ولهذا قال تعالى:ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه،وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهم الحواريون،رَأْفَةً أي: رقة وهي الخشية،وَرَحْمَةً بالخلق.
وقوله:وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا أي: ابتدعتها أمة النصارى،مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.
فقوله -تبارك وتعالى-:وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، أي: عيسىﷺ، رَأْفَةً من أهل العلم من قال: المقصود بذلك أتباع عيسى ﷺ من الحواريين، وليس فيه ما يدل على ذلك، ومن أهل العلم من قال:رَأْفَةً وَرَحْمَةً أي: فيما بينهم، أو رأفة ورحمة عموماً، وإذا قارنت النصارى باليهود رأيت أن هذا أظهر فيهم، أعني الرأفة والرحمة هي في النصارى أظهر من اليهود، مقارنة باليهود؛ ولذلك تجد آثار هذا فيهم إلى اليوم، وإن كانت تستغل مثل هذه الأشياء لأغراض مشبوهة، لكن على الأقل في مجتمعاتهم من التكافل الاجتماعي والجمعيات التي يسمونها بالجمعيات الإنسانية، وأشياء كثيرة من هذا القبيل، وإن كانت تستغل أبشع استغلال، وإذا نظرت إلى شرهم المتعدي إلى المسلمين فهو لا يقادر،قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ[سورة آل عمران:118] لكن نحن نتحدث مقارنة باليهود مثلاً، فتجد عند النصارى من هذا نصيباً أكثر مما عند اليهود، والله تعالى أعلم.
وقوله هنا:وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ قال هنا: وهم الحواريون، يعني: خص هذه الصفة بالحواريين رَأْفَةً وَرَحْمَةً، ومعنى ذلك أن من جاء بعدهم إلى يومنا هذا ليسوا كذلك، ليس فيهم لا رأفة ولا رحمة، والمسألة نسبية، وقال: الرأفة هي رقة، هي رحمة، يعني الرأفة من أرق الرحمة، أخص من الرحمة، رحمة رقيقة، قال: ورحمة أي: بالخلق، الآن ما ذُكر بعده:وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا هل هذا معطوف على ما قبله، أو أنه مستأنف وانتهى الكلام عند قوله:وَرَحْمَةً، ويكون الوقف تاماً في هذا الموضع، بمعنى:وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً انتهى، وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ما الفرق؟
الفرق أنه إذا جعلنا الرهبانية معطوفة على ما قبله، معنى ذلك: جعلنا في قلوب الذين اتبعوه ثلاثة أشياء: رأفة ورحمة ورهبانية، جعلها الله في قلوبهم، فالله أخبر عن هذا قال:ابْتَدَعُوهَا فكيف جعلها في قلوبهم وهم ابتدعوها؟ وقال:مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ، لذلك فإن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن الوقف تام عند قوله:وَرَحْمَةً، أي الذي جعله الله شيئين: رأفة ورحمة، ثم يبدأ الكلام من جديد:وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فهم الذين ابتدعوها وأنشئوها واخترعوها من قبل أنفسهم، لم يأمرهم بها نبيهم ﷺ، ولم يشرع الله ذلك لهم، فهم فعلوا ذلك طلباً لمرضاة الله ، ومن رعاها حق رعايتها أثابه الله -تبارك وتعالى-، في هذه الشريعة –عندنا-:من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1]، فإذا سُكت عن تلك الرهبانية أو أقرت فإن هذه الشريعة الإسلامية ليس فيها رهبانية، ومن فعل ذلك -أعني ترهب- فقد ابتدع وخالف هدي النبي ﷺ، والأحاديث الواردة في هذا معلومة، فالشاهد إذا قلنا بأن قوله:وَرَهْبَانِيَّةً تعتبر بداية جملة جديدة أنها لا تتعلق بقوله: وَجَعَلْنَا يعني ليست معمولاً لها ، جاءت منصوبة هنا:وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا يمكن أن تكون منصوبة بالفعل الذي بعدها:وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا فقدم المفعول به، ويمكن أن تكون منصوبة بفعل مقدر يدل عليه المذكور بعده: ابتدعوا وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، فالشاهد أنها جملة مستأنفة جديدة، لم يجعلها الله أعني الرهبانية- في قلوبهم، وإنما هو شيء من عند أنفسهم.
بعض المفسرين يقول:فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وقعوا في الإشراك بالله ، وهذا صحيح، وقعوا في التثليث وغيره، وأيضاً ما رعوا الرهبانية يعني هي معنى أخص فهي المبالغة في التعبد والانقطاع عن الناس من غلبة الرهبة من الله -تبارك وتعالى-، فذهبوا في الفلوات وفي الأديرة، واعتزلوا الناس وبالغوا في العبادة، وانقطعوا لها، وتركوا عمل الدنيا تماماً، ومنهم من كان يعذب نفسه كما يذكر في أخبارهم، منهم من وقف في بئر مثلاً يقولون: أربعين سنة، لا يضطجع ولا ينام أربعين سنة، وأكثر من هذا لربما الواحد جلس هذه المدة لا يغتسل، ولا يقص الأظفار، ولا يميط عنه شعراً، وإنما بقوا كالوحوش يشتغلون في العبادة فقط ولا يلتفتون للجسد، ويأكلون بُلغة من الطعام، وأخبارهم في هذا كثيرة وعجيبة، وقد يكون في بعضها مبالغة لكن يبقى أن قدراً منها صحيح.
فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاخالفوا ما تقتضي هذه الرهبانية، ومن أوضح صور هذا أن هذه الأديرة صارت أوكاراً للفجور والفواحش، فالرهبان يزنون بالراهبات، وصارت أقبية هذه الأديرة موضعاً لإلقاء الأجنة أو المواليد، يلقونها في هذا المكان، فلما كُشف عن بعضها وجد هياكل يعني في هذه الأقبية هياكل عظمية أجساد متحللة لأطفال حديثي الولادة، وصار هذا المكان الذي أعد للتعبد والانقطاع عن الدنيا والانقطاع عن الناس وغلبة الرهبة لله صار مواضع للفواحش، وأشياء أخرى في غاية القبح من أخبارهم التي تطفو في هذا العصر على الفضائيات.
وقوله تعالى:إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فيه قولان:
أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جبير، وقتادة.
والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
وهذا بعيد، القول الثاني بعيد، إنما القول الأول هو الأقرب -والله تعالى أعلم- وهو المتبادر،مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ يعني مِن قِبَلهم، أنهم فعلوا ذلك طلباً لمرضاة الله .
قوله تعالى:فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله .
كالذي ينذر مثلاً ثم بعد ذلك إذا حصل مطلوبه بدأ يسأل ما هو المخرج؟ نذر أن يصوم الإثنين والخميس طيلة حياته، ثم بعد ذلك بدأ يسأل كيف يتخلص من هذا؟ نذر أن يتصدق، نذر أن يحج أو نحو هذا، ثم بعد ذلك بدأ يبحث عن الطريق التي يخرج فيها من هذا النذر، وهكذا في كل أمر؛ ولذلك لا يحسن بالإنسان أن يلتزم شيئاً لله ولا للناس حتى يعرف المخرج منه قبل أن يدخل فيه، هل يستطيع أن يقوم بهذا أو لا يستطيع؟، فلا يلزم نفسه بعبادة لم يلزمه الله بها، من الناس من ينذر أن يصوم يوماً ويفطر يوماً طالما هو حي، وبمجرد ما حصل له مطلوبه قال: هذا أمر كيف استطيع أن أفعله؟، ومن الناس من ينذر أن يصوم أربعة أشهر، امرأة نذرت أن تصوم شهرين إذا تزوج زوجها، لكثرة ما كان يقلقها أنه سيتزوج، ولم يفعل، فقالت: تزوج، إن تزوجت فسأصوم شهرين، يعني شكراً لله، فتزوج فصامت، فلما كانت في أواخر الشهرين جاء من سفر ولم يصبر عنها فوقع عليها في النهار وهي صائمة، فأفسد صومها، ثم عاودت الصوم مرة ثانية، فلما قاربت الستين قدم مرة أخرى ثم بعد ذلك لم يصبر عنها فوقع عليها، فاتصلت تسأل تقول: الآن هل أصوم ثالثة أو ماذا أصنع أخشى أنه يجيء ويبطل صومي؟ قلت: ما شاء الله، عقوبة رادعة فعلاً، عاقبتِ بها نفسك، يتزوج عليك وتصومين شهرين ويبطلها، ثم شهرين آخرين ويبطلها، وقد تصومين العام كله، ما هذه العقول؟!، ولذلك كره الشارع النذر.
كذلك فيما يلتزمه الإنسان للخلْق، كثير من الناس يضرب صدره ويقول: أنا أقوم بهذا الشيء، ثم بعد ذلك يدير ظهره ويتخلى عنه، هذا أمر ما يليق، لا تدخل في شيء إلا وتعرف هل تستطيع القيام به على الوجه الكامل المطلوب وإلا اعتذر من البداية؛ لأن هذا يزري بالإنسان غاية الإزراء، ويسقط من عين الناس، ربما أراد أن يتجمل بهذا أو استحى، ثم بعد ذلك يتخلى عنه،وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل[2].
مثل هذا مما أخذ عن بني إسرائيل، والله أعلم.
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال:لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله [3].
ورواه الحافظ أبو يعلى ولفظه:لكل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله[4].
هذا الحديث فيه ضعف، فيه رجل يقال له: زيد العَمِّي.
وهذا أيضاً فيه ضعف، فيه رجل يقال له: عقيل بن مدرك، لم يدرك أبا سعيد، وفيه رجل آخر أيضاً.
- رواه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718).
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم (6464)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، برقم (782)، وبرقم (2818)، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى.
- رواه أحمد في المسند، برقم (13807)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف زيد العمي- وهو ابن الحَوَاري- وقد أُعِلّ بالإرسال، سفيان: هو الثوري، وأبو إياس: هو معاوية بن قُرة المُزَني".
- رواه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (4227)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (4204)، وقال محققه حسين سليم أسد: "إسناده ضعيف".
- رواه أحمد في المسند، برقم (11774)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف، عقيل بن مدرك السلَمي لم يدرك أبا سعيد، والحجاج بن مروان الكلاعي لم نقع له على ترجمة في كتب الرجال إلا ما ذكره الحافظ ابن حجر في "التعجيل" ص87 نقلاً عن الحسيني في "الإكمال" ص88 من أنه ليس بمشهور، وبقية رجاله ثقات، حسين: هو ابن محمد بن بهرام المروذي، وإسماعيل بن عياش ثقة في روايته عن الشاميين".