قال العوفيّ وعِكْرمة وعَطاء عن ابن عباس - ا -: "أنزلت سورة الأنعام بمكة".
وروى الطبراني عن ابن عباس - ا - قال: "نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح"[1].
وقال السُّدِّي عن مُرَة عن عبد الله قال: "نزلت سورة الأنعام يشيِّعُها سبعون ألفًا من الملائكة"[2]".
فهذه السورة - كما نقل القرطبي رحمه الله عن بعض أهل العلم - أصل في محاجّة المشركين وغيرهم من المبتدعين، ومن كذّب بالبعث والنشور، فهي تتحدث عن كثير من قضايا الاعتقاد.
وقد جاءت روايات كثيرة جداً عن جماعة من الصحابة تدل وتصرح بأن هذه السورة قد نزلت جملة واحدة، ومع ذلك ورد عن بعض السلف استثناء جملة من الآيات، فمنهم من قال: ست آيات، ومنهم من قال: غير ذلك، كالثلاث الآيات المحكمات من قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:151]، وكقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91]، وكقوله: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141].
وبعض هؤلاء نظروا إلى المعنى الذي تضمنته بعض تلك الآيات، ومنهم من اعتمد في ذلك على ما يروى في سبب النزول، وسيأتي الكلام على هذه الآيات في مواضعها - إن شاء الله - لكن الأصل أن السورة قد نزلت جملة واحدة بمكة، والله تعالى أعلم.
يقول الله تعالى مادحاً نفسه الكريمة، وحامداً لها على خلقه السماوات، والأرض؛ قراراً لعباده، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم، ونهارهم، فجمع لفظ "الظلمات" ووحَّد لفظ "النور"؛ لكونه أشرف، كقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ [سورة النحل:48] وكما قال في آخر هذه السورة: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ [سورة الأنعام:153]".
قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] عامة أهل العلم فسروا قوله: وَجَعَلَ بمعنى خلق، أي: خلق السماوات والأرض، وخلق الظلمات والنور.
كما أن الذي عليه عامة أهل العلم - وهو ما مشى عليه ابن كثير رحمه الله - أن الظلمات جمع ظلمة والمقصود بها ظلمة الليل، وأن النور هو الضياء أي: ضياء النهار.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الظلمات يراد بها الكفر، وأن النور يراد به الإيمان، وهذا على خلاف الأصل؛ فالأصل في استعمال الظلمات، والمعنى المتبادر إلى الذهن أنها الظلمات الحقيقية كما قال ابن كثير، فالله تعالى يقول: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] فذَكَر خلْقَ السماوات والأرض، وذَكَر خلْقَ الظلمات، وخلْقَ النور؛ أي سواد الليل، وبياض النهار.
ومن أهل العلم من جمع بين هذه المعاني فقال: إن الظلمات تشمل المعنيين جميعاً، وكذلك النور، فالله قد سمى الهداية نوراً، وسمى الكفر ظلمات؛ كما في هذه السورة نفسها أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [سورة الأنعام:122].
فالقرآن دلَّ على هذا المعنى، ومعلوم أن اللفظ إذا أطلق وله حقيقة ومجاز، أو كان مشتَركَاً - بمعنى أنه يطلق على معانٍ متعددة - فإنه يمكن حمل المشترك على معنييه أو معانيه إن لم يوجد معارض، وهكذا يطلق على حقيقته، ومجازه - عند القائلين بالمجاز - دون إشكال، ولذلك نجد من أهل العلم من يقول: إن هذين اللفظين يشملان هذه المعاني جميعاً، لكن عامة أهل العلم على المعنى الأول، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله تعالى -.
