يقول - تعالى - إخباراً عن المشركين أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم أي: حلفوا أيماناً مؤكدة لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ [سورة الأنعام:109] أي: معجزة وخارقة {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [سورة الأنعام:109] أي: ليصدقنها".
يقول تعالى: وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [سورة الأنعام:109] الجَهد - بالفتح - هو المشقة، والجُهد - بالضم - هو الوسع، تقول: بذلت جُهدي يعني بذلت وسعي، وتقول: هذا غاية الجُهد يعني غاية الوسع، فلا أستطيع أن أفعل أكثر من هذا، وتقول: بلغ مني الجَهد يعني المشقة، ومن أهل العلم من يقول: المعنى واحد سواء كان بالفتح وبالضم، وقوله: وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [سورة الأنعام:109] أي: مجتهدين غاية الاجتهاد، فيحلفون أشد الأيمان التي يقدرون عليها أنهم إذا جاءتهم آية يعني من الآيات التي اقترحوها وإلا قد جاءتهم آيات كانشقاق القمر، بل انشقاق القمر كان آية ظاهرة حيث شاهدوها، ومع ذلك لم يؤمنوا، وهذا القرآن أعظم آية، لكنهم كانوا يقترحون الآيات كتحويل الصفا إلى ذهب وما إلى ذلك، فهم أقسموا على هذا الأساس.
وقوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] قيل المخاطب بما يشعركم المشركون، وإليه ذهب مجاهد، وكأنه يقول لهم: وما يدريكم بصدقكم في هذه الأيمان التي تقسمون بها، وعلى هذا فالقراءة (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) بكسر إنها على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان".
هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) أي هم اقترحوا الآيات، وأقسموا أنها إذا جاءتهم الآيات فإنهم سيؤمنون بها، فالله يخاطب المشركين فيقول: وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] أي: تقولون: إنكم تؤمنون إذا جاءت وما يشعركم؟ ثم بدأ بكلام جديد يقرر فيه حقيقة غيبية فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) وهذا مثل قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [سورة الأنعام:28] فهم طلبوا الرجعة فأخبر الله أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وهنا يقول: لما اقترحوا الآيات، وأقسموا أنهم سيؤمنون بها قال: وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] يعني وما يدريكم، ثم بيّن ما سيكون في المآل لو جاءت الآيات فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) وعلى هذا يكون الخطاب وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] للمشركين، ثم جاء بجملة جديدة يقرر فيها مسألة غيبية فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون).
على القول الثاني يكون المخاطب بقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ [سورة الأنعام:109] هم المؤمنون، وقد جاء به الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بصيغة التمريض وكأنه يضعفه وإن كان هذا هو قول كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وبه قال الفراء أيضاً، أي أن الخطاب لأهل الإيمان باعتبار أن المؤمنين تمنوا نزول آية من أجل إيمان هؤلاء الكفار، وذلك أنه لما أقسم الكفار الأيمان المؤكدة أنها إذا جاءت آية سيؤمنون تمنى أهل الإيمان لو نزلت آية من أجل أن يؤمن هؤلاء الناس الذين حلفوا هذه الأيمان المغلظة يعني كأنهم يقولون: ليت آية تنزل من أجل أن يؤمنوا فالله على كل شيء قدير، فردَّ الله عليهم فقال: وَمَا يُشْعِرُكُمْ} [سرة الأنعام:109] يعني وما يدريكم؟ ثم قال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) وعلى القراءة الأخرى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109].
وقراءة الفتح هذه هي قراءة أهل المدينة، وحمزة، والكسائي، وعاصم وابن عامر، وبعضهم - كالخليل بن أحمد الفراهيدي - فسر أَنَّهَا بفتح الهمزة بمعنى التعليل أي بمعنى "لعلها" فيكون المعنى وما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون" وهذا صحيح في أصل اللغة، ويوجد ما يدل عليه من الشواهد في كلام العرب، وهذا تحتمله الآية على قراءة فتح الهمزة، والمعنى الآخر وما يدريكم أن ذلك إذا وقع لا يحصل المقصود وهو إيمانهم؟ - والله أعلم -.
يقول: "فتكون {لاَ} في قوله: أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] صلة" يعني وما يشعركم يا معاشر المؤمنين أنها إذا جاءت يؤمنون، فـ{لاَ} هذه قال: إنها صلة، ويقصد أنها زائدة، فهم يعبرون بصلة تأدباً، ويقصدون بقولهم: زائدة أي إعراباً، وإلا فهي لمعنى وهو التأكيد، ومنه قول طائفة من المفسرين في قوله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [سورة البلد:1] أي: أقسم بهذا البلد، وقولهم في قوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة القيامة:1] أي: أقسم بيوم القيامة - على أحد المعاني -، وذكر - رحمه الله - هنا قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [سورة الأعراف:12] أي أن معناها وما منعك أن تسجد، وعلى هذا بل يُفهم أن "لا" هنا نافية بل هي صلة كما قال.
وبالنسبة للكلام على الزيادة هل يصح أن يعبر بها في القرآن مع العلم أن المقصود بالزيادة هي الزيادة إعراباً فهذا قال به طائفة من أهل اللغة مثل الكسائي والفراء، وردَّه آخرون مثل الزجّاج والنحّاس فقالوا: هذا كلام غير صحيح، وإنما هذا من باب الاكتفاء، أي أن قوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] أي: أو يؤمنون، لكن هذا القول أضعف من القول الذي قبله؛ لأن المقصود هنا هو أن الله يقرر لهم أنه حتى لو نزلت الآية فإنهم لن يؤمنوا، هذا هو الأقرب في معنى الآية - والله تعالى أعلم -، كما قال الله : وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [سورة الإسراء:59].