السبت 29 / جمادى الآخرة / 1447 - 20 / ديسمبر 2025
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال:نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي: صرفناه بينكم.

وقال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض.

قوله: "صرفناه بينكم" ساوى فيه بين هذين المعنيين،نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وفي قراءة ابن كثير بالتخفيف نَحْنُ قَدَرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وهي قراءة متواترة كما هو معلوم، يقول "أي: صرفناه بينكم"، وكثير من أهل العلم يقولون: إن قراءة التخفيف والتشديد بمعنى واحد "قَدَرنا"، و"قدّرنا" إلا أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فـ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قال: "صرفناه بينكم"، يعني: قسمناه ووقّتناه بينكم لكل فرد من أفرادكم، هذا يموت في الشباب، وهذا يموت طفلاً، وهذا يموت شيخاً، هذا معنى، والمعنى الثاني الذي ذكره هنا قال: "ساوى فيه بين أهل السماء والأرض" وهذا معنى قول من قال: إن معناه قضينا وكتبنا يعني: كتبنا وقضينا الموت، وهذا كله يرجع إلى شيء واحد، يعني: قضينا الموت على الجميع الكل يموتون، فهذان معنيان والآية مترابطة وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ۝ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ.

وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: وما نحن بعاجزين.

يعني: بمغلوبين، يحتمل: على ما قدرنا من آجالكم، على المعنى الأول على ما قدرنا من آجالكم وأعماركم ما نحن بمغلوبين على ذلك، ولا يمكن لأحد أن يغير ما قررناه في حقه، يقدم هذا أو يؤخر هذا أو يخلص هذا، فكل إنسان كتب أجله فلا يتبدل ولا يتغير لا يمكن لأحد أن يخلصه من هذا الأجل المحتوم في الوقت المحتوم في المكان المحتوم، وما نحن بمغلوبين هذا معنى "مسبوقين" "أي: وما نحن بعاجزين".

عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ أي: نغير خلقكم يوم القيامة،وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ أي: من الصفات والأحوال.

يحتمل أن يكون المراد بـ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ أي: أن نأتي بخلف منكم يخلفونكم، بخلق جديد، أي آخرين، ويحتمل أن يكون المراد عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ أي: نعيد خلقكم مرة أخرى، يحتمل هذا ويحتمل هذا، وابن جرير -رحمه الله- يقول: على أن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم فنجيء بآخرين من جنسكم، ونبدلكم عما تعلمون من أنفسكم في مالا تعلمون منها من الصور، وبعض السلف يعبر ويقول: يعني عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ نأتي بخلق، ممكن خنازير، نريدكم في صورة أخرى، كما نشاء من الصور والأشكال والهيئات، فعبارات السلف في هذا متنوعة، وابن القيم -رحمه الله- يقول: فإنكم علمتم النشأة الأولى في بطون أمهاتكم، ومبدؤها ما تمنون، بداية هذه النشأة، هذا البداية البسيطة ولم نغلب على أن ننشئكم نشأة ثانية فيما لا تعلمون يعني: إن أخبرناكم عن نشأتكم وأنتم تعرفون أنها من نطفة، فنحن قادرون على أن نعيد إنشاءكم مرة ثانية فيما لا تعلمون فإذا أنتم أمثال ما كنتم في الدنيا في صوركم وهيئاتكم، يقول:نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ۝ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ۝ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ وهذه الجمل مترابطة ويمكن أن نلخص هذه القضية، والمعنى على كل احتمال على المعنيين اللذيْن ذكرناهما أولاً: فيقال: إن قوله -تبارك وتعالى-:نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ المعنى الأول الجمل التي بعده بناءً عليه، ويمكن أن نقول هكذانَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي: قدرنا لموتكم آجالاً مختلفة وأعماراً متفاوتة، فمنكم من يموت صغيراً ومنكم من يموت كبيراً كما قال الله :وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا[سورة الحج:5]، وكذلك:ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى[سورة غافر:67]،وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ[سورة فاطر:11]، فالله فاوت بينهم قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ،وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددنا من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدّم أجلاً أخرناه، ولا يؤخر أجلاً قدمناه كما قال الله : فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ[سورة الأعراف:34]،إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ[سورة الأنعام:134]،وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً [سورة آل عمران:145] فهو شيء مكتوب ومحدد ومقدر بوقت عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ، فعلى هذا المعنىعَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ تكون هذه الجملة متعلقة بـ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي: نبدل من الذين ماتوا آخرين أمثالاً لهم نوجدهم، يعني من ذراريهم إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133]، على هذا التناسق أو على هذا المعنى بهذا الترابط بهذه الطريقة، وهذا هو خلاصة اختيار ابن جرير المشار إليه آنفاً.

المعنى الثاني:قَدَّرْنَا بمعنى قضينا وكتبنا إلى آخر العبارات التي تدور في هذا الفلك، وهنا قال: "سوينا بينكم في الموت" يعني: بمعنى كتبناه على جميع الخلق، ما في فلان يموت وفلان لا يموت، أو بعض الناس يموت وبعضهم لا يموت، الموت على الجميع حتماً ، كما قال الله :كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ[سورة القصص:88]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ[سورة الأنبياء:35]،وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ[سورة الفرقان:58]، لا يبقى إلا الله هذا هو المعنى الثاني، فتكون عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ متعلقة بِمَسْبُوقِينَ وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم، أي: ما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا، فنحن قادرون على إهلاككم ولا يوجد ما يمنعنا ويغلبنا من خلق أمثالكم بدلاً منكم، كما قال الله :إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ[سورة النساء:133]،إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ[سورة فاطر:16] وهذان معنيان في الآية، وكل معنى من هذه المعاني يوجد ما يشهد له في القرآن،والله تعالى أعلم.

ثم قال:وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي: قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة -وهي البَداءة- قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، وكما قال:وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ[سورة الروم:27]، وقال:أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [سورة مريم:67]، وقال:أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ۝ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۝ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [سورة يس:77-79]، وقال تعالى:أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ۝ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ۝ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ۝ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ۝ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ؟ [سورة القيامة:36-40].