الإثنين 24 / جمادى الآخرة / 1447 - 15 / ديسمبر 2025
هُوَ ٱلْأَوَّلُ وَٱلْءَاخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله:هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية  : أنها أفضل من ألف آية[1].

وروى أبو داود عن أبي زُمَيْل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال ما هو؟ قلت والله لا أتكلم به قال: فقال لي: أشيء من شك؟ -قال: وضحك- قال: ما نجا من ذلك أحد قال حتى أنزل الله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الآية [سورة يونس:94]، قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل:هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .

وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحوٍ من بضعة عشر قولا.

 فهذا الأثر الذي روي عن ابن عباس يعني كأنه أقر بهذا قال: ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله الآية.

فالمقصود بقول ابن عباس هذا هو ما ورد في الحديث من أن الشيطان يأتي للإنسان ويقول له: من خلق كذا من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول: يبلغ به من خلق الله؟!!!، فالنبي ﷺ أرشدنا إلى الطريق الصحيح في مثل هذه القضايا في التفكير وقطع الوساوس، كذلك حينما شكا إليه بعض أصحابه ما يلقون من الوسوسة التي يلقيها الشيطان في قلوبهم، حتى إن أحدهم ليجد في نفسه الشيء فيتعاظم أن يتحدث به، أي يتكلم به، فالنبي ﷺ قال: أوَ قد وجدتموه؟! ثم قال:ذاك صريح الإيمان[2]، وفي بعض الروايات قال:الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[3]، ومعنى ذاك صريح الإيمان: من أهل العلم من قال: المراد به أي: هذه الخواطر والوساوس هي صريح الإيمان، أما الشاك فهو كالبيت الخرب، والشيطان ما يفعل بالبيت الخرب، فهو استطاع أن يضل قوماً عن الإيمان بالله بالكلية، وصاروا من الكفار بمختلف طوائفهم، واستحوذ على آخرين حتى شغلهم بالمعصية عن الطاعة، فإذا رأى من العبد إقبالاً على الله وصدقاً في معاملته صار يزعجه، ويقلقه بإلقاء الخواطر السيئة الفاسدة، ولذلك أكثر ما يحصل هذا للإنسان إذا تاب واستقام في بداية هدايته، فإنه يزعجه ويقلقه بكثرة، والشيطان يريد ولو بإشغال وإدخال الحزن في النفس، وإن لم يظفر منه بانحراف وضلال، ولذلك النبي ﷺ أخبر عن الرؤية السيئة أنها من الشيطان؛ ليدخل عليه الحزن ولو في النوم، وكذلك أخبر الله أن النجوى من الشيطان فقال:إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا[سورة المجادلة:10]، ليدخل في قلب هذا الإنسان -الذي يتناجون دونه- الحزن، لو كنت بالمقام الذي يؤهلني في نظرهم للمشاركة في الحديث لأدخلوني فيه، أو أنهم يتحدثون عن شيء يتعلق بي، فيحزن، فكان ذلك من الشيطان، يعني: من تزيينه، فهو ولو بإدخال الحزن فقط يشعر أنه حقق هدفه، والمقصود هنا من قول ابن عباس ونحو ذلك: هو ما يلقيه في القلب من الخواطر السيئة التي ينبغي على العبد ألا يبقيها، ولا يقرها، يدفعها فهذه لا تضره، وليس مقصود ابن عباس أن الشك متحقق وحاصل وثابت في قلب العبد وإيمانه، فإن هذا لا ينجو، فالإيمان لابد أن يكون راسخاً، ويقين العبد متحققاً، لابد من هذا.

والإنسان الشاك يكون كافراً، فمن أنواع الكفر كفر الشك، والنصوص تدل على هذا المعنى، والله نهى رسوله ﷺ عن الريب فقال:ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ[سورة البقرة:2] فهو نفيٌ للريب عنه، وهو المتضمن أيضاً للنهي، أي لا ترتابوا فيه، فلابد من الإيمان الجازم، وابن عباس لا يقصد أن هذا الإنسان يكون شاكاً أبداً، وإنما ما يلقيه الشيطان في قلبه من الخواطر السيئة التي يدفعها العبد ويأباها ويكرهها، فالنبي ﷺ قال: ذاك صريح الإيمان، قيل: المراد به هذه الخواطر، ما يفعل الشيطان بالبيت الخرب، وقيل: المراد تلك الكراهة كما شكوا إليه، أما أحدهم فلأن يتردى من شاهق أهون عليه أو أحب إليه من أن يتكلم بذلك فقال:ذاك صريح الإيمان  ما داموا كارهين لهذا الشيء، ليس هذا هو الكفر وإنما هو الإيمان.

وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحوٍ من بضعة عشر قولا.

وقال البخاري: "قال يحيى: الظاهر على كل شيء علمًا، والباطن على كل شيء علمًا"[4].

قال شيخنا الحافظ المزيّ: يحيى هذا هو ابن زياد الفراء، له كتاب سماه: "معاني القرآن".

وقد ورد في ذلك أحاديث، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ كان يدعو عند النوم:اللهم، رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول ليس قبلك شيء وأنت الآخر ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء وأنت الباطن ليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين، وأغننا من الفقر[5].

ورواه مسلم في صحيحه عن سُهَيل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام: أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول:اللهم، ربّ السموات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم، رَبَّنَا وربّ كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، اللهم، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر، وكان يروي ذلك، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ[6].

هذا الحديث هو الذي ينبغي أن تفسر به الآية، ولا يعدل إلى غيره، فـ"الظاهر" الذي ليس فوقه شيء، و"الباطن" الذي ليس دونه شيء، فسره بعض أهل العلم من جهة القرب كما قال ابن جرير -رحمه الله-، فسره بقوله:وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[سورة ق:16]، الباطن الذي ليس دونك شيء، يعني في قربك، والأول والآخر واضح، والله أعلم.

  1. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، برقم (5057)، وأحمد في المسند، برقم (17160)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، لجهالة ابن أبي بلال.
  2. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم (132).
  3. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، برقم (5112)، وأحمد في المسند، برقم (2097)، وقال محققوه:  إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  4. صحيح البخاري، (6/2687)، تحقيق: مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، بيروت.
  5. رواه أحمد في المسند، برقم (9247)، وقال محققوه: حديث صحيح.
  6. رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2713).