اللين نوع من التمر وهو جيد، يعني الجيد من التمر، وحينما يقال: الجيد من التمر فإن ذلك يرجع إلى أصله يعني الجيد من النخيل؛ لأن القطع هنا ليس للتمر، وإنما للنخيل، هذا قصدهم، النخيل أنواع منه ما هو جيد باعتبار الثمر، ومنه ما يكون دون ذلك، ومنه ما يكون رديئًا، فالجيد هو الذي يقال له: اللين، والواحدة لِينة، هذا على قول بعض أهل العلم، واختاره ابن كثير -رحمه الله.
قال أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبَرْنِيّ من التمر.
يعني كل أنواع التمر أنواع النخيل إلا العجوة والبرني، البرني نوع من أنواع التمر معروف إلى اليوم في المدينة.
وقال الكثير من المفسرين: اللينة ألوان التمر سوى العجوة، قال ابن جرير: هو جميع النخل.
ابن جرير -رحمه الله- لا يقول: إنها جميع أنواع النخل، وإنما يقول كالقول الذي قبله، يقول: جميع النخل ما لم يكن عجوة، فابن جرير يستثني العجوة.
ونقله عن مجاهد وهو البُوَيرة أيضًا.
البُويرة المقصود بها منازل بني النضير، المكان الذي كانوا فيه يقال له ذلك، كما سيأتي.
فهنا مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ هنا ذكر بعض الأقوال في اللينة وهي أكثر من هذا، القرطبي ذكر عشرة أقوال في معنى اللينة، فمن قائل بأنها جميع الأنواع سوى العجوة، وهذا قال به كثير من السلف كعكرمة ويزيد بن رومان وقتادة والزهري ومالك وسعيد بن جبير والخليل بن أحمد الفراهيدي، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله-، وبعضهم يطلق يقول: كل أنواع النخل يقال له: لينة، وهذا منقول عن مجاهد وعن ابن عباس قبله وعن الحسن وعمرو بن ميمون، وبعضهم يقول: كرام النخل، كما يقول ابن كثير: إنه الجيد من التمر، كرام النخل.
وبعضهم عممه في جميع الأشجار لِلِينها بالحياة، وهذا بعيد، وأبعد منه من قال: إن المقصود باللينة الفسيل، يعني الذي نسميه الفرخ من النخل الصغير الذي يغرس؛ لأنه لا يغرس إلا في أوقات الاعتدال لضعفه، ما يحتمل، يعني هناك أوقات معينة، الآن مثل هذه الأوقات قبلها بقليل وقت غرس النخيل، ما يغرس في أي وقت، لو غرسته في الصيف يموت، ما يحتمل، فهو يغرس في وقت الاعتدال في مرتين في السنة في الربيع والخريف، فبعضهم يقول: لضعفه ولينه لا يحتمل الحر، لكن هل الذي قطعوه هو هذا؟ الجواب: لا، إنما الذي قطعوه هو النخل مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ، والمقصود أنهم قطعوا بعض النخيل، وربما أحرق بعضه.
يعني هذا أمر شديد عليهم، والألوسي ذكر في تفسيره وهو من أهل العراق ذكر أنه سمع من بعض أهل النخيل الناس الذين يحبون النخيل ويعتنون بها غاية العناية يقول: وددت لو أن أنْمُلتي قُطعت ولا يقطع طرف العسيب! يعني من شدة محبته وحرصه على هذا النخيل، وعنايته بها، تقطع أنملته ولا يقطع طرف العسيب، والذين لهم عناية بالنخيل يبلغ بهم الأمر إلى هذا الحد بحيث إنه تجد هذه النخلة لربما تكون مؤذية لهم في البيت بحيث إنها تضيق الطريق، ومع ذلك لا يمكن لأحد أن يقطع منها طرفًا، وتجد هذا المعتني بها قد يكون رجلًا كبيرًا في السن، وهو في غاية الحرص عليها، يعرف ما زاد فيها وما نقص، يصبحها ويمسيها.
فكيف إذا أحرقت أو قطعت وهم ينظرون من فوق الحصون؟!، هذا يتمنى أن أنملته تقطع ولا يقطع طرف العسيب، فهذا يرى النخلة التي يسقيها صباح مساء ويعتني بها يراها تحترق أمامه، وتضطرم النار في هذه النخلة ما الذي يحصل؟ يحصل له غيظ، يعني هذه النخيل قطعت لربما لمصلحة الحصار؛ لأمور احتاجوا إليها، احتاجوا مثلًا لجذوعها لقضايا تتعلق بالحصار لمساحة أو غير ذلك، أو إغاظة، فغاظ ذلك أعداء الله، فيؤخذ منه أنه في حال الحصار للعدو أو الحرب مع أعداء الله يمكن أن تخرب دارهم إذا دعت المصلحة إلى ذلك كما قاله الإمام مالك -رحمه الله.
