مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى: بعضهم يقول: المراد بذلك الجزية والخراج، كما يقوله معمر، وبعضهم يقول: بل هو الغنيمة التي يأخذونها من عدوهم من أهل الحرب والقتال، كما جاء عن يزيد بن رومان ومالك، وبعضهم فسره أيضًا بالغنيمة التي تنتزع بقوة من أيدي الكفار لمن ذُكر في الآية، يعني أن الغنيمة تقسم إلى هذه الأقسام الخمسة، يقولون: وهذا منسوخ بآية الأنفال، وهذا فيه نظر؛ لأن هذه الآية نازلة بعد آية الأنفال، وقعة النضير كانت بعد غزوة بدر، وآية الأنفال نزلت في قصة بدر كما هو معروف، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، فليست منسوخة، والقول المشهور أنه ما نزل عنه الكفار من أموالهم يعني أن مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ هذه بيان للتي قبلها،وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُإذاً ماذا يُفعل به؟ يقسم بهذه الطريقة: لله وللرسول إلى آخره، فهذا كأنه الأقرب -والله أعلم- وإن ضعفه ابن جرير -رحمه الله-، هذه بيان للتي قبلها، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير لاحظ يقول: إلى آخرها والتي بعدها، وهذه مصارف أموال الفيء، فهذه الآية بيان للتي قبلها، وهكذا التي بعدها، كل ذلك، حينما يقول الله :وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ،وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ كل هذا في بيان أحكام الفيء، من أحق الناس بالفيء؟ من الذين يعطون من هذا الفيء؟
هذا قول الشافعي أيضًا -رحمه الله-، يقول: هذه الآية تفسر الآية التي قبلها والمتعلقة بها، يعني ما حصل من أموال الكفار بغير قتال يقسم على خمسة أسهم، وإن اختلفوا في طريقة التقسيم، بعضهم يقول: أربعة للنبي ﷺ، والخمس الباقي يقسم على خمسة أسهم وهي المذكورة في هذه الآية.
وفي هذا كلام كثير لأهل العلم في كتب التفسير، وفي كتب الفقه، لكن هذا لعله الأقرب -والله أعلم-، مع أن جمهور المفسرين يقولون: إنها غير متعلقة بالتي قبلها، وبهذا قال الإمام مالك، وقبله أبو حنيفة، يقولون: الأولى في بني النضير، وهذه في عموم الأفياء بعده، يعني كأن بني النضير لها حكم خاص، جعلها الله لنبيهﷺ.
النبي ﷺ في غزوة النضير جمع الأنصار وخيرهم كما سيأتي في قوله:وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ خيرهم بين أن يبقى المهاجرون في أرضهم وأموالهم فيقسم النضير بين المهاجرين والأنصار، وبين أن يخرج المهاجرون من أموال الأنصار فتكون للمهاجرين خاصة دون الأنصار، ومعلوم أن النبي ﷺ حينما جاء المهاجرون إلى المدينة كان ﷺ يؤاخي بين الرجل من المهاجرين والرجل من الأنصار فقاسموهم الأموال.
ثم إن النبي ﷺ عرض على الأنصار أمرًا وهو أن المهاجرين ليسوا بأهل زرع فعرض عليهم أن يكون الأصل للأنصار -يعني الأرض- وأن يقاسمهم المهاجرون الثمرة على أن يكون العمل للأنصار في مقابل أن يبقى الأصل لهم، طبعًا الأنصار ما قالوا: الأصل والفرع كله لنا، وإنما قبلوا بهذا، فلما جاءت أرض النضير وخُيّر الأنصار جمعهم وحدهم وقال لهم: اختاروا، فرفضوا هذا العرض، وقالوا: لا نقبل بهذا، بل اقسمها يا رسول الله بينهم دوننا، ويبقون في أموالنا، ومعلوم أن أرض النضير أرض غنية فيها مزارع، وفيها دور وما إلى ذلك، قال الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وليس هذا الإيثار من غنى وسعة وكثرة عرض، وإنما وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
فهذه مصارف الفيء ووجوهه.
روى الإمام أحمد عن عمر قال: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله ﷺ خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته، وقال مرة: قوت سنته، وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله "[1]، هكذا أخرجه أحمد هاهنا مختصرًا، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم إلا ابن ماجه، وقد رويناه مطولًا.
