الخميس 07 / شعبان / 1446 - 06 / فبراير 2025
ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَٰتُهُمْ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔى وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ۝ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ[سورة المجادلة:2-4].

روى الإمام أحمد عن خويلة بنت ثعلبة قالت: فيَّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صَدْرَ سورة "المجادلة"، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه.

شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، وجاء في بعض الروايات: أنه كان به لمم، وفسر هذا كما قال الخطابي أن المقصود باللمم هنا هو شدة الرغبة في المعاشرة، يعني: به شبق.

 قالت: فدخل عليَّ يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي. قالت: قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليَّ وقد قلتَ ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثياباً، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله ﷺ، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله ﷺ يقول:يا خويلة ابنُ عمك شيخ كبير، فاتقِ الله فيه.

المجادِلة النبي ﷺ يقول لها:ابن عمك، كما كان يقول لها ﷺ: ما أراك إلا قد بنت منه، وهي تشكو تقول: نثرت له بطني، وأكل شبابي، ثم ظاهر مني، وتشكو حال الصبية إن ضمتهم إليها جاعوا، وإن دفعتهم إليه ضاعوا، فهذه شكواها، وهذه المجادَلة التي حصلت بينها وبين النبي ﷺ.

وهنا خويلة بنت ثعلبة بالتصغير.

قالت: فوالله ما برحتُ حتى نزل فيَّ القرآن، فتغشى رسول الله ﷺ ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه، فقال لي:يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ عليَّ:قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ إلى قوله تعالى:وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ قالت: فقال لي رسول الله ﷺ:مُريه فليعتق رقبة، قالت: فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق.

الآن صيغة سبب النزول هنا في هذه الرواية، نحن قلنا: الصيغة الصريحة في سبب النزول أن يذكر واقعة أو سؤالاً ثم يقول: فنزلت، فأنزل الله، أو يقول: سبب نزول كذا، فهذا هو الصريح، وكذلك ما هنا، قالت: فوالله ما برحتُ حتى نزل فيّ القرآن، فتغشى رسول الله ﷺ ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال:يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ علي: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ، فصيغة قد أنزل الله فيك من الصيغ الصريحة بلا شك، وغير الصريح أن يقول: نزلت هذه الآية في كذا.

قالت: فقال لي رسول الله ﷺ:مُريه فليعتق رقبة، قالت: فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق، قالت: فقال لي رسول الله ﷺ: مُريه فليعتق رقبة، قالت: فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق، قال:فليصم شهرين متتابعين، قالت: فقلت: والله إنه شيخ كبير، ما به من صيام، قال:فليطعم ستين مسكينًا وسقاً من تمر، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله ﷺ: فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر.

الوسق يبلغ ستين صاعاً، وهو عليه الآن إطعام ستين مسكيناً، فيعطي كل واحد صاعاً من تمر.

قالت: فقلت: يا رسول الله، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر، قال:قد أصبت وأحسَنْت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً. قالت: ففعلت[1].

فهذا القدر الذي أعطاه النبي ﷺ وأعانته هي على سبيل التبرع منها لا يبلغ هذا المقدار الذي هو كفارة، لا يبلغ ستين صاعاً، فأعطاه النبي ﷺ هذا، فأضافت إليه هي مثله.

ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه وعنده: خولة بنت ثعلبة، ويقال فيها: خولة بنت مالك بن ثعلبة. وقد تصغر فيقال: خُوَيلة، ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالأمر فيها قريب، والله أعلم.

الأمر في هذا سهل، وهذه الطريقة التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في الجمع جيدة، يعني: خولة وتصغر يقال: خُويلة، والنسبة قد تنسب إلى أبيها خولة بنت مالك بن ثعلبة، فيقال: خولة بنت مالك، وخولة بنت ثعلبة، ويقال: خويلة بنت ثعلبة، وأيضاً مما ذكر في اسمها أنها خويلة بنت خويلد، وخويلة بنت الصامت، وخويلة بنت الدليج، وقيل: إن اسمها جميلة، وقيل: خولة بنت حكيم، أو خولة بنت مالك، والمشهور أنها خولة بنت ثعلبة، وقد تصغر ويقال: خويلة، كما في هذا الحديث، ومثل هذا لا يضر، وهي امرأة من الأنصار، والاسم لا أثر له هنا.

هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة.

يعني هذا الصحيح، خلافاً لمن قال: إنها في سلمة بن صخر.

فقوله تعالى:الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحد من امرأته قال لها: أنت عليَّ كَظَهْرِ أمي، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقًا، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة، ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم.

يقول: أصل الظهار مشتق من الظهر، يعني: هذا في اللغة؛ لأنه يُذكر في الظهار غالباً، أو في صيغته المشهورة المعروفة، يقال: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقيل الظهار، فهو مشتق بهذا الاعتبار من الظهر.

الظهار مشتق من الظهر، وهنا يرد سؤال وهو أنه ما علاقة الظهر بذلك، ولماذا لم يذكر البطن مثلاً؟ باعتبار أن الآدمية إنما يركب بطنها وليس الظهر بخلاف البهيمة غالباً، فذكر الظهر هنا يمكن أن يقال: باعتبار أن الظهر كناية عن الركوب، فالمرأة بمنزلة المركوب للرجل، ولهذا إذا طلقها قيل: نزل عن امرأته، يعني فارقها، فالمرأة بمنزلة المركوب للرجل، فيمكن أن يكون عبر بهذا لهذا السبب، وإذا قال: أنت عليّ كظهر أمي، يعني: أنت محرمة عليّ لا يحل ركوبك، فكأنه نظر أو يحتمل أن يكون نظر إلى موضوع الركوب عموماً، ولما كان الركوب عادة في المركوبات على الظهر -ركب ظهر راحلته- عبر بالظهر لهذا الاعتبار، وأرجعه بعض أهل العلم إلى العلو قال: لأن المقصود بذلك العلو، إذ إن مرتبة الرجل فوق مرتبة المرأة فهو سيدها وقيّمها،وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ[سورة يوسف:25]، فالرجل مرتبته أعلى من مرتبة المرأة، والزوج له القوامة، فبعضهم أرجعه إلى موضوع العلو، وقالوا: ذكر الظهر لهذا، لا الظهر المعروف، هكذا قال بعضهم، واعتبره من قبيل قوله تعالى في سورة الكهف:فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ[سورة الكهف:97]، من العلو، أن يعلوه، أن يرتفعوا، أن يصعدوا على السد، فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ، وهكذا مَن غَلب يقال: ظَهَرَ على كذا،فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14]، فبعضهم قال: المقصود العلو، ولكن هذا لا يخلو من نظر -والله تعالى أعلم-؛ لأن ذكر الظهر هنا العلماء تكلموا على الأعضاء كما سيأتي -الأعضاء الأخرى لو ذكرها في الظهار-، لكن يؤخذ من هذا أن المقصود أو كأنه يعني حينما يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي، باعتبار أنه لا يعاشرها، ولما كان الرجل عادة يعلو المرأة فكأنها يعني بمنزلة المركوب له، فذَكَرَ الظهر -والله تعالى أعلم-، يعني هذا تعليل، وحقيقة الظهار هو تشبيه ظهرٍ محلَّل بظهرٍ محرَّم، أنتِ عليّ -هي حلال له الزوجة– كظهر أمي، تشبيه بالظهر المحرم، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، لكن هذه العبارة إذا قال الإنسان: أنتِ عليّ كظهر أمي فهذا ظهار بالإجماع، وهي عبارة صريحة، وهي أصرح عبارات الظهار، وهي الصيغة المعهودة، أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، لكن يبقى الكلام في الصيغ الأخرى، فالظهار كالطلاق له صريح وكناية، فلو أنه قال مثلاً: أنتِ عليّ كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم، فهل الحكم واحد أو لابد من ذكر الأم؟ الذي عليه عامة أهل العلم أنه ظهار، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال به جماعة من السلف كالحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري، وهذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان، أنه لا فرق بين أن يذكر الأم أو يذكر الأخت أو غير ذلك من ذوات المحارم، والقول الذي للشافعي في القديم -رحم الله الجميع- أنه يختص بالأم وإن علت، يعني من الجدات من الجهتين من جيه تحريمهة أمه وأبيه، لكن لو شبهها بغير الأقارب ممن يحرم عليه تحريماً مؤبداً كالأم من الرضاعة، تحرم عليه تحريماً مؤبداً، وأم الزوجة مثلاً، فهذا كالذي قبله، من خصه بالأم وإن علت قال: لا يكون ظهاراً، والجمهور الذين عمموا قالوا: لا فرق بين هذا وهذا، ولو قال: أنتِ عليّ كأمي ولم يذكر الظهر، هذا من الكنايات، فهو بحسب نيته عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهذا الذي ذهب إليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-، فإذاً الظهار منه ما هو صريح، وهو أن يشبهها بظهر أمه أو أحد محارمه، مَن يحرم عليه تحريماً مؤبداً، أو بعضو منهن، لو قال: كيدِ أمي، كيد أختي، كرأس أمي، أو نحو ذلك، فلا فرق بين أن يذكر الظهر أو يذكر غيره، والكناية أن يقول: أنتِ عليّ كأمي، فهذا بحسب القصد، لكن لو شبهها بامرأة أجنبية لا تحرم عليه تحريماً مؤبداً، بل تحرم عليه تحريماً مؤقتاً، امرأة أجنبية ليست من المحرمات على التأبيد، فبعض أهل العلم يقول: هذا ظهار إذا ذكر الظهر، وهذا ذهب إليه مالك وهو رواية عن أحمد، ورجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-، وخالفهم في ذلك جمع كأبي حنيفة والشافعي، وهذا القول الآخر هو الذي ذهب إليه ابن قدامة -رحم الله الجميع-، هذا إذا ذكر الظهر، وإذا لم يذكر الظهر فبعضهم يقول: يكون طلاقاً، فلو قال: أنتِ عليّ كيد فلانة، كرأس فلانة، ممن لا تحرم عليه تحريماً مؤبداً، فبعضهم يقول: يكون طلاقاً، وبعضهم يقول: يكون ظهاراً وهما قولان للمالكية، وبعضهم يقول: لا يكون شيئاً كأبي حنيفة والشافعي -رحمهما الله-، وهناك مسائل أخرى: لو أنه ظاهر من امرأة ثم تزوجها، قال في امرأة ليست في حباله أصلاً: فلانة عليّ كظهر أمي، هل يقع أو لا يقع؟ بعضهم يقول: يلزمه الكفارة كمالك -رحمه الله-، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، يقولون: لا يلزمه شيء، وهذا هو الأقرب باعتبار أن الله قال:مِّن نِّسَائِهِم، فهذه ليست من نسائه، فهذا الظهار وقع على محل غير قابل، مثل لو أنه أوقع الطلاق على امرأة ليست في حباله أصلاً، رأى امرأة في الشارع وقال: أنت طالق، يعني أراد أن يخوف امرأة، يسمعها شيئاً تكرهه، فرآها فقال: أنت طالق، أو تخاصم معها، أو غضب عليها، وقال: أنت طالق فهل يكون ذلك طلاقاً؟

