وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال بعضهم: يعني: وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون، أي: تكذبون بدل الشكر.
وقد روي عن علي، وابن عباس أنهما قرآها: "وتجعلون شكركم أنكم تكذبون" كما سيأتي.
يعني: من أهل العلم من فسر الرزق بالشكر قال: إنها لغة لبعض العرب، يقولون: لغة "أزد شنوءة"، الرزق بمعنى الشكر وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي: وتجعلون شكركم وقراءة عليٍّ هذه ليست قراءة متواترة، ومعلوم أن القراءة الأحادية إن صح سندها فإنها تكون مفسرة للقراءة المتواترة،وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي: شكركم أنكم تكذبون، ومن أهل العلم من قال: إن في الآية تقديراً وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي: شكر رزقكم التكذيب، تجعلون شكر الرزق: الرزق المعروف يفسرونه بالمعنى الظاهر المتبادر، تجعلون شكر هذا الرزق التكذيب أنكم تكذبون، تجعلونه تكذيباً، وهنا قال: أي تجعلون رزقكم، ومن أهل العلم من يقول: إنه عبر بالسبب عن المسبب، يعني عبر بالرزق عن الشكر؛ لأن الرزق يتسبب عنه الشكر، الرزق ينبغي أن يكون سبباً لظهور أثر النعمة على المُنعَم عليه بلسانه فيلهج بذكره، وشكره والثناء عليه بجوارحه، يعني بمرضاته، وبقلبه استحضار النعمة:
أفادتكُمُ النعماءُ منّي ثلاثةً | يدِي ولسانِي والضميرَ المُحجَّبا |
يقول: نعمتكم علي أفادتكم ثلاثة أشياء مني: لساني صار يلهج بذكركم، وقلبي مستحضر لإنعامكم، وجوارحي تعمل لخدمتكم، فهذا الذي تفيضه وتورثه النعمة، يكون هناك شكر، لكن حينما يجعل الإنسان ذلك تكذيباً وإعراضاً!!، فهذه ثلاثة أوجه في تفسيرها: فيه مقدر أي شكْرَ رزقكم، أو أنه عبر بالرزق أي بالسبب عن المسبب، أو أن ذلك لغة في الشكر، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس -ا- قال: ما مُطِرَ قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرًا يقولون: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا، وقرأ ابن عباس -ا-: "وتجعلون شكركم أنكم تكذبون"[1].
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس.
يعني: هذه صورة من صور التكذيب والكفر، كفر النعمة بأن تضاف إلى غير الله ، لكن المعنى لا ينحصر في هذا، وإنما هذه إحدى الصور الداخلة تحته.
وقال مالك في الموطأ، عن صالح بن كيْسَان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجُهَني أنه قال: صلى بنا رسول الله ﷺصلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:هل تدرون ماذا قال ربكم؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب[2]، أخرجاه في الصحيحين، وأبو داود، والنسائي، كلهم من حديث مالك، به.
وقال قتادة: أما الحسن فكان يقول: بئسما أخذ قوم لأنفسهم، لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب. فمعنى قول الحسن هذا: وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به؛ ولهذا قال قبله:أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ.
يعني: هنا على قول الحسن اعتبر القرينة التي قبله أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ دالة على أن الرزق المراد به الوحي، رزق الأرواح وهو هذا الهدى الذي أنزله الله على رسوله ﷺ، تجعلون رزقكم أنكم تكذبون قابلتموه بالتكذيب والإعراض عنه، وهذا معنى تحتمله الآية، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- له كلام جيد في هذا جمع بين المعنيين قال: كل هذا رزق، رزق الأرواح، ورزق الأبدان، فقابلوا ذلك جميعاً بالتكذيب والإعراض، أعرضوا عن القرآن وكذبوا به وقالوا: سحر وكهانة، وقول البشر، وأعرضوا عن شكر نعمة الله عليهم بإدرار الأرزاق وعبدوا غيره.
وهذا وجه من الوجوه الجيدة في الجمع بين المعاني، وكلام ابن القيم مثال على كيفية الجمع بين المعاني التي يذكرها السلف، وهو كثير جداً في كلام ابن القيم لكن هذا مثال جيد يدل على قدرة في التعامل مع الأقوال.
يعني الرزق مفرد مضاف إلى المعرفة "الكاف"، وهو للعموم فيشمل كل رزق، وهذا الهدى الذي أنزله الله هو رزق، فحمله على أهم معانيه،
والظاهر أنه -والله أعلم- فيه تحريف، فهذا يصح أن يراد بالآية، وتدل عليه لكن المعنى أوسع منه.
- جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر الطبري (23/154)، تحقيق: أحمد شاكر.
- رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، برقم (810)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، برقم (71)، وأبو داود، كتاب الطب، باب في النجوم، برقم (3906).
- التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (235).
- التبيان في أقسام القرآن (235-236).