الجمعة 09 / ذو الحجة / 1446 - 06 / يونيو 2025
وَلَا تَسُبُّوا۟ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّوا۟ ٱللَّهَ عَدْوًۢا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:108].
يقول الله تعالى ناهياً لرسوله ﷺ والمؤمنين عن سبِّ آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي: مقابلة المشركين بسبِّ إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في هذه الآية: قالوا: "يا محمد لتنتهينَّ عن سبك آلهتنا، أو لنهجونَّ ربك؛ فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدواًَ بغير علم".
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسبُّ الكفار الله عدواً بغير علم، فأنزل الله: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ [سورة الأنعام:108] ومن هذا القبيل وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها ما جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: ملعون من سب والديه قالوا: يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه[1] أو كما قال ﷺ".

أمر الله - تبارك وتعالى -  نبيه ﷺ باتباع ما أوحي إليه، وجعل هذا هو الواجب عليه، وقال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:106] أي: حسابهم ليس عليك كما قال: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8].
ثم قال: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ [سورة الأنعام:107] وقال في الآية الأخرى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:112] فالله - تبارك وتعالى - له الحكمة البالغة، لكن المؤمن مأمور بالاتباع، ولزوم الحق، فلا يميل مع أهل الباطل لأي سبب من الأسباب، ويكون متنازلاً عن الحق، مضيعاً له بموافقة هؤلاء المبطلين، ولا تذهب نفسه أيضاًَ حسرات، وتصيبه أنواع الأمراض بسبب شدة ما يجد مما يقوله هؤلاء، أو يبينون عنه من شر، وافتراء، ونفاق، أي: لا يكون المؤمن بهذه المثابة؛ ولهذا يقول سبحانه: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [سورة الأنعام:107] أي: أنت مأمور بالاستقامة على أمر الله ، وتبليغ دين الله ، وهؤلاء لو شاء الله ما أشركوا، فلله الحكمة البالغة حيث أراد الله إضلالهم فكانوا بهذه المثابة، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [سورة يونس:99] فهذا أصل كبير يحتاج إليه الدعاة إلى الله ، والمصلحون، وإلا إذا تتبع الإنسان ما يقوله القائلون، ويكتبه الكاتبون، ويفسده المفسدون؛ فإنه قد يصيبه العجز، والعِيُّ من كمد ما يجد، ومن كثرته، ومن جراءة أولئك الصنف من الناس على الله - تبارك وتعالى -.
ثم ذكر أيضاً قضية مهمة جداً لمن أراد أن يصلح حال الناس أو يدعو إلى الله : وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:108] فهذا أصل في المصالح، والمفاسد؛ فالمآلات معتبرة في الشريعة، فلا يجوز للإنسان أن يقدم على علم صالح إذا كان يترتب عليه مفسدة أعظم من الصلاح الذي يحصل من جرائه، فهذا العمل يتحول من كونه عملاً صالحاً إلى أن يصير عملاً سيئاً فاسداً يأثم عليه، ويكون من معصية الله وهو في الظاهر من الأعمال الصالحة، ولذلك قال النبي ﷺ: لعن الله من لعن والديه[2] حيث إنه لما كان متسبباً بلعن والديه صار بمنزلة من لعن والديه، وهكذا من تسبب في سب الدين، أو سب الله فإنه يصير بمنزلة من سب الدين، أو سب الله ؛ لأنه قد ارتكب من الحماقات ما أثر هذا التأثير بحيث جعل الناس يتصرفون بهذه الطريقة.
"وقوله: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] أي: وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم، والمحاماة لها، والانتصار، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره.
ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ [سورة الأنعام:108] أي: معادهم، ومصيرهم فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:108] أي: يجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر".