الجواب: لا يكون طلاقاً، وهنا ما جاء من قوله تعالى هنا في الآية:الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم، خصه بعض أهل العلم بالمسلمين مِنكُم، وبعضهم قال: لا، هذا باعتبار الغالب، فالخطاب متوجه للمسلمين وإلا فالذمي يقع منه الظهار، على كل حال، ولهذا فإن ظهار الذمي لا يلزم عند مالك وأبي حنيفة خلافاً للشافعي، قالوا: لا يلزم، قالوا: لأنه قال:مِنكُم، لكن الذين قالوا: يلزم، وهم الجمهور في الواقع، قالوا: لأن هذا خرج مخرج الغالب، ولو صدر الظهار من المرأة، قالت: أنتَ عليّ كظهر أبي مثلاً، هي تريد أن تتخلص منه فظاهرت منه، فهل يقع الظهار منها، كما لو طلقته، أو قالت له: أنت طالق؟ فظهار المرأة ليس بشيء، لا يقع، على قول الجمهور، خلافاً للأوزاعي وإسحاق بن راهويه، قالوا: عليها كفارة يمين، وليس بظهار، بمعنى أنه لا يمتنع منها زوجها، وإلا فيكون الرجال أمرهم بيد النساء، كلما غضبت قالت: أنتَ عليّ كظهر أبي، فينتظر منها أن تخرج الكفارة، يعني قد لا تفعل، مع أن من أهل العلم كالشافعي -رحمه الله- من قال: إن الكفارة المتعلقة بحق الغير يحبس عليها، يعني: الأصل لو إنسان عليه كفارة يمين، أو كفارة قتل خطأ، هذه بينه وبين الله، القتل الخطأ الحق للغير هو الدية، لكن الكفارة هذه بينه وبين ربه -تبارك وتعالى-، فهذه لا يحبس عليها، لكن ما يتوقف عليه حق الغير لو أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم امتنع من الكفارة فإن المرأة يضيع حقها بهذا الاعتبار؛ لأنه لا يجوز له أن يعاشرها، فبعض أهل العلم يقول: هذا النوع من الكفارات يُلزم به، ويحبس عليه، وظهار المرأة ذهب بعض أهل العلم كالزهري إلى أن عليها كفارة ظهار، واحتجوا لهذا بقصة عائشة بنت طلحة، كانت معروفة من أجمل النساء في المدينة، خطبها مصعب بن الزبير، فأبت وتمنعت وقالت: إن تزوجته فهو عليّ كظهر أبي، هذا الآن ظهار قبل الزواج، يعني عندنا قضيتان: ظهار المرأة، والظهار قبل الزواج، ثم صارت إليه إمارة العراقين في عهد عبد الله بن الزبير، في عهد أخيه، فخطبها فوافقت، فسألت عن هذا من حضرها من فقهاء المدينة -الفقهاء السبعة-، فأفتوها بأنها تكفر كفارة ظهار وتتزوج منه، لكن الراجح -والله أعلم- أولاً: ظهار المرأة ليس بشيء، ولا يجوز لها أن تظاهر؛ لأن الظهار حرام أصلاً، والأمر الثاني: أن الظهار الواقع على غير محل ولو كان من الرجل فإنه لا يقع، ولكن ما علق بالشرط فيه خلاف معروف لو صدر من الرجل، كما لو قال: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق، أو: إن تزوجتُ فلانة فهي عليّ كظهر أمي، هذا غير أن يقول: فلانة عليّ كظهر أمي وهي في غير حباله، في غير عصمته، هنا معلق بشرط، لكن ظهار المرأة عموماً ليس بشيء ولا يعول عليه.

