الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى -: تفسير سورة الأنعام وهي مكية.
قال العوفيّ وعِكْرمة وعَطاء عن ابن عباس - ا -: "أنزلت سورة الأنعام بمكة".
وروى الطبراني عن ابن عباس - ا - قال: "نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح"[1].
وقال السُّدِّي عن مُرَة عن عبد الله قال: "نزلت سورة الأنعام يشيِّعُها سبعون ألفًا من الملائكة"[2]".

فهذه السورة - كما نقل القرطبي رحمه الله عن بعض أهل العلم - أصل في محاجّة المشركين وغيرهم من المبتدعين، ومن كذّب بالبعث والنشور، فهي تتحدث عن كثير من قضايا الاعتقاد.
وقد جاءت روايات كثيرة جداً عن جماعة من الصحابة تدل وتصرح بأن هذه السورة قد نزلت جملة واحدة، ومع ذلك ورد عن بعض السلف استثناء جملة من الآيات، فمنهم من قال: ست آيات، ومنهم من قال: غير ذلك، كالثلاث الآيات المحكمات من قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:151]، وكقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91]، وكقوله: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141].
وبعض هؤلاء نظروا إلى المعنى الذي تضمنته بعض تلك الآيات، ومنهم من اعتمد في ذلك على ما يروى في سبب النزول، وسيأتي الكلام على هذه الآيات في مواضعها - إن شاء الله - لكن الأصل أن السورة قد نزلت جملة واحدة بمكة، والله تعالى أعلم.
"بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ۝ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ۝ وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:1-3].
يقول الله تعالى مادحاً نفسه الكريمة، وحامداً لها على خلقه السماوات، والأرض؛ قراراً لعباده، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم، ونهارهم، فجمع لفظ "الظلمات" ووحَّد لفظ "النور"؛ لكونه أشرف، كقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ [سورة النحل:48] وكما قال في آخر هذه السورة: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ [سورة الأنعام:153]".

قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] عامة أهل العلم فسروا قوله: وَجَعَلَ بمعنى خلق، أي: خلق السماوات والأرض، وخلق الظلمات والنور.
كما أن الذي عليه عامة أهل العلم - وهو ما مشى عليه ابن كثير رحمه الله - أن الظلمات جمع ظلمة والمقصود بها ظلمة الليل، وأن النور هو الضياء أي: ضياء النهار.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الظلمات يراد بها الكفر، وأن النور يراد به الإيمان، وهذا على خلاف الأصل؛ فالأصل في استعمال الظلمات، والمعنى المتبادر إلى الذهن أنها الظلمات الحقيقية كما قال ابن كثير، فالله تعالى يقول: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] فذَكَر خلْقَ السماوات والأرض، وذَكَر خلْقَ الظلمات، وخلْقَ النور؛ أي سواد الليل، وبياض النهار.
ومن أهل العلم من جمع بين هذه المعاني فقال: إن الظلمات تشمل المعنيين جميعاً، وكذلك النور، فالله قد سمى الهداية نوراً، وسمى الكفر ظلمات؛ كما في هذه السورة نفسها أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [سورة الأنعام:122].
فالقرآن دلَّ على هذا المعنى، ومعلوم أن اللفظ إذا أطلق وله حقيقة ومجاز، أو كان مشتَركَاً - بمعنى أنه يطلق على معانٍ متعددة - فإنه يمكن حمل المشترك على معنييه أو معانيه إن لم يوجد معارض، وهكذا يطلق على حقيقته، ومجازه - عند القائلين بالمجاز - دون إشكال، ولذلك نجد من أهل العلم من يقول: إن هذين اللفظين يشملان هذه المعاني جميعاً، لكن عامة أهل العلم على المعنى الأول، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله تعالى -.
ثم يقول ابن كثير - رحمه الله -: "وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم، ونهارهم، فجمع لفظ "الظلمات"، ووحَّد لفظ "النور"؛ لكونه أشرف"، لكن نجد أنه قد لا يظهر وجه إفراد النور لكونه أشرف - كما يقول الحافظ -، وإنما يمكن أن يقال - كما قال بعض أهل العلم -: إن النور جنس، وهو يصدق على الواحد والكثير، وأما الظلمات فذكرت بصيغة الجمع لتنوعها، وكثرة أسبابها، لا سيما إذا حملنا الآية على المعنى الثاني - أنها ظلمات الكفر، ونور الإيمان - فيكون ذلك كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، كما أنه معلوم من كلام أهل العلم أن الصراط ذُكِر مفرداً؛ لأن طريق الله واحد كما قال تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وأما الشيطان فله طرق متعددة كما قال تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ [سورة الأنعام:153].
وقد صح عن النبي ﷺ أنه خط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا صراط الله، ثم تلا هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153][3].
والخلاصة أننا إذا حملنا الظلمات والنور في الآية على الكفر والإيمان فإنها تُفسَّر حينئذٍ بالآية، والحديث السابقيْن، ونقول: وحَّد لأن طريق الحق واحد، وجمع لأن طُرق الباطل متعددة، والطرق المحدثة والضلالات المتنوعة كلها داخلة في السبل، والله تعالى أعلم.
فإن قيل في قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1]: لماذا قدم الله - تبارك وتعالى - ذكر الظلمات على النور؟ فالجواب - على المعنى الحقيقي الذي ذكره الجمهور في معنى الظلمات والنور - أن يقال: لما كان الظلام هو الأصل بدليل قوله تعالى: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [سورة يـس:37] قدمه بهذا الاعتبار، لكن لا يصح هذا الجواب إذا اعتبر القول الثاني في تفسير الآية؛ فالأصل هو الإيمان وليس الكفر بدليل قوله ﷺ في الحديث القدسي عن ربِّ العزة أنه قال: خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم[4].
"ثم قال تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [سورة الأنعام:1] أي: ومع هذا كله كفر به بعض عباده، وجعلوا معه شريكاً، وعدلاً، واتخذوا له صاحبةً، وولدًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا".

