فهذا شروع في بيان أحكام الفيء، وذكرتُ في بداية تفسير هذه السورة أن موضوعها يدور على غزوة بني النضير، وما تبعها، وما تعلق بها من القضايا والأحكام والمواقف.
وهذا الفيء متصل بهذه الغزوة؛ لأن أموال النضير صارت فيئًا للمسلمين، والفيء أصله من فاء الشيء إلى كذا كما تقول: الفيء هو الظل الذي يكون بعد منتصف النهار، بمعنى أن الظل الذي يكون في أول النهار هذا لا يقال له فيء؛ لأنه لم ينتقل، وإنما يقْلُص شيئًا فشيئًا ثم بعد الزوال ينتقل فيتمدد من الناحية الأخرى حتى يمتد وينبسط إلى غياب الشمس، فهذا انتقال للظل، وهذا الانتقال يقال له: فيء، فاء الظل انتقل، فالفيء هو انتقال المال من أيدي الكفار إلى أيدي المسلمين من غير قتال، وهذه الآية هي مقدمة لما بعدها من بيان أحكام الفيء،وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
حاصل هذا أن الله يقول لهم: إن ما أفاء الله على رسوله ﷺ فذلك لم يكن لكم فيه يد، ولم تقطعوا فيه شُقة، ولم تلقوا فيه مشقة،فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، والإيجاف هو الإسراع،فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ يعني لم يودعوا فيه السير، أوجف الفرس إذا أسرع، هو سير سريع بإيقاع.
فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الخيل كأنها تشير إلى الإغارة؛ لأنها تستعمل للإغارة، والركاب هي الإبل، وتشير إلى السفر الطويل.
وكما تعرفون في غزوة أحد كان النبي ﷺ يتخوف من أن يميل المشركون إلى المدينة بعد الغزوة، فأمر النبي ﷺ عليًّا أن ينظر وأرشده إلى أمر وهو أنهم إن جنّبوا الخيل وركبوا الإبل فهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل فهم يريدون المدينة، فالإبل تستعمل للسفر، والخيل للهجوم للإغارة،فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ يعني لم يحصل لكم ذلك، لم يقع منكم سفر طويل ولا إغارة على العدو، يعني ما لقيتم مشقة ولا بذلتم جهدًا، فهذا شيء امتن اللهبه على نبيه ﷺ، هي مقدمة لنزعه من أيديهم، الأنفال بين الله وجه قسمتها في سورة الأنفال،وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ[سورة الأنفال:41] فهذه خمسة أقسام، هذه الخمسة في الأنفال يقسم بها أو باعتبارها الخمس من الغنيمة، يعني الغنيمة أربعة الأخماس منها للمقاتلين الذين اشتركوا في المعركة، للفارس سهمان، ولغيره سهم واحد، أربعة الأخماس للمقاتلين، الخمس من الغنيمة يقسم إلى خمسة أقسام لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل هذا في الغنيمة، خمس مقسوم إلى خمسة، أربعة أخماس للمقاتلين، ولا يوجد في الفيء للمقاتلين شيء؛ لأنه فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ما بذلتم فيه شيئًا، ليس لكم فيه يد، فهذه الآية مقدمة، كيف يقسم الفيء إذاً؟ يقسم إلى خمسة أقسام، ما هذه الأقسام الخمسة؟ هي التي يقسم بها الخمس، يقسم بها الفيء بأجمعه، هذا الفرق بين الفيء والغنيمة على خلاف كثير معروف بين أهل العلم، لكن هذا فيما يبدو -والله أعلم- الأرجح من أقوالهم، وحاصله كأنه يقول: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم فيها حربًا ولا مشقة، ليس لكم فيها يد، ثم بيّن قسمتها.