الآن لو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي، أنتِ لي كظهر أمي، أنتِ بالنسبة إليّ كظهر أمي مثلاً، يعني غيّر الصلة، -أنتِ عليّ-، فهذا لا يؤثر، لا أثر له تغيير الصلات، يعني بأي عبارة كان، لو قال: أنتِ مني كظهر أمي، أو أنت معي كظهر أمي، أو أنتِ عليّ، أو أنتِ عندي كظهر أمي، أو أنتِ لي كظهر أمي، فهذا كله لا يؤثر، كما لو حذف الصلة أصلاً، لو قال: أنتِ كظهر أمي، ما قال: أنتِ عليّ، فهذا كله من قبيل الظهار، يعني هذه بعض المسائل المتعلقة بالظهار، والكلام في هذا لا شك يطول، ولكن هذا القدر يكفي، وإشارة ابن كثير -رحمه الله- إلى أن الظهار كان في الجاهلية طلاقاً، لهذا قال لها النبي ﷺ:ما أراك إلا قد بنت منه، بل كان أشد الطلاق في الجاهلية، ولهذا فهذا حكم جديد في الإسلام بسبب ما وقع من   أوس بن الصامت مع امرأته خولة.

وقوله تعالى:مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ أي: لا تصير المرأة بقول الرجل: "أنت عليَّ كأمي" أو "مثل أمي" أو "كظهر أمي" وما أشبه ذلك، لا تصير أمه بذلك، إنما أمه التي ولدته؛ ولهذا قال:وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا أي: كلاماً فاحشاً باطلاً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي: عما كان منكم في حال الجاهلية، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم، ولو قصده لحرمت عليه؛ لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.