وكانت حوائطهم -المزارع- خارج القرية، بعضهم يقول: المقصود بالبُويرة هي المكان الذي فيه المزارع، وليست أرض النضير بكاملها، البويرة التي مضت قبل قليل في بعض الروايات، وجاءت في شعر حسان لما نظم يهجو قريشاً الذين أغروهم بنقض العهد مع النبي ﷺ ثم أسلموهم لهذا المصير البائس، فحسان بن ثابت كان فيما قال:
تفاقَدَ معشرٌ نصروا قريشًا | وليس لهم ببلدتهم نصيرُ |
وهانَ على سَراةِ بني لؤي | حريقٌ بالبُويرة مستطيرُ |
يقول أسلموهم إلى هذا المصير المحتوم -نسأل الله العافية-، رد عليه أبو سفيان بن الحارث ابن عم النبي ﷺ كان أكثر الناس شبهًا به، وكان هو الذي يقول القصائد التي يهجو فيها النبي ﷺ وأصحابه، ثم رد عليه حسان في القصيدة المعروفة:
ألا أبلغْ أبا سفيانَ عني | فأنتَ مُجوَّفٌ نَخِبٌ هواءُ |
وقال فيها:
أتَهْجُوهُ، وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ | فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ |
هذه قيلت في أبي سفيان ليس ابن حرب والد معاوية وإنما في أبي سفيان بن الحارث ابن عم النبي ﷺ، كان شديد العداوة له، فكانت هناك مجاوبة بين أبي سفيان بن الحارث هذا، وبين حسان بن ثابت ، فرد أبو سفيان على حسان في قصيدة أخرى، ومن شاء فليراجع كتب السيرة، وكان مما قال:
أدام اللهُ ذلك من صنيعٍ | وحَرّق في نواحيها السعيرُ |
ستعلمُ أيّنا منها بنُزْهٍ | وتعلمُ أيَّ أرضيْنا تضيرُ |
يقول: نحن في مكة بعيد عنكم، هذه عندكم، من الذي يتضرر فيها نحن أو أنتم؟ والنخيل التي قطعت أصلًا كانت قليلة جدًا، بعضهم يقول: ست، وبعضم يقول: قطع نخلتان مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ، والإذن هنا يحتمل أن يكون الإذن الكوني، أي بقدر الله، ويحتمل أن يكون الإذن الشرعي، وإذا قلنا: إن الإذن شرعي فهذا يقتضي أنه كوني أيضًا؛ لأن هذا شيء وقع فاجتمع فيه الإذن الكوني والإذن الشرعي، وهذا هو الأقرب-والله تعالى أعلم-؛ لأن أهل الإيمان إنما يصدرون عن أمر الله-تبارك وتعالى-، والنبي ﷺ بين أظهرهم، وهذا طريقة في الرد على الأعداء حينما يستغلون بعض التصرفات في تشويه سمعة المسلمين، والوقيعة بهم وتحريك الآلة الإعلامية في تشويه هذه الصورة، فاليهود استغلوا هذا وقالوا: أين الإصلاح الذي تدعيه؟ ما بال قطع النخيل وأنت تدعي الإصلاح؟، فجاء الرد هكذا محكمًا مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ، انتهى، لو كان اليوم لاختلفنا وبدأنا نتراشق في التويتر وفي غيره، هذا يؤيد، وهذا لا يؤيد وهذا يقول، وهذا يتهم، كما هي عادتنا في كل شيء، لاحظ الردود القرآنية قطعت عليهم الطريق،فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وأيضًا في قصة السرية التي قتل فيها ابن الحضرمي في نخلة قريبة من مكة بين الطائف ومكة، وكان ذلك أول يوم من الشهر الحرام، وما كانوا يعلمون بدخول الشهر، فتظاهروا أنهم عمار وحلقوا رءوسهم -أي المسلمون-، وتعرضوا لقافلة أو ركب من المشركين، وكان أولئك أمنوا على أنفسهم، ظنوا أنهم عمار، فأراد المسلمون لما هجموا عليهم أرادوا منهم أن يستسلموا، فأبى المشركون فحصلت مناوشة، وقتل هذا الرجل، فاستغلها المشركون وقالوا: أين الذي يقول: إنه يعظم الأشهر الحرم وعلى ملة إبراهيم؟، فما بال انتهاك الشهر الحرام؟ وجعلوها دعاية كبيرة، فكيف جاء الرد في القرآن؟
جاء الرد محكمًا يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ[سورة البقرة:217] انتهى.
لكن تعالوا أنتم أيها المجرمون وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ تحول الهجوم عليهم، ولو كان عندنا كنا تحولنا نحن أيضًا إلى جند من جملة جندهم، وأدخلونا في عباءتهم وصرنا نخرب بيوتنا بأيدينا وأيديهم، وصدقنا ما يقولون واشتغلنا ببعضنا في الرد يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ خلاص لم تتحول القضية إلى مشكلة كبرى، وحرب داخلية ومقاولة ومجاوبات ومهاترات وخصومات وفرقة، لا،قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وتعالوا أنتم ماذا سويتم؟، أنتم مجرمون تفعلون أعظم من هذا، وتفسدون في الأرض، وتصدون عن المسجد الحرام، فهذا الفعل ماذا يكون بالنسبة إليكم ولجرائمكم؟، هذه طريقة القرآن في الرد على هؤلاء في دعواهم، وفي دعايتهم في إعلامهم الفاسد، فليت المسلمين وليتنا نتعلم من هذا،فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ فلم يقل: وليخزيهم، أو وليخزي اليهود، وإنما عدل إلى الوصف بالفاسقين؛ ليؤذن بالعلة، هذا الخزي لماذا؟ لكونهم خارجين عن طاعة الله ، فهذا هو الفسق، بمعنى الخروج عن طاعته -تبارك وتعالى.
هذا ثابت في سبب نزول مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا.
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الحشر:5]، برقم (4884)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، برقم (1746).
- رواه أحمد في المسند من حديث ابن عمر -ا-، برقم (4532)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله ﷺ إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول اللهﷺ، برقم (4028)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، برقم (1746).