الأربعاء 06 / شعبان / 1446 - 05 / فبراير 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْا۟ بِٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَٰجَوْا۟ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِىٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم قال الله - تعالى - مُؤدّباً عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ أي: كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومَن مالأهم على ضلالهم من المنافقين وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: فيخبركم بجميع أعمالكم، وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.

ثم قال تعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: إنما النجوى - وهي المُسَارّة - حيث يتوهم مؤمن بها سوءاً مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: ليسوءهم، وليس ذلك بضارهم شيئاً إلا بإذن الله، ومن أحس من ذلك شيئاً فليستعذ بالله، وليتوكل على الله؛ فإنه لا يضره شيء بإذن الله.

وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذٍّ على مؤمن كما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول اللهﷺ: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَى اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه[1]، وأخرجاه من حديث الأعمش.

وروى عبد الرزاق عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه[2] أخرجه مسلم".

قوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ هذه على طريقة القرآن في الغالب أنه إذا نهى عن شيء فاسد محرم أمرَ بما يكون فيه الصلاح، والإصلاح، والنفع، فوجّه الخطاب للمؤمنين، فهذه النجوى التي قال الله - تبارك وتعالى - عنها: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا فمعنى إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا قيل: هذا في مناجاة المنافقين كما يقوله ابن جرير - رحمه الله -، وسبقه إلى ذلك قتادة، مثلاً المنافقون يتناجون من أجل أن يظن الظان من المسلمين ممن يراهم أنه يعني جُمعت جموع، وحشدت حشود لغزوهم، وحربهم، فتذهب أوهامهم هنا وهنا، ويضربون أخماساً بأسداس.

وبعضهم كابن زيد يقول: إن الرجل كان يأتي للنبي ﷺ ليُرى أنه يناجي النبي ﷺ، وكانت أرض حرب، والناس يقع لهم بسبب ذلك من المخاوف ما هو معلوم.

وبعضهم يقول: هي أحلام النوم المزعجة إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وهذا فيه بعد، يعني باعتبار أنها الرؤى هذه المزعجة مثلاً، والنبي ﷺ ذكر أن الرؤيا السيئة من الشيطان، وأنها لا تضره، فهي من أجل أن يحزن الإنسان، لكن إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ يحمل ذلك على النجوى المذمومة، نجوى المنافقين، نجوى اليهود، النجوى التي نهى الله عنها، فهذه من الشيطان لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا؛ لهذا قال النبي ﷺ:إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإذا وقع ذلك يعني تناجوا من غير إذنه فإنه يقع المحذور لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا، إذاً هذه النجوى منهي عنها فهي محرمة؛ لأنها من الشيطان إِنَّمَا النَّجْوَى وكل نجوى محرمة فهي داخلة في ذلك، تدخل فيها نجوى اليهود، ونجوى المنافقين، ويدخل في ذلك أيضاً النجوى التي قد تقع من بعض المسلمين، ولكن تكون من قبيل المحرم، لا الأخرى التي قال الله فيها: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ، الله - تبارك وتعالى - أمر المؤمنين إذا تناجوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ هذا يدل على أن أصل النجوى مباح وليس بمحرم، لكن ينبغي أن يوجه الوجهة الصحيحة، فلا تتناجوا؛ لأن ذلك مما يحتاج إليه، فقد يُخفي الإنسان ذلك طلباً للإخلاص في العمل، قد يكون من شئونه الخاصة، وقد لا يكون ذلك أيضاً، يكون في الأمور العامة لكن لا يحسن إذاعته، وإفشاؤه؛ لما يحصل بسبب ذلك من الإرجاف، والمفاسد، ونحو هذا فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى هذا الذي يحصل به النفع.

