تفسير سورة الحشر وهي مدنية.
وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير.
روى سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: "أنزلت في بني النضير"[1]، وراه البخاري ومسلم من وجه آخر عن هشيم به.
ورواه البخاري من حديث أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: "سورة بني النضير"[2].
فسورة الحشر من السور النازلة في المدينة، وفيما ورد من الروايات التي تذكر ترتيب السور -وإن كانت ضعيفة- هي نازلة بعد البينة وقبل النصر، ولها اسمان، سورة الحشر، والاسم الثاني سورة بني النضير، وذلك أنها نازلة في هذه الوقعة، والموضوع الذي تدور عليه هذه السورة في مجمل آياتها هو الحديث عن غزوة بني النضير، وما تبعها وما ترتب عليها من أحكام الفيء تفصيلًا، فمجمل الآيات تحدثت عن موقف المنافقين في هذه السورة، إلى غير ذلك.
يقول: أنزلت في بني النضير، أورد المؤلف -رحمه الله- جملة من الروايات في نزولها تأتي -إن شاء الله-، ومن هذه الروايات أنها نزلت بسبب أن النبي ﷺلما أتى هؤلاء اليهود بعدما جاء إلى مسجد قباء، وهم قريب من قباء، هم في الناحية التي تكون إلى جهة اليسار من المسجد وأنت متجه إلى الحَرَّة الشرقية، فهناك تأتي على يمينك أرض النضير في حَرّة من تلك الحِرار، فهي إلى حد ما تعتبر حرة جنوبية وأنت متجه إلى الشرق حتى تأتي على الحرة الشرقية، وهناك كانت أرض قريظة، ولا زال بعض العامة إلى اليوم يسمون الحرة الشرقية قريظة، ويوجد في بعض الخرائط التي تبين منازل الناس في ذلك الوقت من بطون الأنصار وغيرهم، ولا زالت بعض آثارهم موجودة إلى اليوم في تلك الحرة التي يقال لموضعهم فيها: البويرة، وهذه الحرة فيها قصر كعب بن الأشرف، وهو قصر بقيت آثاره، جدرانه وما إلى ذلك لا زالت موجودة، وهي جدران ضخمة لربما عرض الجدار أكثر من متر، ومما يذكر في هذه الروايات أن النبي ﷺ أتى قباء، ثم أتى إليهم من أجل طلب الإعانة في دية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في القصة المعروفة بعد بئر معونة وهو يظن أنهما من أولئك الكفار الذين غدروا بأصحابه، فقتلهم ثم تبين أن بينهما وبين النبي ﷺ عهدًا، فالنبي ﷺ تحمل الدية، فمر على هؤلاء اليهود فرحبوا به، وأظهروا له أنهم سيعطونه ما يريد، وأنه جلس تحت حجرة، وأنهم ائتمروا فيما بينهم أن يلقوا عليه صخرة، فأتاه الوحي، فخرج النبي ﷺ حتى أتى المدينة وجهز لهم الجيش، هذا في سبب وقعة بني النضير، وليس سبب نزول الآيات، وإنما في سبب وقعة بني النضير، وجاء في روايات أخرى أن هؤلاء هددهم المشركون، وتوعدوهم لاسيما بعد بدر إن لم يقاتلوا النبي ﷺ وأنهم عزموا على الغدر، وأنهم طلبوا منه أن يخرج في نفر من أصحابه -في مجموعة من أصحابه- ويخرجون لهم في أحبار لهم، ويلتقون في منتصف الطريق، يتحاورون وإن كان على حق أو كانوا على حق يسمع منهم ويسمعون منه، يخرج في ثلاثين رجلًا وهم يخرجون في ثلاثين رجلًا، ثم بعد ذلك قال بعضهم لبعض: إنكم لا تستطيعون أن تخلصوا إليه ومعه أصحابه، فقالوا له: إنا لا نستطيع أن نسمع منك وتسمع منا ونحن ستون رجلًا فاخرج في ثلاثة من أصحابك من أجل أن نسمع منك وتسمع منا، فجاءه الوحي وأخبره بما أضمروا من الغدر، فجهز لهم الجيش، ويذكر فيها أشياء أخرى.
والنبي ﷺ لما قدم المدينة -كما هو معلوم- صالح اليهود بطوائفهم الثلاث قريظة والنضير وقينقاع.
والنضير هؤلاء كانوا من أشرف اليهود، يعني هم ينظرون إلى أنهم أشرف من قريظة، وكانوا كما يقولون من رهط أو من نسل هارون ﷺ، وأنه لم يحصل لهم في التاريخ جلاء؛ لأن اليهود العادة أنهم يشردون كثيرًا، فهؤلاء لم يحصل لهم جلاء كما يقولون، فالشاهد أن النبي ﷺ صالحهم على أن يكونوا لا له ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر، فلما انهزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا إلى مكة، وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة، فأمر النبي ﷺ محمد بن مسلمة فقتل كعب بن الأشرف، وكان أخاه من الرضاعة.
