الخميس 07 / شعبان / 1446 - 06 / فبراير 2025
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِى تُجَٰدِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌۢ بَصِيرٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

 قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ[سورة المجادلة:1].

روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات.

 فسورة المجادلة من السور المكية، وفي الآثار المروية في ترتيب السور -وإن كان لا يصح منها شيء من جهة الإسناد- هذه السورة نازلة بعد سورة المنافقين، وقبل سورة التحريم.

وهذه السورة يقال لها: المجادِلة، باعتبار المرأة التي جادلت النبي ﷺ وهي خولة بنت ثعلبة، على اختلاف في اسمها كما سيأتي إن شاء الله.

ويقال لها سورة: المجادَلة، باعتبار المصدر، الفعل الذي حصل في المجاوبة، والمجادلة بين المرأة والنبي ﷺ،قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا، فهذه سورة المجادَلة التي حصلت بين رسول الله ﷺ وهذه المرأة.

ويقال لها أيضاً: سورة قد سمع، ويقال لها: سورة الظهار، سورة قد سمع باعتبار أول السورة قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ، ويقال لها: سورة الظهار باعتبار أنها تحدثت عن حكم الظهار تفصيلاً.

وهذه السورة لا تتحدث عن موضوع واحد، والذين يحاولون أن يرجعوا السور إلى موضوع واحد باعتبار اسم السورة لا أدري ماذا سيفعلون إزاء هذه الأسماء لهذه السورة، أربعة أسماء، وبعض السور لها أكثر من هذا، فهل سيرجعون كل قضايا السورة إلى المجادَلة، أو أنهم سيرجعونها إلى الظهار؟ فمثل هذا المنهج في التكلف في تحميل الأمور ما لا تحتمل باعتبار النظر إلى اسم السورة، ثم بعد ذلك محاولة حمل الآيات -ولو كانت السورة كالمائدة أو البقرة- على هذا الاسم، من أجل أن ترجع جميعاً إليه، وما تحته من الأسرار والمعاني التي ترتبط بها آيات السورة، وموضوعاتها وقضاياها، وسورة البقرة ليس لأنها ذكرت فيها البقرة، وإنما كل الآيات التي ذكرت فيها لها تعلق بموضوع البقرة، ثم تسمع ما لا يخطر على بال ولا يدور في خيال، ولا يمكن أن تتصوره من أشياء لا يمكن أن توصف إلا بالتكلف، والله أمر نبيه ﷺ أن يقول:وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [سورة ص:86] يعلمه ذلك، وفي الصحيح عن عمر : "نهينا عن التكلف"، فبعض السور تتحدث عن موضوعات متعددة، وبعضها يتحدث عن موضوع واحد.

فسورة المجادلة تتحدث عن عدد من الموضوعات:

الموضوع الأول: هو ما يتصل بالظهار، الذي نزل صدرها بسببه، ذَكَر الظهار وحكمه أنه شيء محرم وباطل، وبيّن ما يترتب على الظهار من الكفارة، كما سيأتي إن شاء الله.

الموضوع الثاني: أن هذه السورة تحدثت عن ضلالات المنافقين، وعن نجواهم، وعن موالاتهم لليهود، وأنهم يحلفون على الكذب.

الموضوع الثالث: يتعرض للآداب المتعلقة بمجلس رسول الله ﷺ، وما يُشعِر به التصدق قبل مناجاته.

الموضوع الرابع: أثنى الله فيه على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين، وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون، هذه يمكن أن نقول: أربعة موضوعات ترجع إليها، تدور حولها هذه السورة.

وهي مدنية.

قوله:قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا، قد هذه للتحقيق، والسمع صفة ثابتة لله -تبارك وتعالى-،قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ، الجدال هو مجاوبة بين طرفين فأكثر، لكنها ليست أي مجاوبة، وإنما هي مجاوبة خاصة، بمعنى الاحتجاج والاستدلال والمراجعة، يعني المجادلة فيها احتجاج، لاحظْ تقول: جدلت الحبل، كل واحد يفتل صاحبه عن رأيه، هذا في المجادلة.

وزوجها هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت - أجمعين- من الأنصار،وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ والشكوى ذكر ما يتأذى به، وتشتكي: فالاشتكاء مبالغة في الشكوى،قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، ولم يقل: وهو يسمع، فهنا ممكن أن يؤتى بالضمير، الضمائر تَختصر، فوضْعُ المظهر موضع المضمر يكون لعلة، من ذلك هذه المعاني البلاغية التي يذكر فيها المظهر مكان المضمر، يعني مكان الضمير، مع أن الضمير يؤدي أصل المعنى، من هذه المعاني: تربية المهابة في النفوس، يعني أيهما أعظم وأكثر مهابة: لو قال:قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وهو يسمع تحاوركما، أو إذا قال:قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا، أيهما أفخم وأعظم وأدعى لتربية المهابة؟

وقد مضى شيء من هذا في الكلام على قواعد التفسير،وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا، التحاور مجاوبة، محاورة ومجاوبة بين طرفين وأكثر، يعني: مجرد المجاوبة يقال لها: محاورة، لكن الجدال: حوار خاص فيه احتجاج، فالجدال أخص من الحوار، قد تحاور إنساناً، ثم تقول له: لا تجادل.

وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، لاحظ ابتدأ الآية بالسمع واختتمها أيضاً بالسمع، والمقام يتعلق بالسمع وذكر البصر معه، فهو يسمع ما دار من الحوار، ويبصر المتحاورين، وغيرهما لا يخفى عليه خافية، فالله -تبارك وتعالى- يسمع الأصوات الدقيق منها والجليل ، فينبغي أن يُتقى وأن لا يتكلم الإنسان إلا بما يعلم أنه ينفعه ويرفعه عند الله، أو في أقل الأحوال أن لا يكون عليه تبعة في هذه الكلمات.

هذه الآية كما ترون هذه المرأة التي جادلت النبي ﷺ، وذكرت حالها، كما سيأتي في سبب النزول، يؤخذ منها أن من قُطع رجاؤه وتعلق بالله -تبارك وتعالى- أن الله يفتح له من آفاق رحمته ومن الأبواب التي لربما يتوهم الكثيرون أنها قد أغلقت في وجهه، فيأتيه من ألطاف الله ما يحصل به الفرج والمخرج، والله المستعان.

روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادِلةُ إلى النبي ﷺ تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله :قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا إلى آخر الآية[1].

وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقاً، وأخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن جرير.

وفي رواية لابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ، وهي تقول: يا رسول الله، أَكَلَ شبابي، ونَثَرتُ له بطني، حتى إذا كَبُرَت سِنِّي، وانقطع ولدي، ظَاهَر مِنِّي، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية:قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا قالت: وزوجها أوس بن الصامت[2].

هذا هو سبب النزول، أنها نزلت في خولة التي كانت تشتكي من زوجها أوس بن الصامت، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، والرواية واضحة وصريحة في هذا، وأما ما جاء في خبر سلمة بن صخر -كما سيأتي إن شاء الله- فإن ذلك ليس هو سبب النزول، وإنما وقع لسلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفّر بعد هذه الواقعة التي حصلت، فالرواية هناك ليس فيها أنه هو سبب النزول، ولكنه أُمِر بأن يكفر بأحد خصال الكفارة، العتق أو الصيام أو الإطعام، فهو دليل على أن من ظاهر ثم واقع قبل أن يكفّر يكون قد ارتكب معصية، ولكنه لا زال عليه كفارة واحدة، بمعنى أنها لا تتكرر في حقه، فالنبي ﷺ أمر سلمة بن صخر بالكفارة، ظاهرَ وواقعَ قبل أن يكفّر، ولكنه ليس هو سبب النزول وإن قال بعض أهل العلم: إنه سبب النزول، لكن كما ترون هذه الروايات، وغير هذه الروايات، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم أن سبب النزول هو خولة مع زوجها أوس بن الصامت لما ظاهر منها، وأوس بن الصامت هو ابن عمها، كما سبق أنه أخ لعبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عن الجميع.

 

  1. رواه ابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فيما أنكرت الجهمية، برقم (188)، وأحمد في المسند، برقم (24195)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، تميم بن سلمة من رجاله، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، والبخاري معلقاً في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:  وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا  [النساء:134].
  2. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/3342)، برقم (18840)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الظهار، برقم (2063)، وصححه الألباني بشواهده في إرواء الغليل (7/175)، برقم (2087).