قوله: "وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ [سورة الأنعام:2] يعني: أباهم آدم.." هذا هو الذي عليه عامة المفسرين سلفاً وخلفاً، فالذي خُلق من طين هو أبوهم آدم ﷺ، ولا مانع أن يخاطب الله الناس بخطاب اعتُبر فيه أصلهم كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11] فهذا الخلق والتصوير هو خلق آدم ﷺ لمّا أمر الملائكة بالسجود له، فباعتبار أصل الإنسان يقال: إنه خُلق من طين كما في هذه الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ [سورة الأنعام:2].
ولا تعارض بين هذه الآية مع الآيات الأخرى التي ذكرت أن الإنسان خُلق من صلصال، أو من تراب كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ [سورة الحجر:26] وكقوله: إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ [سورة الصافات:11] وما أشبه ذلك من الآيات؛ لأن هذا الطين هو تراب بُلَّ بالماء فصار طيناًَ، ثم تُرك فصار حمأً مسنوناً، فكل ذلك يصدق عليه، فلا تعارض بين هذه الآيات حيث إن ذلك كله يعود إلى الأصل، والمقصود أن هذا خطاب للأبناء بأمر اعتبر فيه أصلهم وهو كقوله مخاطباً بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] وكقوله : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة البقرة:49]، ويقول أيضاً: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] ويقول: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ [سورة البقرة:61].
لقد خاطبهم - تبارك وتعالى - بهذا الأسلوب مع أن الذين قالوا وفعلوا هذه الأمور هم أسلافهم، وليسوا الذين كانوا في زمن النبي ﷺ، ولكن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء، والنِّقَم الحالَّة بالآباء تلحق الأبناء إن كانوا على طريقتهم، والمقصود أن الخطاب في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ [سورة الأنعام:2] جاء هكذا بهذا الاعتبار.
وبعض أهل العلم نظر إلى ظاهر الخطاب فقال: إنه قال: خَلَقَكُم مِّن طِينٍ [سورة الأنعام:2] باعتبار أن أصل النطفة من الطين، إلا أن هذا القول فيه بُعد، فلا حاجة إليه، والله أعلم.
يقول تعالى: ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ [سورة الأنعام:2] الأجل الأول هو الموت، والأجل الثاني هو القيامة، وهذا المعنى هو من أحسن ما تفسر به هذه الآية - والله تعالى أعلم -، وهذا هو الذي مشى عليه عامة أهل العلم، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير، وبعضهم يقول: الأجل الأول هو ما بين أن يُخلق الإنسان إلى أن يموت، والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث، يعني أن الأجل الأول هو حياة الإنسان في الدنيا، والأجل الثاني هو الحياة البرزخية، وهذا القول لا دليل عليه.
وبعضهم يقول: الأجل الأول قبض الأرواح في النوم، والأجل الثاني قبض الأرواح عند الموت أي كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [سورة الأنعام:60] وكقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [سورة الزمر:42].
وبعضهم يقول: الأجل الأول هو ما أجله ووقته في الدنيا مما أعلم به خلقه، وأظهره لهم، كالأهلّة التي جعلها مواقيت لهم، والمطالع، ومنازل الشمس والقمر وما أشبه ذلك، والأجل الثاني هو أجل الموت، وهذا أيضاً فيه بعد.
وبعضهم يقول: قوله: قَضَى أَجَلاً [سورة الأنعام:2] يعني لمن مضى وقوله: وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ [سورة الأنعام:2] أي في الباقين ممن سيأتون، حيث تأتيهم آجالهم يعني الموت الذي ينتظرهم.
وبعضهم يقول: الأول في الأجل المحتوم، والثاني في الزيادة عليه كما فُسِّر بذلك قوله - تبارك وتعالى -: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [سورة الرعد:39] وهذا باعتبار أن التقدير أنواع كما هو معلوم، فهناك التقدير الأزلي الذي هو في علم الله ، وقد كتبه في اللوح المحفوظ، فهذا لا يحصل له محو، ولا تغيير، وهناك - كما يقول بعض أهل العلم -: التقدير العمري حينما يُبعث المَلك إلى الجنين فيؤمر بأربع كلمات، وهناك التقدير الحولي في ليلة القدر قال تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [سورة الدخان:4].
والحاصل أن الذي يحصل فيه التغيير هو ما في أيدي الملائكة كما قال تعالى: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ثم قال: وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [سورة الرعد:39] يعني اللوح المحفوظ، ومن هنا قالوا: الأجل الأول هو ما قضاه، وقدره يوم خلق حين خلق السماوات والأرض في اللوح المحفوظ، ومثل هذا لا يتبدل ولا يتغير، والأجل الثاني هو الذي يحصل به الزيادة والنقص، كما دل على ذلك ما ورد عن صلة الرحم أنها تزيد في العمر، وأنه لا يرد القضاء إلا الدعاء[1] فيكون الله قد كتب في الصحف التي بأيدي الملائكة أن عمر هذا خمسون سنة، وكتب، وقدَّر في علمه أن هذا الإنسان يصل الرحم فزيد في عمره إلى ستين مثلاً، فيحصل المحو في الصحف التي بأيدي الملائكة، ويزاد العمر بهذا الاعتبار.
وعلى كل حال فإن أحسن هذه الأقوال هو الأول كما سبق - والله أعلم -، ومِن أحسن مَن عبَّر عن المعنى الأول الذي عليه الجمهور كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - حيث يقول: "معناه ثم قضى أجل الحياة الدنيا، وأجلٌ مسمى عنده وهو أجل البعث؛ لأنه - تعالى ذكره - نبه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة، والأنداد؛ هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صوراً أجساماً أحياء بعد إذ كنتم طيناً جماداً، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم ليعيدكم تراباً وطيناً كالذي كنتم قبل أن ينشئكم، ويخلقكم، وأجلٌ مسمىً عنده؛ لإعادتكم أحياءً وأجساماً كالذي كنتم قبل مماتكم، وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28]"[2] هذا أحسن ما تفسر به الآية، والعلم عند الله .
ومعنى قوله: عِندَهُ [سورة الأنعام:2] أي: لا يعلمه إلا هو، كقوله: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [سورة الأعراف:178] وكقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [سورة النازعات:42-44].
وقوله: ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ [سورة الأنعام:2] قال السُّدِّي وغيره: "يعني تشكُّون في أمر الساعة".
لفظة "ثم" في قوله: ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ [سورة الأنعام:2] هي أيضاً للاستبعاد، يعني ومع هذا كله يحصل منكم هذا الامتراء والشك، وفرق بين المرية والشك حيث إن المرية هي بمعنى الشك لكن مع ريب، والله أعلم.
- - عن أبي هريرة وأنس بن مالك - ا - أن رسول الله ﷺ قال: من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه [أخرجه البخاري في كتاب الأدب- باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5639) (ج5 / ص 2232) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2557) (ج 4 / ص 1982)، ومعنى قوله: يُنسأ له في أثره يعني يمد له في عمره، ويؤخر أجله، ويخلد ذكره، وعن سلمان قال: قال رسول الله ﷺ: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر [أخرجه الترمذي في كتاب القدر- باب ما جاء في "لا يرد القدر إلا الدعاء" (2139) (ج 4 / ص 448) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2489).
- انظر تفسير الطبري (ج 11/ ص 259)