقال نبي الله ﷺ: إنّ ذلك كذلك، إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا [1].
فهذا قاله في نساء الدنيا، فيحتمل أن تكون الآية راجعة إلى الحور، والذي يجعلها في نساءٍ خُلقن خلقاً جديداً في الجنة يعني لسن من نساء الدنيا التأكيد بالمصدر إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاءً، وذكر الإنشاء فهو ابتداء مبتدأ هذا الخلق، وكذلك الله لما ذكر ما للسابقين المقربين ذكر الحور العين، والحور لسن من نساء الدنيا، ففي نعيم أهل اليمين -أصحاب اليمين- ذكر النساء، وقال:إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فقد يفهم من هذا أن هؤلاء لسن من نساء الدنيا كما ذكر الحور العين للسابقين، فالكلام في نساء أُنشئن وخلقن في الجنة، ويمكن أن تحمل الآية -والله تعالى أعلم- على هذا وهذا، فإن الحور العين قد أُنشئن إنشاءً جديداً بلا شك، والنساء اللاتي في الدنيا يعاد إنشاؤهن من جديد فتعود شابة بكراً بالصفة التي ذكرها الله :فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا، ويستدل له بالحديث أن النبي ﷺ ذكر الآية فتكون الآية دالة على ذلك جميعاً، على ما يوجد فيها من النساء اللاتي خُلقن خلقاً جديداً، وعلى اللاتي أعيدت صياغة خلقهن من جديد، والله تعالى أعلم.
روى أبو داود الطيالسي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ:يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء ، قلت: يا رسول الله، ويطيق ذلك؟ قال:يعطى قوة مائة[2]، رواه الترمذي وقال: صحيح غريب.
وروى أبو القاسم الطبراني عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال:إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء[3].
قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح، والله أعلم.
وقوله:عُرُبًا قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يعني متحببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة؟، هي كذلك.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: العُرُب: العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون، وكذا قال عبد الله بن سَرْجس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن أبي كثير، وعطية، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهم.
يقول:إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًاعُرُبًا قال أي متحببات إلى أزواجهن وكذلك قول من قال: "العواشق لأزواجهن" ونحو ذلك من العبارات التي قالها السلف فكل ذلك داخل في معناه فـ (العُرُب) جمع عَروب بفتح العين يقول لبيد بن ربيعة:
وفي الخباءِ عَروبٌ غيرُ فاحشةٍ | رَيّا الروادفِ يَعْشي دونها البصرُ |
هذا يصف امرأة من الدنيا! ليس في الجنة، فالعروب هي المتحببة إلى زوجها، والعبارات التي قيلت في تفسير ذلك كلها داخلة في هذا المعنى، عبارات المفسرين مما ذكره البخاري -رحمه الله-، وما نقله في الصحيح كلها داخلة فيه عواشق لأزواجهن متحببات لأزواجهن، غنيجات والغنج هو الكلام الذي في غاية الرخاوة، يستهوي قلب السامع مما تقوله لزوجها، وهكذا ما يقال: امرأة شكلة، كما يعبر فيه، وهكذا عبارة من عبر يقول: غلِمة يعني اشتدت شهوتها، وهذا المعنى الذي نقله هنا ابن عباس قال: يعني متحببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة؟ هي كذلك، ومعنى الناقة الضبعة: هي التي اشتدت شهوتها للفحل فأرادته، ومعروف حال هذه البهائم حينما يأتي وقت اللقاح بينها في مواسم لا يخفى حالها، فهذه العبارات كلها يعني كما قال البخاري -رحمه الله-: "أهل مكة يسمونها العربة، وأهل المدينة الغنيجة أو الغنِجة وأهل العراق الشكلة"، فكل هذه المعاني داخلة في معنى العَروب، والعروب هي المرأة المتحببة إلى زوجها التي تقول سواءً كان ذلك في سائر أحوالها معه أو كان في حال المعاشرة، وهذا هو كمال اللذة؛ لأن نصف اللذة يكون بالسماع ما يسمعه الإنسان، ويوجد من كلام العرب ومن كلام بعض الصحابة في هذا ما لا قد يناسب ذكره بهذا المجلس مما يدل على هذا المعنى أن الكلام نصف اللذة.
وقوله:أَتْرَابًا قال الضحاك، عن ابن عباس يعني: في سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد: الأتراب: المستويات. وفي رواية عنه: الأمثال، وقال عطية: الأقران.
كل هذا بمعنى واحد، أمثال متماثلات مستويات في السن على سن واحدة هذا من اختلاف العبارة، والمعنى واحد عُرُبًا أَتْرَابًا، لكن من أهل العلم من قال: إن ذلك يرجع إليهن فهن في سن واحدة، ومنهم من قال:أَتْرَابًا لهم، وهم متقاربون في السن عُرُبًا أَتْرَابًا والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المقصود: هؤلاء النساء في سن متماثل، ومن أهل العلم من فسر أَتْرَابًا بالتقارب أيضاً؛ لأنها تدل على معنى التقارب، تقول: فلان ترب فلان يعني أنه ولد معه في يوم واحد، "فلان من أترابي"، ومن أهل العلم من فسره بالتقارب في الحسن والجمال والأخلاق والغنج والتحبب للزوج وما أشبه ذلك.
- رواه الطبراني في المعجم الأوسط، برقم (2245)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، برقم (18764)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه مسعدة بن اليسع وهو ضعيف.ورواه الترمذي في الشمائل المحمدية مرسلاً عن الحسن برقم (241)، وحسنه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية، برقم (205)، وقال في السلسلة الصحيحة: "حسنه الترمذي، و هو صحيح بمجموع طرقه و شواهده"، برقم (2987).
- رواه الترمذي، كتاب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صفة جماع أهل الجنة، برقم (2536)، وأبو داود الطيالسي في مسنده، برقم (2012)، وقال الألباني: صحيح لشواهده، في تحقيق مشكاة المصابيح برقم (5636).
- رواه الطبراني في المعجم الصغير، برقم (795)، وقال: لم يروه عن هشام إلا زائدة، تفرد به الجعفي، وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (367).