قوله: "ومع هذا كله كفر به بعض عباده.." يشير - رحمه الله - إلى أن "ثم" في هذا الموضع للاستبعاد، أي: كيف يقع منهم هذا الكفر الشنيع حيث يعدلون بربهم - تبارك وتعالى - الأنداد، والأصنام مما لم تخلق شيئاً، ولا تملك لهم نفعاً، ولا ضراً، وهو - جلَّ وعلا - الذي خلق السماوات، والأرض، وجعل الظلمات والنور؟!!
وقوله: "وجعلوا معه شريكاً وعدلاً" من أهل العلم من لم يفرق بين العَدل - بفتح العين - والعِدل - بكسرها -، وعلى هذا فلا إشكال.
ومن أهل العلم من فرَّق فقال: العَدل - بفتح العين - لمِا كان من غير جنسه، والعِدل لما كان من جنسه، ومن الأول قوله تعالى: أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [سورة المائدة:95] فالصيام ليس من جنس ما وقع من جناية قتل الصيد ولذلك فتحت العين، وفي كفارة الظهار يقال أيضاً: عَدل رقبة - بفتح العين - لأنها ليست من جنس الموجِب أيضاً.
 أما في كفارة قتل النفس فيقال: عِدل رقبة - بكسر العين -؛ لأنها من جنسه، ومنع قول مهلهل:
على أن ليس عِدلاً من كليب غداة بلابل الأمر الكبير
 وهذا التفريق هو المشهور عند أهل العلم، والله أعلم.
  1. أخرجه الطبراني في الكبير (12963) (ج 12 / ص 215) من طريق علي بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيف، انظر تخريج أحاديث وآثار كتاب الظلال لعلوي بن عبد القادر السَّقَّاف (ج 1 / ص 119).
  2. رواه الطبراني في الصغير (220) (ج 1 / ص 145) وفيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف، انظر مجمع الزوائد (ج 6 / ص 383).
  3. أخرجه ابن ماجه في افتتاح كتاب السنن في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اتباع سنة رسول الله ﷺ (11) (ج 1 / ص 6) وصححه الألباني في سنن ابن ماجه برقم (11) وفي ظلال الجنة برقم (16).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865) (ج 4 / ص 2197).

مرات الإستماع: 0

"قال كعبٌ: أول الأنعام هو أول التوراة[1] قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] جعل هنا بمعنى: خلق، والظلمات: الليل، والنور: النهار، والضوء الذي في الشمس، والقمر، وغيرهما، وإنما أفرد النور؛ لأنه أراد الجنس، وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار، وغيرها من الأنوار، وقولهم: إن الخير من النور، والشر من الظلمة، فإن المخلوق لا يكون إلهًا، ولا فاعلاً لشيءٍ من الحوادث."

سورة الأنعام جاء عن ابن عباس  - ا -  بأنه قال: "إذا سرك أن تعلم جهل العرب؛ فاقرأ ما فوق الثلاثين، ومائة من سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ  - إلى قوله -  قَدْ ضَلُّوا [الأنعام: 140]"[2].

وسُميت بالأنعام باعتبار أن ذلك قد تكرر فيها: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: 138] وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام: 142] وكذلك أيضًا: وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [الأنعام: 138].

وهذه السورة بالاتفاق نازلة في مكة، وصحَّ فيها الحديث أنها نزلت جملة واحدة، كما جاء عن ابن عباس  - ا -[3].

