السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُوا۟ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ[سورة الحشر:8-10].

يقول تعالى مبينًا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم "الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا" أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضات الله ورضوانه.

هذه الآية متعلقة بما قبلها، يعني لما ذكر الله الأقسام التي يصير إليها الفيء:فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فالمساكين: الفقراء، فإنه كما هو معروف إذا ذكر المسكين دخل فيه الفقير، وإذا ذكر مع الفقير افترقا في المعنى، فهنا قوله -تبارك وتعالى- في قسم هذا الفيء:مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى كالنضير وخيبر وفدك وهي قريبة من خيبر وأشباه ذلك،فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وهذا سهم واحد على قول الجمهور، وعامة أهل العلم، يشبه الإجماع، والخلاف فيه أقرب إلى الشذوذ، فسهم الله وسهم الرسول ﷺ واحد، فكان النبي ﷺ يأخذ نفقته ونفقة أهله سنة ثم يجعل الباقي في الكراع والسلاح، فسهم الله -تبارك وتعالى- من قال بأنه مستقل قال: يصرف في الكعبة وما إلى ذلك، والأقرب أنهما سهم واحد فيصرف في المصالح العامة مثل: السلاح، الكراع، والكراع يعني المراكب الإبل والخيل، يمكن أن تقول الآن: الأشياء الحديثة من السلاح، بناء الجيوش، وكذلك أيضًا المصالح العامة مثل التعليم، الجامعات، المدارس، وما أشبه ذلك من مصالح المسلمين العامة، بناء الطرق، وما أشبه هذا.

ثم بعد ذلك قال:وَلِذِي الْقُرْبَىوالذي عليه الجمهور أن المقصود قرابة النبي ﷺ، والمقصود بهم من لا تحل لهم الصدقة، وهم الذين دخلوا معه في الشعب وليسوا كل القرابة، فالذين يدخلون في هذا هم أهل أربعة بيوت آل عباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، هذه أربعة هم المقصودون بالقربى، وهؤلاء لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام، وهنا قال الله -تبارك وتعالى-:وَالْيَتَامَى وهو من فقد أباه قبل البلوغ، يقال له: يتيم فإذا بلغ لم يكن يتيمًا، والمقصود باليتامى أن يكون فقيرًا بطبيعة الحال، يعني لو كان اليتيم غنيًا فإنه لا يُعطَى، وإنما يُعطَى لغيره،وَالْمَسَاكِينِ وهنا كما سبق يدخل فيها الفقراء،وَابْنِ السَّبِيلِيعني المسافر الذي انقطع في سفره، نفدت نفقته، أو سرقت، أو غير ذلك فلم يبق في يده ما يوصله إلى مبتغاه فيعطى ما يصلح لمثله ولو كان غنيًا في بلده، يعني أن الناس يتفاوتون في هذا فقد يكون ابن السبيل هذا ممن لا يركب إلا الدرجة الأولى في الطائرة وإلا فلا يسافر، ولا يسكن إلا في فنادق من نوع خاص فيعطى ما يصلح لمثله، وآخر يسافر في النقل العام -النقل الجماعي-، ويسكن في أدنى الأماكن فيعطى ما يصلح لمثله، فيتفاوتون ولا يكون ذلك على سبيل القرض، يقول: إذا رجعت إلى بلدك أنت غني تعيد هذا المال، لا، فإنما يعطى له، فالشريعة جاءت تحفظ كرامة المسلم وترعى حرمته، فلا يبقى في محل غربته في حال لربما يلحقه فيها ذل أو معرّة، فيعطى من الفيء ما يكفيه حتى يصل إلى بلده، ونُسب إلى السبيل -السبيل: الطريق تذكر وتؤنث- نسب إليها لملازمته لها كما قيل في الطائر المعروف: ابن الماء؛ لملازمته الماء،كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ،وهذه الآية:لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ لاحظ هناك ذكر المساكين ويدخل فيها الفقراء عمومًا، وهذه الآية قلنا: إنها متعلقة بما قبلها، يعني أن أحق الناس هم أولئك الفقراء الذين تركوا كل شيء خلفهم، جاءوا يريدون ما عند الله -تبارك وتعالى- فتركوا الأموال والأهل والعشيرة والوطن لله وفي الله،لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ هم أحق الناس بهذا، وهذه الأقسام المذكورة الخمسة ليس المراد أنه يقسم الفيء بينها بالتساوي، يعني لا يقال: لابدّ من خمس وخمس وخمس وخمس وخمس، وإنما بحسب الحاجات وتفاوتها، فقد يكثر الفقراء في وقت، قد لا يوجد عندنا ابن سبيل، وقد يكثر غيرهم من وجوه المصارف كاليتامى مثلًا فيكون ذلك بحسب الحاجات، ويمكن أن يغلب أحد المصارف إذا عظمت الحاجة واشتد الداعي، لكن هنا يبين الله أن أحق من أُعطي له هذا الفيء هم أولئك الفقراء من المهاجرين، ولاحظ التزكية من وجوه متعددة بشهادة الله لهم - وأرضاهم-،لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ معروف أنهم هم الذين خرجوا كانوا يخرجون يتسللون خفية؛ لأن المشركين كانوا يمنعونهم من الخروج ويضطهدونهم، وكان الواحد منهم يخرج سرًا ليلًا فأضاف الإخراج إلى الكفار "أُخرجوا" هنا بالبناء للمجهول، والله قال في سورة الممتحنة:يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ[سورة الممتحنة:1] فأضاف الإخراج صراحة إلى الكفار؛ وذلك أنهم تسببوا فيه، باعتبار أنهم ألجئوهم إلى الخروج بذلك الاضطهاد والتضييق عليهم فصاروا بمنزلة من باشر إخراجهم، هذا الجمع بين الآيات، وكذلك ما هو معلوم من كون المهاجرين خرجوا بأنفسهم لكن أولئك هم الذين ألجئوهم، ولاحظ التزكية يَبْتَغُونَ يعني يطلبون فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، يعني أن هجرتهم كانت لله وفي الله، شهادة بالإخلاص من الله ، ومعروف حديث النيات:إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها[1]، فقد يكون الإنسان في الظاهر مهاجرًا ولكنه في حقيقة الأمر وباطنه ليس بمهاجر لله ورسوله، فهذه شهادة من اللهيَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ما هاجروا لدنيا.

وانظر إلى الشهادة الثانية والتزكية الثانية وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ هذه أوصاف عظيمة.

والصفة الثالثة:أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أشار إليهم بإشارة البعيد "أولئك"؛ لعلو منزلتهم ورفيع قدرهم، ثم جاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام، وقلنا: هذا يفيد تقوية النسبة، أولئك ما بهم؟ ما قال: أولئك صادقون، قال:أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ودخلت "ال" على الخبر أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، ما قال: صادقون، وإنما "هم الصادقون" كأنه لا صادق إلا هم، أو أنهم هم الذين حصّلوا الوصف الكامل من الصدق، يعني هذا يشبه الحصر تقول: فلان هو الكريم، فلان هو العالم، فلان هو البار، يعني كأنه لا بار إلا هو، أو كأنه هو الذي حصّل الوصف الكامل من البر،أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يقول: هؤلاء هم الصادقون حقًّا، هذه ثلاثة أوصاف في تزكية المهاجرين - وأرضاهم، وأخزى الله من آذاهم ولعنهم وانتقصهم.

وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي: هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين.
  1. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، برقم (54)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ:  إنما الأعمال بالنية  وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907).