وروى أبو داود -رحمه الله- عن مالك بن أوس قال: "أرسل إليّ عمر بن الخطاب حين تعالى النهار، فجئته فوجدته جالسًا على سرير مفضيًا إلى رماله، فقال حين دخلت عليه: يا مالك إنه قد دَفّ أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم بشيء فاقسم فيهم، قلت: لو أمرتَ غيري بذلك فقال: خذه، فجاءه يرفأ فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص؟
يرفأ: هذا مولى، ليس هذا صفة، يعني هذا اسم رجل مولى.
قال: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه يرفأ فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في العباس وعلي؟ قال: نعم.
هذا المولى، هو الذي يقول له: جاء فلان جاء فلان، يعني يستأذنون فيستأذنه في إدخالهم.
النفر الذين هم عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، يعني كأنهم أشاروا على عمر بأن يقضي بينهم بحيث إنهم خشوا أو كأنهم كانوا يخشون أن عمر يمتنع من الدخول في هذا.
كلام عمر هذا وبحضرة هؤلاء الصحابة وأقروه على ذلك بأن النضير خص الله بها نبيه ﷺ، فبناءً على ذلك ذهب الجمهور إلى أن الآية الأولى هي خاصة في بني النضير، وأنها لا تقسم هذه القسمة بهذه الطريقة على خلاف في التفاصيل، وأن الله خص بها نبيه ﷺ، لكن كان ﷺ لا يستأثر بذلك، فكان يأخذ نفقة سنة ثم بعد ذلك يجعل الباقي في الكراع والسلاح وما إلى ذلك، فتكون الآية الأولى عند الجمهور خاصة بالنبي ﷺ، والآية التي بعدها في عموم الأفياء، حكم الفيء عمومًا.
ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم.
الآن كون النضير لها هذا الحكم، وأن الله خص بها نبيه ﷺ هذا لا إشكال فيه، لكن هذا لا يمنع أن تكون الآية الأولى مقدمة لما بعدها باعتبار أن المقاتلين على كل الحالات ليس لهم شيء، يعني في الآية الأولى لم يصرح فيها أن ذلك للنبي ﷺ خاصة، وإنما بين لهم أن هذا ليس لكم فيه جهد، ولم يكن منكم تعنٍّ وما إلى ذلك، وإن كان ظاهرها يشعر أن ذلك في بني النضير من أي وجه؟ من قوله:فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الركاب للسفر البعيد، فقد يكون الفيء الذي حصل في بعض الحالات كخيبر أوجفوا عليه بالركاب، يعني أنهم ساروا إليه مسافة ليست بالقصيرة، فخيبر ليست بذلك القرب من المدينة ففيها سفر، ويمكن أن يجاب عن هذا بأن يقال: إن ذلك باعتبار الغالب من جهة، ومن جهة أخرى لكون المقام يقتضيه، يعني باعتبار أنه يريد أن يقول لهم: ليس لكم في هذا جهد، ما حصل بالقتال وأخذ بالقوة.
وهذا يحتمل، ولو دخلنا في التفاصيل لاحتاج هذا إلى وقت طويل، والله أعلم.
ثم أقبل على علي والعباس فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم، فلما توفي رسول الله ﷺ قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله ﷺ، فجئتَ أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر : قال رسول الله ﷺ:لا نورث، ما تركناه صدقة، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق، فوليها أبو بكر، فلما توفي قلتُ: أنا ولي رسول الله ﷺ، وولي أبي بكر، فوليتها ما شاء الله أن أليها، فجئتَ أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها..
يعني ما كان بينكما اختلاف، الآن جاءا مختلفيْن.
فقلت: إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تليها بالذي كان رسول الله ﷺ يليها، فأخذتماها على ذلك، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك، والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فرداها إليّ"[2]. أخرجاه من حديث الزهري به.
وقوله تعالى:كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ أي: جعلنا هذه المصارف من مال الفيء كي لا يبقى مَأكلةً يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء ولا يصرفون منه شيئًا إلى الفقراء.
كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةًالدولة ما يتداوله المتداولون، التداول هو التعاقب في التصرف بالشيء، وخصه الاستعمال بنوع من هذا التداول وهو تداول المال، فكل ما تتداوله الأيدي ينتقل من يد إلى يد يقال له: دُولة، لكن صار ذلك معناه في النهاية كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً كي لا يكون حِكرًا على الأغنياء يتداولونه بينهم ولا يصل إلى الفقراء.