وجاء في زيادة: "حولها سبعون ألف ملك يجهرون حولها بالتسبيح"[4] هذا حسنه الحافظ، وصححه الشيخ أحمد شاكر، وهذه الزيادة ضعَّفها بعض أهل العلم، لكن كونها نازلة في مكة جملةً هذا نقل عليه الإجماع بعض أهل العلم، كابن عبد البر[5] واستثنى قوله: قُلْ تَعَالَوْا [الأنعام: 151]؛ الآيات الثلاثة الوصايا المحكمات.

وبعضهم يقول: ست، يعني مستثناة، والأصل أن السورة النازلة بمكة، أن جميع الآيات فيها نازلة في مكة، والسورة النازلة في المدينة، جميع الآيات نازلة في المدينة، إلا لدليل، وما قد يلوح من المعنى عند بعض المفسرين، فلا يصح أن يُقال معه بأن ذلك مستثنى لمجرد المعنى، فقد تنزل الآية قبل تقرير الحكم، وقد تنزل بعده بمدة، مثل: آية المائدة التي سبقت آية التيمم؛ فذُكر فيها الوضوء، مع أن الوضوء فيما يظهر، قد شرع قبل ذلك بكثير في مكة، حينما فرضت الصلاة.

وجعل في قوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] بمعنى: خلق الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] فيعني خلق السماوات، والأرض، وخلق الظلمات، والنور؛ فيكون على هذا التفريق، هو تفريق لفظي فقط، وإلا المعنى واحد، جعل بمعنى خلق، فيكون ذلك أكمل في البلاغة؛ فبدلاً من أن يقال: الذي خلق السماوات، والأرض، وخلق الظلمات، والنور؛ قال: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1]؛ والمؤدى واحد، ومما يدل على هذا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] وفي الموضع الآخر قال: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189] يعني استعمل هذا مكان هذا، خلق، وجعل.

وبعضهم يفرق، يقول: الخلق هو إنشاء، إنشاء لذات المخلوق، وأصله؛ فعُبر به عن السماوات، والأرض، بخلاف الظلمات، والنور، فهي ليست ذاتًا؛ وإنما أوصاف للمخلوق، يعني أنها ليست بمجسوسة محسوسة، وإنما يظهران في غيرهما، يعني أعراض، وليست بذوات، وقال: وجعل، لكن هذا الأول أوضح منه، والله أعلم، الأول أوضح من هذا، ويقول هنا: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ [الأنعام: 1] الظلمات: الليل، والنور: النهار، يعني باعتبار الظلمات المشاهدة، والنور المشاهد، هذا على قول الجمهور، وهو اختيار ابن جرير[6] ويكون عند أرباب المجاز، أن ذلك من قبيل حمل اللفظ على حقيقته، يعني يقابله المجاز أن الظلمات ظلمات الجهل، والكفر، والنور الذي هو الإيمان، والهدى؛ فقد يأتي الهدى، والإيمان معبرًا عنه بالنور، كما يأتي الجهل، والكفر، والضلال معبرًا عنه بالظلام، كما قال الله  : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257] فهذا يراد به ظلمات الكفر، والجهل بلا شك، ونور الإيمان في النور المذكور، هذا لا إشكال فيه، ومن يمنعون من المجاز كشيخ الإسلام  - رحمه الله -  يقول: "المتبادر مع القرائن، والسياق، والسباق، واللحاق، هو الحقيقة"[7] فهذا هو المتبادر، وليس هناك وضع أول، ووضع ثاني، وعلى فرض القول بالمجاز، فإن اللفظ إذا كان يحتمل الحقيقة، والمجاز، فالحقيقة مقدمة على المجاز، هذه قاعدة من قواعد الترجيح، لكن مثل هذا على القول بالمجاز، لا يتأتى في كل موضع، يعني مثلاً: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 257] هنا يمكن أن نقول: بأن ذلك لا يحتمل الحقيقة، يخرجهم من الظلام الحسي، أو المشاهد إلى النور الحسي، لم يقل بهذا أحد؛ وليس هو المراد، وإنما الهدى، والضلال، فهذا عند الاحتمال، عند الاحتمال يحمل اللفظ على الحقيقة؛ لأنها الأصل، ولا تحتاج إلى نقل، المجاز يحتاج إلى نقل، وضع أول، ووضع ثاني، وينقل من هذا إلى هذا، ولا تحتاج إلى قرينة، والحقيقة هي الأكثر في الاستعمال، كل هذه مرجحات للحقيقة.