ثم صبّحهم النبي ﷺ بالكتائب، فأمرهم بالخروج من المدينة، فاستمهلوا النبي ﷺ عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فبعث إليهم عبدُ الله بن أبي وقال: لا تخرجوا، فإن قاتلوكم فنحن معكم، وإن خرجتم لنخرجن معكم، فحصَّنوا الأزقة، فحاصرهم النبي ﷺ جاء في بعض الروايات إحدى وعشرين ليلة حتى طلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل أهل ثلاثة بيوت ما شاءوا من متاعهم على بعير واحد، فأجلوا إلى الشام وإلى أريحا وأذرعات، يقولون: إلا أهل بيتين من آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فقد لحقوا بخيبر، وذهبت طائفة إلى الحيرة، هذا أيضاً سبب ثالث في وقوع هذه الغزوة، وهو أنهم هم الذين قاموا بتحريض قريش، وجاء كما سبق في سورة النساء:أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً[سورة النساء:51] أنهم قالوا لهؤلاء من المشركين: أنتم أهدى من محمد، لما ذهبوا يحرضون على قتاله، وسجدوا لأصنام المشركين، فنزلت هذه الآيات في سورة النساء، والرواية لا تخلو من ضعف.
فهذا يذكر في أسباب هذه الغزوة، وتجدون هذا في كتب السير وفي كتب التفسير، وكان وقت هذه الغزوة التي بسببها نزلت هذه الآيات في السنة الرابعة فيما ذكره بعض أهل العلم، وجاء عن عروة بن الزبير أنها كانت بعد ستة أشهر من بدر، ومعلوم أن غزوة بدر كانت في رمضان من السنة الثانية للهجرة، فبعد ستة أشهر من بدر متى تكون؟ طبعًا قبل أحد، يعني بين بدر وأحد، بعد ستة أشهر من رمضان: شوال وذي القعدة وذي الحجة ومحرم وصفر وربيع الأول، هذه ستة أشهر، بعد ستة أشهر يعني في ربيع الثاني، بعد ستة أشهر من غزوة بدر يعني أنها في أوائل السنة الثالثة من الهجرة، بدر في السنة الثانية، والنضير في أوائل السنة الثالثة.
وصح عن عائشة -ا- مثل هذا، وابن إسحاق يقول: إنها كانت بعد أحد وبئر معونة، المشركون ساروا من مكة إلى أحد في السنة الثالثة في الخامس من شهر شوال، وبئر معونة كانت في صفر بعد أحد بأربعة أشهر يعني في أوائل السنة الرابعة، وعلى هذا تكون وقعة بني النضير على القول الثاني في أوائل السنة الرابعة، وعلى الأول في أوائل السنة الثالثة من الهجرة.
يعني على القول الأول تكون في ربيع، وعرفنا أن غزوة أُحد كانت في شوال من السنة الثالثة، وهذه في ربيع من السنة الثالثة.
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ[سورة الحشر:1-5].
يخبر تعالى أن جميع ما في السماوات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده كقوله تعالى:تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[سورة الإسراء:44]، وقوله تعالى:وَهُوَ الْعَزِيزُ أي: منيع الجناب،الْحَكِيمُ في قدره وشرعه.
هذه السورة افتتحت بالتسبيح، وبصيغة الماضي،سَبَّحَ لِلَّهِ، والتسبيح كما هو معلوم جاء بالصيغ الثلاث سبح لله، يسبح لله، سبح اسم ربك الأعلى، فالله -تبارك وتعالى- مستحق للتنزيه والتسبيح في الأزمنة الثلاثة في الماضي والحاضر والمستقبل، وافتتاح هذه السورة بالتسبيح سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ من أهل العلم كالطاهر بن عاشور من يقول: إن ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنه إذا كان كل شيء يسبح لله مما في السماوات وفي الأرض فهذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده من أهل الإيمان أن يسبحوه تسبيح شكر على ما امتن به وتفضل عليهم من فتح النضير، ويمكن أن يقال: إن الله -تبارك وتعالى- افتتح هذه السورة بالتسبيح مع ذكر هذين الاسمين الكريمين العزيز الحكيم باعتبار أن ما وقع في هذه الغزوة إنما هو من كمال عدله ، وأنه لا يظلم الناس شيئًا، فما حصل لهم ليس بظلم، وإنما هو عدل منه وتقدست أسماؤه، وأن الله -تبارك وتعالى- ما كان ليذر هؤلاء يفسدون ويحرضون على رسول الله ﷺ، ويغدرون وينقضون عهوده، ثم بعد ذلك يبقون في حال من العافية والسلامة، فإن من سنته -تبارك وتعالى- أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وهؤلاء يمكرون وهم أهل مكر ودسائس فسبح نفسه -تبارك وتعالى- وذكر هذين الاسمين العزيز الحكيم، فإن إخراج هؤلاء من هذه الحصون التي كانت في غاية القوة والمنعة من مقتضى هذه الأسماء -العزيز الحكيم-؛ فإن عزته قهر بها هؤلاء اليهود وأخرجهم من ديارهم وحصونهم، وما كانوا يظنون أن ذلك يقع، وما كان أهل الإيمان أيضًا يتوقعون ذلك أو يؤملونه لشدة ما لهؤلاء اليهود من المنعة، الأرض حَرّة المشي فيها في غاية الصعوبة، والحصار أصعب، ثم بعد ذلك عندهم هذه القلاع والحصون والأسلحة المكدسة والآبار، وعندهم من التجارة والأموال والزروع ما يمكن أن يصمدوا معه، فالمقصود أن مثل هذا هو من مقتضى عزته -تبارك وتعالى- وحكمته حيث يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فهذه السورة مفتتحة بالتسبيح ومختتمة بالتسبيح، لما ذكر الله أسماءه الحسنى في آخرها قال:يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[سورة الحشر:24] في آخر السورة هذا يسمونه المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها، افتتحت بالتسبيح واختتمت بالتسبيح.
- رواه البخاري، في أوائل كتاب فرض الخمس، برقم (3094)، وبرقم (4031)، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله ﷺإليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله ﷺ.
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله ﷺ إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله ﷺ، برقم (4029).