يقول تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] هذا ظاهره العموم، وقد راعى هذا كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - فقال: هذا في الخير، وفي الشر، أي: كذلك زينا لكل أمة تعمل عملها إن كانت أعمالاً صالحة طيبة كأعمال أهل الإيمان، أو كانت أعمالاً فاسدة سيئة كأعمال الكفار بجميع صنوفهم، وطوائفهم.
والذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هو أن ذلك يختص بأعمال أهل السوء، والفساد، والشر من الكفار، والمنافقين؛ أخذاً من سياق الآية حيث يقول - تعالى -: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:108] وعلى كل حال فالتزيين لا شك أنه واقع للجميع؛ لأن الله يقول في حق أهل الإيمان: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [سورة الحجرات:7] فالله أثبت الإيمان في قلوب المؤمنين، وزين ذلك في قلوبهم؛ ولذلك بذلوا في سبيل هذا الإيمان النفوس، والمهج، والأموال، وكذلك زُيِّن لغيرهم أعمالهم السيئة الفاسدة، ولذلك تجد أهل الباطل يتوارثون الباطل القرون المتطاولة، بل آلاف السنين، حيث يلقنه الجيل لمن يأتي بعده من الأجيال، ويتمسكون به، ويبذلون في سبيل نصرة باطلهم، ويقاتلون دونه، ويقضي جهده، ووقته، وماله؛ وهو ينشر هذا الباطل، فيكون قد زيِّن له، وهذه قضية عجيبة من صنع الله - في الخلق حتى العصاة منهم، حيث تستغرب أحياناً فتقول: هذا الإنسان المتدين الذي كان يطلب العلم كيف تحول إلى هذه المثابة فصار يناضل عن الشر، ويدافع عنه، وينشره، ويدعو إليه؟ كيف تحول من داعية إلى الخير إلى داعية إلى الشر؟
الجواب أنه زاغ قلبه فصار الذي يفعله الآن قد زُيِّن في نفسه، ويرى أن هذا شيء جيد لا إشكال فيه، أي أنه قد انقلبت نظرته حتى إنك ترى شكله قد تغير، فإذا رأيته قد لا تعرفه، وإن كان البدن هو نفس البدن الأول؛ لكن القلب تغير - والعياذ بالله -، وتحول هذا الذي كان يحمل هم الإسلام، ويضيق صدره لما يرى، ويشاهد، ويسمع؛ من اعتداء على دين الله ، وشرعه؛ تحول إلى الفسق، ومقارفة الفواحش، وترك الصلوات، فأنت لا تقبل أن ترى من يجرؤ على معصية الله كأن يصبح ويمسي على سماع الأغاني، أو شيئاً من ذلك؛ لكن هو لا ما يحس في الغالب أن هذا منكر، بل يتلذذ بهذا، وهو يستمتع قد زُيِّن له هذا العمل كما قال تعالى: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [سورة فاطر:8] فهو لا يجد غضاضة بهذا.
ومن صور ذلك أن المرأة المتبرجة لا تجد غضاضة بتبرجها، لكن لو أعطيت المرأة المحجبة الصالحة التقية ملء الدنيا ذهباً على أن تنزع حجابها، وتخرج بصورة تلك المرأة السافرة، النافشة لشعرها، وما أشبه ذلك؛ لتمنت الموت دون أن تفعل هذا، لكن من تغيَّر حاله فإنه يرى الأمور الحسنة سيئة، والسيئة حسنة - نسأل الله العافية -، فهذه قضية مهمة جداً في معرفة نظر الإنسان، واستحسانه للعمل الطيب أو السيئ، ولذلك ينبغي أن يدعو الإنسان ربه دائماً: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"؛ لأنه إذا تغير قلبه تغير نظره للأعمال، وتقييم الأشياء، فينظر بمنظار آخر تماماً - نسأل الله العافية والسلامة -.
كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] أي: ابتلاء، وامتحاناً، واستدراجاً أيضاً لهؤلاء الكافرين، فيموتوا على كفرهم، وباطلهم، وإلا لو لم يزين لهم العلم السيئ لزهدوا فيه، ولما بذلوا في سبيله، أو في أقل الأحوال إذا لحقهم به مشقات تركوه، ومع ذلك تجد أهل الباطل عتاة في التمسك بباطلهم، ونصرته، والذب عنه، وتعينهم الشياطين من الجن ليقرروه، ويثبتوا دعائمه، وأركانه، ولا يألون جهداً في محاربة الله، ورسوله؛ قد زُيِّن لهم عملهم - نسأل الله العافية -.
وبقيت هنا قضية تحتاج إلى تنبيه وهي أنه في قوله: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] أضاف التزيين إلى نفسه - تبارك وتعالى - مشيئة، وخلقاً، فالله خالق كل شيء، وفي الآية الأخرى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [سورة النمل:24] أضافه إلى الشيطان، وذلك من باب إضافة الشيء إلى سببه، فسبب ميل قلوب هؤلاء الناس إلى هذا الباطل، ومحبته أن الشيطان زينه لهم، وغرهم فيه، وبهرجه حتى صار في صورة تنجذب نفوسهم إليه، صاروا يهوونه، ويحبونه، وربما يجدون لذة في مقارفته، وتعاطيه، فلما جرى هذا التزيين على يد الشيطان أضيف إليه.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب لا يسب الرجل والديه (5628) (ج 5 / ص 2228) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها (90) (ج 1 / ص 92).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي -  باب تحريم الذبح لغير الله - تعالى -، ولعن فاعله (1978) (ج 3 / ص 1567).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: 108] أي: لا تسبوا آلهتهم، فيكون ذلك سببًا لأن يسبوا الله، واستدل المالكية بهذا على سدّ الذرائع[1]".

وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهي الآلهة المعبودة، ولا شك أن سبها حق، ولكن لما كان هذا يُؤدي إلى مفسدة أعظم، وهي سب الله - تبارك، وتعالى - كان ذلك محرمًا، فنهى عنه، والأصل أن النهي للتحريم، وقد جاء عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة، قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم[2].

وكما جاء عن النبي ﷺ: ولعن الله من لعن، والديه[3] ولما سُئل عن هذا: أو يلعن الرجل، والديه؟ فقال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه[4] فإذا سب والده فإن ذلك سيؤدي إلى سب والده، فعده سابًا لأبيه، واستحق على هذا اللعن، العقوبة، وإن لم يقصد هذا، لكن لما كان متسببًا نُزل منزلة المباشر هنا.

