الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَءَامِنُوا۟ بِرَسُولِهِۦ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِۦ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِۦ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[سورة الحديد:28-29].

قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس -ا- أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص، وكما في حديث الشعبي عن أبي بُرْدَة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مَوَاليه فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران[1]، أخرجاه في الصحيحين.

ووافق ابنَ عباس -ا- على هذا التفسير الضحاكُ وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما، وهو اختيار ابن جرير.

هذا هو القول الأول في الآية، وهو باعتبار أن هذا الخطاب متوجه لأهل الكتاب:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ باعتبار أنه كان يتحدث عن أهل الكتاب، فيقولون: ما زال الخطاب يتعلق بهم، فخاطبهم وقال لهم: إن آمنتم، يعني بالنبي ﷺ آتاكم أجركم مرتين، وجعلوا ذلك مفسراً بالآية التي في سورة القصص وبهذا الحديث.

والمقصود بالآية التي في سورة القصص هي قوله -تبارك وتعالى-:الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ[سورة القصص:52] إلى أن قال الله:أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ[سورة القصص:54]، ومن أهل العلم من قال: إن هذه الآية في هذه الأمة؛ لأن الله قال:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوافهو خطاب لأهل الإيمان، وهذا القرآن إنما خوطبت به هذه الأمة في الأصل، فيكون الخطاب متوجهاً إليهم، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-، ولعله الأقرب -والله تعالى أعلم-، فالذين يؤتون أجرهم مرتين إذا جمعت النصوص الواردة في هذا المعنى في هذا الحديث ذكر ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، والحديث ليس فيه ما يدل على الحصر، إنما أخبر عن ثلاثة أصناف: الكتابي الذي آمن بنبيه وآمن بالنبي ﷺ، والعبد المملوك الذي أدى حق سيده وحق الله، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها، فهؤلاء ثلاثة، ويمكن أن يزاد عليهم أيضاً نساء النبي ﷺ، قال الله :وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ[سورة الأحزاب:31]، وأيضاً هذه الأمة كما في الآية:الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ[سورة القصص:52]، وهذه الآية محتملة في أهل الكتاب، والآية في سورة الحديد أيضا محتملة، فعلى أحد القولين يكون ذلك في عموم هذه الأمة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا من وجوه تفضيل هذه الأمة على الأمم التي قبلها.

وهذه الآية كقوله تعالى:يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[سورة الأنفال:29].

وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل عمرُ بن الخطاب حَبْرًا من أحبار اليهود: كم أفضل ما ضُعف لكم حسنة؟

الآن لما أورد قول ابن عباس -ا- قال: وهذه الآية كقوله:يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً.

لكن:إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ليس فيها مضاعفة الأجر، لكن هذا يشعر بأن ابن كثير -رحمه الله- يميل إلى القول الثاني أنها في هذه الأمة.

وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل عمر بن الخطاب حَبْرًا من أحبار اليهود: كم أفضل ما ضعف لكم حسنة؟ قال: كفل ثلاثمائة وخمسين حسنة، قال: فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين، ثم ذكر سعيد قول الله :يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، قال سعيد: والكفلان في الجمعة مثل ذلك، رواه ابن جرير.

الكفل في قوله:يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِالحظ والنصيب، والله يقول:مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا[سورة النساء:85]، بعض الناس يقول: الكفل في السيئة والنصيب في الحسنة، وهذا غير صحيح، وهذه الآية تدل على أن الكفل يكون في الحسنة أيضاً، فالكفل هو مطلق الحظ والنصيب، بغض النظر عن أصله، فالعرب تقول لما يوضع على البعير مما يثبت معه الراكب ولا يسقط، تقول: إنه مأخوذ من هذا، فبغض النظر عن المادة التي أخذ منها، لكن هو الحظ والنصيب،يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، والله أعلم.

ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر -ا- قال: قال رسول الله ﷺ:مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالاً فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذي عملتم، فغضبت النصارى واليهود، وقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاء، قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء[2]، وأخرجه البخاري.

وروى البخاري عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال:مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قومًا يعملون له عملاً يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركُوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا: ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال: أكملوا بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور[3]، انفرد به البخاري.

  1. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم من أهل الكتابين، برقم (3011)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، برقم (154).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (4508)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام، برقم (5021).