ثم يقول ابن كثير - رحمه الله -: "وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم، ونهارهم، فجمع لفظ "الظلمات"، ووحَّد لفظ "النور"؛ لكونه أشرف"، لكن نجد أنه قد لا يظهر وجه إفراد النور لكونه أشرف - كما يقول الحافظ -، وإنما يمكن أن يقال - كما قال بعض أهل العلم -: إن النور جنس، وهو يصدق على الواحد والكثير، وأما الظلمات فذكرت بصيغة الجمع لتنوعها، وكثرة أسبابها، لا سيما إذا حملنا الآية على المعنى الثاني - أنها ظلمات الكفر، ونور الإيمان - فيكون ذلك كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، كما أنه معلوم من كلام أهل العلم أن الصراط ذُكِر مفرداً؛ لأن طريق الله واحد كما قال تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وأما الشيطان فله طرق متعددة كما قال تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ [سورة الأنعام:153].
وقد صح عن النبي ﷺ أنه خط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا صراط الله، ثم تلا هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153][3].
والخلاصة أننا إذا حملنا الظلمات والنور في الآية على الكفر والإيمان فإنها تُفسَّر حينئذٍ بالآية، والحديث السابقيْن، ونقول: وحَّد لأن طريق الحق واحد، وجمع لأن طُرق الباطل متعددة، والطرق المحدثة والضلالات المتنوعة كلها داخلة في السبل، والله تعالى أعلم.
فإن قيل في قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1]: لماذا قدم الله - تبارك وتعالى - ذكر الظلمات على النور؟ فالجواب - على المعنى الحقيقي الذي ذكره الجمهور في معنى الظلمات والنور - أن يقال: لما كان الظلام هو الأصل بدليل قوله تعالى: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [سورة يـس:37] قدمه بهذا الاعتبار، لكن لا يصح هذا الجواب إذا اعتبر القول الثاني في تفسير الآية؛ فالأصل هو الإيمان وليس الكفر بدليل قوله ﷺ في الحديث القدسي عن ربِّ العزة أنه قال: خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم[4].
قوله: "ومع هذا كله كفر به بعض عباده.." يشير - رحمه الله - إلى أن "ثم" في هذا الموضع للاستبعاد، أي: كيف يقع منهم هذا الكفر الشنيع حيث يعدلون بربهم - تبارك وتعالى - الأنداد، والأصنام مما لم تخلق شيئاً، ولا تملك لهم نفعاً، ولا ضراً، وهو - جلَّ وعلا - الذي خلق السماوات، والأرض، وجعل الظلمات والنور؟!!
وقوله: "وجعلوا معه شريكاً وعدلاً" من أهل العلم من لم يفرق بين العَدل - بفتح العين - والعِدل - بكسرها -، وعلى هذا فلا إشكال.
ومن أهل العلم من فرَّق فقال: العَدل - بفتح العين - لمِا كان من غير جنسه، والعِدل لما كان من جنسه، ومن الأول قوله تعالى: أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [سورة المائدة:95] فالصيام ليس من جنس ما وقع من جناية قتل الصيد ولذلك فتحت العين، وفي كفارة الظهار يقال أيضاً: عَدل رقبة - بفتح العين - لأنها ليست من جنس الموجِب أيضاً.
أما في كفارة قتل النفس فيقال: عِدل رقبة - بكسر العين -؛ لأنها من جنسه، ومنع قول مهلهل:
على أن ليس عِدلاً من كليب | غداة بلابل الأمر الكبير |
- أخرجه الطبراني في الكبير (12963) (ج 12 / ص 215) من طريق علي بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيف، انظر تخريج أحاديث وآثار كتاب الظلال لعلوي بن عبد القادر السَّقَّاف (ج 1 / ص 119).
- رواه الطبراني في الصغير (220) (ج 1 / ص 145) وفيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف، انظر مجمع الزوائد (ج 6 / ص 383).
- أخرجه ابن ماجه في افتتاح كتاب السنن في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اتباع سنة رسول الله ﷺ (11) (ج 1 / ص 6) وصححه الألباني في سنن ابن ماجه برقم (11) وفي ظلال الجنة برقم (16).
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865) (ج 4 / ص 2197).