ويقول: "استدل المالكية بهذا على سد الذرائع" وقاعدة سد الذرائع قاعدة معروفة، وهي أن يمنع الشيء لما ينشأ عنه، ويترتب عليه من الآثار، والمفاسد، وهذا في كل شأن، حتى في الأمور العادية، والدنيوية، على سبيل المثال هناك من يكابر، ويرد هذه القاعدة، وبعض هؤلاء لا يفقهون في دين الله شيئًا، ولكنهم يريدون الشغب على أصول الشريعة، واستحلال حدود الله - تبارك، وتعالى - فلو نظرت إلى الأمور الحياتية، والأسوار التي يضعها الناس على بيوتهم؛ لماذا يضعونها؟ احتياطًا لها من أجل السراق، وهذا الحديد الذي يضعونه على نوافذهم؛ لماذا يضعونه؟ احتياطًا لها، وهذه الكاميرات التي توضع على المتاجر، وغيرها؛ لماذا توضع ؟ وإشارات المرور لماذا توضع؟ لأجل لا تكون حوادث، وتحديد السرعة من أجل ماذا؟ من أجل ألا يكون حوادث، والخطوط التي في الطرق من أجل ألا يضطرب سير الناس، فهذه ذرائع صحيحة، ولا إشكال فيها، وهي في الأمور الحياتية، والدنيوية، وأمور الناس، توضع النظم، والقوانين لتضبط للناس مصالحهم فيما لا يخالف شرع الله  فيما يتعلق بتخزين الغذاء، وتخزين الدواء، ونقل ذلك بطرق مأمونة، وكتابة تاريخ الانتهاء، والإنتاج، وجهة الإنتاج، وما أشبه ذلك، فكل هذا لسد الذرائع من أجل ألا يأكل الناس الأطعمة الفاسدة، والأدوية الفاسدة، وما أشبه ذلك، وهذه أمور يتفق عليها العالم بأسره من أوله إلى آخره، وما يمكن لأحد أن ينكر هذا، ويقول: تبقى الطرق بلا إشارات مرور، وتبقى الأدوية بلا تاريخ، ولا جهة تصنيع، وإنتاج، ولا ضبط، وتبقى البيوت بلا أسوار، لا أحد يقول بهذا، فما بال الشريعة إذن إذا حرمت شيئًا؟!

فهذه الذرائع منها ما هو منصوص، كما جاء من النهي للمرأة أن تخضع بكلامها، أو أن تمشي في الطريق متبرجةً، أو أن تضرب برجلها ليعلم ما تخفي من زينتها، أو نحو ذلك، فهذه نواهي صريحة في القرآن، لماذا نهي عنها؟ هل نهي عنها لذاتها؟ الجواب: لا؛ وإنما سدًا للذريعة؛ لأنها تؤدي إلى الزنا في النهاية، ولفت الأنظار، وانجذاب الرجال إليها، فيقع المحذور.

وكذا البناء على القبور هل نهي عنه لذاته؟ والصلاة إلى القبر، ونحو ذلك، لماذا نهي عن هذه الأشياء؟ نهي عنها سدًا للذريعة التي هي عبادة هؤلاء الموتى.

فبعض الذرائع منصوص، وبعض هذه الذرائع غير منصوص، ولكنه ظاهر، فيمنع الشيء لما يؤدي إليه من مفاسد أعظم، سدًا للذريعة، فهذا لا إشكال فيه، وهو دليلٌ صحيح، وأكثر من أعمل هذا الدليل من أرباب المذاهب هم المالكية، كما هو معلوم، وإلا فالأئمة من سائر المذاهب يُعْمِلُون هذه القاعدة.

والحافظ ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "إعلام الموقعين" احتج لهذه القاعدة فيما يحضرني الآن بما يقرب من مائة وجه، وكلامه بديع، ولا يكاد يوجد مثله مجتمعًا في موضع واحد، لغير الحافظ ابن القيم؛ فمن أراد التفصيل في هذا، والاحتجاج له بقوة من وجوه كثيرة، عشرات الوجوه، فليرجع إلى كتاب "إعلام الموقعين"[5] فقوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ هو أحد أدلة هذه القاعدة، وهذا يدل على أن المآلات معتبرة شرعًا، ومن ثم فإنه لا يجوز الإقدام على شيءٍ إذا كانت مآلاته من المفاسد المترتبة عليه أعظم من المصالح؛ ولهذا قالوا: بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، على تفصيل من حيث النظر إلى مراتب المصالح، والمفاسد، من حاجي، وضروري، وتحسيني، ومراتب الضروري أيضًا متفاوتة، كما هو معلوم، لكن هذه القاعدة صحيحة إذا نزلت تنزيلاً صحيحًا بحسب المرتبة.

  1.  المقدمات الممهدات (2/39).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/33 - 34).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى، ولعن فاعله برقم: (1978).
  4.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر، وأكبرها برقم: (90).
  5.  إعلام الموقعين عن رب العالمين - ت: طه عبد الرؤوف (3/135).