فالفيء كما ترون في هذه القسمة لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهذا يصل إلى المحتاجين والفقراء والضعفاء في المجتمع، وهذا طريق لمعالجة الفقر وسد الحاجات، كما أن الشريعة في تقسيمها وتوزيعها للتركات هذه التركة تُكسَّر وتجزَّأ فتجد المال الذي عند واحد يتحول إلى مجموعة، فلا يقال: هذا المال يكون للولد الأكبر مثلًا، أو يكون للأب، أو يكون للزوجة، وإنما يقسم فيصل إلى مجموعة من الناس، وإذا مات الواحد منهم وصل المال إلى مجموعة من الناس، وإذا مات كل واحد وصل ماله إلى مجموعة من الناس، فتجد المال ينتشر، وبهذا يصل المال للمحتاجين ولأبعد مدى بين أفراد المجتمع، لا يتوقف عند طبقة وهم الأغنياء كما هو في النظام الرأسمالي طبقة تتضخم وتنتفش، والطبقة الأخرى لا تزال في انحسار وفقر وإلى فقر يتزايد مع الأيام، وأولئك لا يزيدونهم إلا فقرًا كما أنهم لا يزدادون إلا غنى كما هو مشاهد.
هذه الآية:وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ جاءت في سياق قَسْم الفيء، والفيء مال، فتكون هذه الآية وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ يعني من المال، السياق في هذا، ويستدل العلماء بها من لدن أصحاب النبي ﷺ إلى يومنا هذا على وجوب طاعة الرسول ﷺ فيما أمر،وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وهذا الاستدلال صحيح وإن كانت الآية في سياق قَسْم المال، فهي تشمل الإيتاء إعطاء المال، ويدخل في ذلك أيضًا ما آتاكم وما أمركم به فافعلوا وامتثلوا، وفي الآية إشارة إلى هذا المعنى وهو قوله:وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا فقابله بالنهي، ما قال: وما منعكم ما آتاكم، فالإيتاء يقابله المنع، فهنا قابله بالنهي، والنهي إنما يقابل الأمر في الأصل، فالآية في هذا السياق وهو الإعطاء المادي -الإيتاء المادي-، ولكن يؤخذ من عمومها أنه يدخل فيها الأمر، فإنهم يجب عليهم أن يمتثلوا ذلك، ويدل على هذا أثر ابن مسعود لما سألته المرأة كما ذكر الحافظ ابن كثير بعده:لعن الله الواشمات والمستوشمات[3]، فاحتج بهذا نفسه -وهو من علماء الصحابة-وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا فهذه الآية وإن كانت واردة في سياق الإيتاء والإعطاء المادي إلا أن عمومها يؤخذ منه أن ما أمر به فتجب طاعته ﷺ.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ، قال: فبلغ امرأة من بني الأسد في البيت يقال لها: أم يعقوب فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك قلت كيت وكيت، قال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ وفي كتاب الله تعالى؟، فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته، فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأتي وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا؟ قالت بلى، قال: فإن رسول الله ﷺ نهى عنه، قالت: إني لأظن أهلك يفعلونه، قال: اذهبي فانظري، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئًا، فجاءت فقالت: ما رأيت شيئًا، قال: لو كان كذا لم تجامعنا"[4] أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري.
وقد ثبت في الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال:إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه[5].
العنت الذي يلقاه المفتي ليس بجديد، قضية قديمة، لم تكتفِ بالسؤال وسماع الجواب، وإنما تقول: قرأت القرآن ولم أجده، وتقول أكثر من هذا: أظن أن أهلك يفعلونه، كيف تظن بابن مسعود أن ينهاها عن شيء ثم بعد ذلك يُقر أهله عليه، هذا ليس من الأدب، وليس من حسن الظن في شيء، والله المستعان.
- رواه النسائي، كتاب قسم الفيء، برقم (4140)، وأحمد في المسند، برقم (337)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب قول النبي ﷺ: لا نورث، ما تركنا صدقة ، برقم (6728)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء، برقم (1757).
- رواه البخاري، كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن، برقم (5931)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
- رواه أحمد في المسند، برقم (4129)، وقال محققوه: "إسناده الأول صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ، برقم (7288)، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337).