يقول: وإنما أفرد النور؛ لأنه أراد الجنس؛ أفرد النور، ويشمل جميع أنواع النور، أفرد النور؛ لأنه جنس، وأفرد النور في قوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] بعضهم يقول: لكثرة أسباب الظلمات، ومحالها عند الناس، ومشاهدتهم لها على التفصيل، لكن إذا حُمل الكفر على الظلمات؛ فهذا يكون باعتبار ما جرى عليه العادة في القرآن، أنه يُفرد سبيل الحق، ويجمع سبل الباطل وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153] فالظلمات الكفر بطرائقه، وصوره الكثيرة، فهي سبل للشيطان فتجمع، أما النور فهو الحق، وهو واحد بهذا الاعتبار.

يقول: وحد النور؛ لأنه أشرف، قوله: عن اليمين، والشمائل، وذكر ابن القيم[8] أن أصل النور واحد بخلاف الظلمات فهي متعددة؛ لتعدد الحجب المقتضية لها، وهي كثيرة، ولكل حجاب ظلمة خاصة، وهي راجعة إلى مفعولاته بخلاف النور فهو يرجع إلى اسمه، وصفته - والله أعلم -.

ويمكن أن يقال: بأن النور جنس يصدق على الواحد، والكثير، مثل ما يقال: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام: 1] الأرض توحد، والسماوات تجمع؛ فالأرض جنس يصدق على الواحد، والعدد.

يقول: وفي الآية رد على المجوس.. الخ.

"قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] أي يسوون، ويمثلون من قولك: عدلت فلانا بفلان، إذا جعلته نظيره، وقرينه، ودخلت، ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السماوات، والأرض، والظلمات، والنور، وكذلك قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام: 2] استبعاد؛ لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم، وأماتهم، وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم، وتوبيخ لهم."

قوله  - تبارك، وتعالى - : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1]؛ ثم هذه تدل على الاستبعاد؛ يعني، ومع هذا كله كفر به من كفر ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] بعضهم هنا يقول: يسوون، ويمثلون، من قولك: عدلت فلانًا بفلان، إذا جعلته نظيرًا له، وقرينًا.

بعضهم يقول: يعدلون بأفعالهم عنه، وينسبونها إلى غيره، وهذا خلاف الظاهر المتبادر.

وبعضهم يقول: يعدلون بعبادتهم عنه، وهذا كالذي قبله، يعدلون: أي: يسوون، ويمثلون، وهذا هو الأقرب - والله أعلم - ويمكن أن تكون هذه المعاني الأخرى تابعةً له، أن تكون تابعة لا أن تكون هي المعنى المفسر به.

 يقول: وكذلك قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام: 2]؛ يعني: تشكون، أو ترددون.

يقول: وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم، وتوبيخ لهم؛ يعني: أن "ثم" هذه ليست للتراخي، والمهلة الزمنية، ثم مثل ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17]؛ فالإيمان أولاً فهي في الرتبة، فهنا أيضًا هي للتراخي الرتبي، يعني الذي يدل على أن ما بعدها يتضمن معنى من نوع ما قبلها، وهو أهم في بابه؛ وذلك أن عدولهم عن عبادته، مع علمهم بأنه هو الخالق لجميع الخلق أعجب من علمهم بذلك - والله أعلم -.

"قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنعام: 1]؛ هنا عامٌ في كل مشرك، وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات، والنور، وبعبدة الأصنام."

هذا بناءً على أن هذا من قبيل التعريض بالمجوس وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] هذه التي يعبدونها، ولكن هذا لا دليل عليه، ولا حاجة للتخصيص بهذا المعنى، وإنما الذين كفروا عمومًا.

"وبعبدة الأصنام  - وفي جميع النسخ - أو بعبدة الأصنام."

يقول: وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات، والنور، أو بعبدة الأصنام؛ هنا لأنه قال: يختص، فيكون، أو بعبدة الأصنام، فهذا عمومًا يُحمل على الكفر بجميع أنواعه.

"قال: أو بعبدة الأصنام؛ لأنهم المجاورون للنبي ﷺ وعليهم يقع الردّ في أكثر القرآن."

يعني للرد على عبدة الأصنام، لا بد من أو هنا؛ ليستقيم المعنى، فهم المجاورون يعني في مكة، ومن حولها.

  1.   أخرجه الطبري في تفسيره (9/147) بلفظ: "فاتحة التوراة فاتحة الأنعام".
  2.   أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب جهل العرب، برقم (3524)، وابن كثير في تفسيره (3/347).
  3.   انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/39).
  4.   أخرجه الطبراني في المعجم الكبير من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد، برقم (12930) وابن كثير في تفسيره (3/237)، وعلي بن زيد هو ابن جدعان، وهو ضعيف.
  5.  انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني، والأسانيد (1/146).
  6.   تفسير الطبري (9/144).
  7.   انظر: مجموع الفتاوى (7/100).
  8.   بدائع الفوائد (1/120).