البر والتقوى من أجمع الألفاظ، والفرق بينهما أن البر يشمل كل محابّ الله ، كل ما يحبه الله فهو من البر، هذه التي يسمونها الحقائق الشرعية، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في كتابه "القواعد الحسان" تكلم على هذه المعاني في إحدى القواعد التي أوردها، وتجد هذا في ثنايا كلام شيخ الإسلام، وفي ثنايا كلام ابن القيم - رحمه الله -، وقد جُمع فيه كتاب مستقل "الحقيقة الشرعية في القرآن"، فالبر كل محابّ الله - تبارك وتعالى - تدخل فيه، والتقوى تشمل هذا، يعني: جميع محاب الله، وكل ما أمر الله به أمر إيجاب، أو أمر استحباب، ويدخل فيه الجانب الآخر وهو ترك مساخطه، يعني التقوى: فعل المأمورات، واجتناب المحظورات، وبهذا الاعتبار تكون التقوى أوسع وأعم من البر، فيكون من قبيل عطف العام على الخاص، وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فجاء بهذه الألفاظ العامة الواسعة، يعني كل ما كان من محاب الله فهو داخل في ذلك، مما يكون فيه نفع ومصلحة، كما قال الله : لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ، ثم ذكّرهم الله قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، فسيصيرون إليه، ويحشرون إليه، يجمعون إليه جميعاً في صعيد واحد، ويحاسبهم، ويجازيهم على أعمالهم، إذاً هذه النجوى ينبغي أن تكون محسوبة، مراعى فيها ما ذكر تكون بالبر والتقوى، لا لشيء آخر، والله سيجازيكم، ويحاسبكم على ذلك، قال: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا هذه جوانب تدل على كمال هذه الشريعة، فنهي عن النجوى؛ لما فيها من الفساد، أو الإفساد، أو الضرر الاجتماعي، سواءً كان على مستوى الأفراد، أو مستوى الأمة؛ لأنها كما سبق منشأ المؤامرة، وقالة السوء، وكذلك بين الأفراد قد يكون هذا أيضاً كذلك، وأقل ما يحصل بسببها الإيحاش يعني تجد أن هذا الذي يُتناجى دونه فلا يتناجى اثنان دون الثالث، كذلك ثلاثة دون الرابع، لكن يتناجى اثنان دون اثنين لا إشكال في هذا، لكن إذا بقي وحده يحصل الإيحاش له، من أي جهة كان، مثلاً قد يقع في وهمه أو يوقع الشيطان ذلك في وهمه أن هؤلاء يأتمرون به، أن الحديث الذي يدور يختص به، يتعلق به، في أمر يخصه، فتأخذه الظنون، والمخاوف تذهب به هنا وهناك لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا هذه الحالة الأولى.

الصورة الثانية، أو الحالة الثانية: أنه قد يثق بهؤلاء أنهم لا يتآمرون عليه ولا يريدون به سوءاً، ويشعر أنه في نظر هؤلاء لم يصل إلى تلك المنزلة من الثقة، والعلاقة، والمكانة في نفوسهم بحيث يدخلونه معهم في هذا الحديث، هم يريدون التحدث دونه لا يريدونه أن يسمع، إذاً هذا يعطيه انطباعاً أنه لم يصل معهم إلى حال من الثقة أو المنزلة في نفوسهم، بحيث يدخلونه ويشترك معهم في هذا الحديث، فهم يتحاشونه فيحزن، هو يثق أن الحديث لا يدور عنه، وأن هؤلاء لا يريدون به إلا خيراً، ولكن يقع الحزن فيتسلل إلى نفسه مما يلقيه الشيطان في قلب العبد، فيحصل له شيء من الانكماش، والانقباض، والوحشة، والفتور في علاقته مع هؤلاء، فتضعف نبرته في الحديث، وتذبل عينه، ويعتريه شيء من الخمول، والشعور بالغربة في هذا المجلس، أو بنوع من الغربة، فالشريعة راعت هذا لئلا يحزن المؤمن، فالشيطان يأتيه في هاتين الحالتين: إما النوم بالرؤى المزعجة فقال له: هذا ما يضرك، لا تلتفت إليه، لا تحزن، أو في اليقظة عن طريق هذه النجوى، فمنعهم منها، فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإذا قالوا: عن إذنك عندنا حديث بيننا، تأذن في موضوع بيننا نريد أن نتحدث فيه، وننهيه، تجد أنه ينشط ويقوى، وتنبعث نفسه على النشاط، ويبادرهم بأن ذلك لهم، ويكون في حال من التألق، والنشاط، لاحظْ الفرق بين الحالتين إلا بإذنه حيث إنهم أعطوه اعتباراً، وراعوا وجوده، فلم يكن بالنسبة إليهم مصغى لهم الإناء، مَهيض الجناح، يتحدثون وكأنه لا شيء بالنسبة إليهم، لا يعني شيئاً، هذا من كمال هذه الشريعة التي لم يعرف قدرها كثير من المنتسبين إليها، والله المستعان.

ثم ختم الآية بقوله: وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وهكذا في كل ما يعتري الإنسان من المخاوف، الشيطان يلقي في قلبه، كما قال الله : إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [سورة آل عمران:175] يعني يضخم هؤلاء أي أولياء الشيطان، وجند الشيطان يضخمهم في نفس العبد، من أجل أن يخاف منهم، يخوفكم يعني من أوليائه يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ، ويعطيهم هالة، وشيئاً من العظمة الزائفة، من أجل أن تخافوهم، فالله يقول: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، يخوفكم منهم، فهنا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، فيفوض الإنسان أمره إلى الله، فالله بيده النفع والضر، ونواصي الخلق تحت قبضته ، وإذا توكل عليه العبد فهو حسبه وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [سورة الطلاق:3] يعني: كافيه، فتتلاشى المخاوف من نفس الإنسان، وتذهب عنه الأوهام وإلا فإنه يكون أسيراً لها، لا يهنأ بأكل، ولا نوم، ولا مطالعة ولا غير ذلك، الوهم يلاحقه، والشيطان يملأ قلبه من هذه الأمور التي لا حقيقة لها.

  1. رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة، برقم (6290)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه، برقم (2184)، وأحمد في المسند، برقم (4407)، وقال محققوه:    "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2. رواه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف، برقم (19806)، وأحمد في المسند، برقم (6338)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".