هذه الآية تدل على تحريم الظهار الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فهذا يدل على تحريم الظهار من أوجه متعددة: أنه قال عنه:إنه منكر، والمنكر محرم، وقال عنه: إنه زور، وأيضاً ذكر العفو والمغفرة، وإنما يكون العفو والمغفرة من الذنب، وأيضاً ذكر الذي بعدها الكفارة، والكفارة في الأصل تكون من ذنب في الأصل، وأنه أكذبهم في قولهم فقال:إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ،الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، فهذه أوجه ذكرها الحافظ ابن القيم -رحمه الله-، كلها في هذه الآية تدل على تحريم الظهار، فلا شك أن الظهار محرم، ويترتب عليه حكم، وهو الكفارة بالإجماع، هنا قال:وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا[سورة المجادلة:2]، فوصفه بأمرين: منكراً باعتبار أنه منكر، وزوراً باعتبار أنه هو أعظم الكذب، فإذا نظرت إلى الصيغة الخبرية حينما يقول لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي، هذا خبر صادق أو كاذب؟ فهو خبر كاذب فهو زور، فهذه الصيغة الخبرية تتضمن حكماً هو تحريم هذه المرأة، وجعْلُ هذه المرأة بمنزلة الأم، فهذا الحكم باطل، فهو منكر، حكم منكر، فالصيغة خبر وهذا الخبر زور، وهو لا يقصد مجرد الإخبار، وإنما ينشئ حكماً بهذا الخبر، فهذا الحكم الذي تضمنه هذا الخبر -تضمنته هذه الصيغة- هو منكر،وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، هنا قال:لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي عما كان منكم في حال الجاهلية، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم، ولو قصده لحرمت عليه؛ لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وغيرها إلى آخر ما ذكر.

وقوله:وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ عما يبدر من غير قصد، سبق لسان لا يقصده، فالله يعفو ويغفر، ولكن ليس للإنسان أن يتكلم عموماً بهذه الأمور مما يقوله الناس ولا يقصدونه ولا ينبغي أن يقال، كما ذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- أن الرجل لربما يقول لامرأته على سبيل التعليم للصغار؛ لأنه يريد أن يسمع هؤلاء الأطفال بماذا تنادى هذه المرأة، فهو حينما يناديها باسمها هم سينادونها باسمها، أولادها سينادونها باسمها، يقولون: يا فلانة، فإذا كنّاها سينادونها بالكنية، يا أم فلان، فبعض الناس يريد أن يعلم الأطفال، فيقول: يا ماما، وأحياناً لربما هو يريد أن يتلطف بها، يا أمي، يعني بعض الناس على لسانه هذه الكلمة، يتلطف يقول: لابنته هكذا، يعني هو بطبيعته لطيف، فإذا جاء يكلم ابنته أو يكلم زوجته أو يكلم أحداً من محارمه قال: يا أمي افعلي كذا، وهو لا يقصد الظهار،وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ مما لا يقصد، لكن ليس له أن يقول هذا؛ لأن الله يقول:مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فليس للرجل أن يقول لامرأته: يا أمي، لأي سبب كان، لكن هل يكون ظهاراً؟ بحسب قصده، بحسب نيته، والله يغفر ويعفو ما لم يقصد به الظهار.

وفي قوله -تبارك وتعالى-:مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، قد يرد سؤال هنا، هل الرجل هذا قال لها: أنت أمي، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي؟ لم يقل لها: أنت أمي، فكيف قال الله :مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، "إن" هنا نافية، بمعنى: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، بأي اعتبار مع أن الرجل لم يقل: أنت أمي، أو ما جعلها أماً له؟ يمكن أن يجاب عن هذا فيقال: هو جعلها بمنزلة الأم، نزلها منزلة الأم حينما قال: أنت علي كظهر أمي، فأكذبه الله بهذا ورد قوله قال:مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ، ليست الزوجة بمنزلة الأم، ولهذا قال في الأحزاب:مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ[سورة الأحزاب:4]، فمن أهل العلم من قال: إن قوله:مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ هو مقدمة لإبطال الظهار والتبني، كما لا يكون لرجل قلبان في جوفه، فكذلك لا تكون الزوجة أمًّا وزوجة في آن واحد، لا يجتمع فيها الوصفان كما لا يجتمع للرجل أبوان، بعضهم يقول: هي المقدمة لإبطال هذين الأمرين، فنزلها منزلة الأم.

  1. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (27319)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة مَعْمَر بنِ عبدِ الله بن حَنْظَلة، فلم يروِ عنه سوى محمد بن إسحاق، وقال ابن القطَان في "بيان الوهم والإيهام" 4/464: مجهول الحال، وقال الذهبي في "الميزان": لا يُعرف، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وبقية رجال الإسناد ثقات، سعد بن إبراهيم: هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري".