السبت 10 / ذو الحجة / 1446 - 07 / يونيو 2025
وَنُقَلِّبُ أَفْـِٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا۟ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] قال العوفي عن ابن عباس - ا - في هذه الآية: "لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء، ورُدَّت عن كل أمر".
وقال مجاهد في قوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [سورة الأنعام:110] ونحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - أنه قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه.
وقال: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [سورة فاطر:14] جل وعلا، وقال: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [سورة الزمر:56] إلى قوله: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الزمر:58] فأخبر الله - سبحانه - أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى، وقال: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28].
وقال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] وقال: ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا".

يقول تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [سورة الأنعام:110] الأفئدة هي القلوب، والمقصود بالأبصار هنا نظر القلب، فمن قُلِبَ فؤاده فقد انطمست بصيرته، ولا يرى الحق حقاً بل يرى الأشياء على غير حقيقتها، فيرى الباطل حقاً، والحق باطلاً.
وهذا التقليب في قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [سورة الأنعام:110] المتبادر أنه ما ذكر الحافظ ابن كثير هنا، أي: أن الله يصرّف قلوبهم وأبصارهم فلا تؤمن بالحق، ولا تبصره - نسال الله العافية -، وهذا المعنى أصح خلافاً لمن قال: إن المراد أن هذا التقليب يكون بالنار في الآخرة عقوبة لهم، بمعنى أن قوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] أي كما لم يؤمنوا به في الدنيا.
وقوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] هذه الكاف يمكن أن تكون للتشبيه، ولكنها مشعِرةٌ بالتعليل، فإن لم نقل: إنها للتعليل فيبقى فيها من معنى التعليل، ويكون المعنى يحتمل أمرين:
الأول: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] أي أنهم في أول مرة طرق أسماعهم فلم يؤمنوا به، وكذلك في آخر الأمر لن يؤمنوا، وحتى لو جاءتهم الآيات التي اقترحوها سيحصل نفس الموقف السابق القديم أي كحالهم في أول مرة حينما سمعوا هذا القرآن.
والمعنى الثاني: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] أي أن ذلك وقع لهم جزاء وفاقاً بمعنى أنهم لما أعرضوا عن الحق، وكابروا غاية المكابرة؛ أزاغ الله قلوبهم مجازاة وعقوبة لهم، فعلى هذا يكون قوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ [سورة الأنعام:110] مشعراً بالتعليل والمكافأة أي فكافأهم على كفرهم الأول، وإعراضهم، ومكابرتهم، فحتى لو رأوا الآيات فإنهم لن يؤمنوا؛ لأنهم كفروا أول مرة، والخلاصة أن الآية تحتمل المعنيين أي إما أن يكون ذلك من باب المجازاة على الكفر الأول، أو أنه يقرر هذا المعنى فيقول: هم باقون على كفرهم حتى لو نزلنا الآيات فهم كحالهم أول مرة، والقول بأنه مجازاة لهم استحسنه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وإن لم يصرح بترجيحه لكن قال: وهو معنى حسن، فالله أعلم.
"وقوله: وَنَذَرُهُمْ أي: نتركهم فِي طُغْيَانِهِمْ قال ابن عباس - ا - والسدي: في كفرهم، وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة: في ضلالهم.
يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15] قال الأعمش: يلعبون، وقال ابن عباس - ا - ومجاهد، وأبو العالية والربيع وأبو مالك وغيره: في كفرهم يترددون".

مرات الإستماع: 0

 "وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الأنعام: 110] أي: نطبع عليها، ونصدها عن الفهم، فلا يفقهون".

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ فسره بالمعنى، أي: نطبع عليها، ونصدها عن الفهم؛ فلا يفهمون، وإلا فأصل التقليب ليس هو الطبع، فالمراد: أن الله يصرفها عن الحق، فلا تكون هذه القلوب - نسأل الله العافية - مريدة للحق، ولا عالمة به؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول: يا مقلب القلوب[1] يا مصرف القلوب[2] فالله يصرف القلوب، ويقلبها كيف شاء، وقال النبي ﷺ: القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء[3].

"قوله تعالى: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا [الأنعام: 110] الكاف للتعليل، أي: نطبع على أفئدتهم، وأبصارهم عقوبةً لهم على أنهم لم يؤمنون به أول مرة، ويحتمل: أن تكون للتشبيه، أي: نطبع عليها إذا رأوا الآيات مثلما طبعنا عليها أول مرة".

كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يقول: "الكاف للتعليل أي: نطبع على أفئدتهم، وأبصارهم عقوبةً لهم على أنهم لم يؤمنون به أول مرة" يعني: القرآن حين أتاهم، وطرق أسماعهم لأول وهلة، ويحتمل أن يعود الضمير إلى النبي - عليه الصلاة، والسلام - وابن جرير - رحمه الله - أعاد ذلك إلى التقليب، أي: كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبل مجيئها مرةً قبل ذلك[4] والأقرب - والله أعلم - أن الكاف للتعليل، سواء قلنا: بأن المراد النبي ﷺ أو قلنا: إن المراد القرآن، فبينهما ملازمة، باعتبار أن الذي جاء بالقرآن هو النبي ﷺ والمراد: أنهم لم يؤمنوا بالحق أول مرة، فيكون ذلك عقوبةً لهم، وهذا استحسنه الحافظ ابن القيم[5] وتحته معنًى كبير، حاصله: أن من رد الحق حينما بلغه فقد يكون ذلك سببًا للحيلولة بينه، وبين الحق؛ فلا يرجع إليه بعد ذلك، ولا يهدى لاتباعه، عقابًا له جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ: 26] وهذا معنى: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: لكونهم لم يؤمنوا به أول مرة قلبنا أبصارهم، وبصائرهم عنه، وصرفناها عن الهدى؛ فبقوا في ضلالتهم؛ لأنهم ردوه حينما بلغهم، فعوقبوا بالحرمان، يعني كما يقال في الأمثال المعاصرة، أو في بعض الأمم: بأن الفرصة لا تطرق بابك مرتين، إذا رد الحق خشي عليه أن يحال بينه، وبين الحق، كما قال الله في الآيات التي سُمعتْ في الصلاة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال: 24] يعني: إن لم تستجيبوا فقد يحال بينكم، وبين الحق، كما قال ابن جرير[6]: يريد أن يؤمن فلا يتحقق له ذلك، فيكون ذلك داعيًا للمؤمن أنه إذا بلغه شيء عن الله، أو عن رسوله ﷺ أن يقول: سمعنا، وأطعنا، ويبادر للامتثال، والعمل من غير تردد، ولا تأخير.

قال: "ويحتمل أن تكون للتشبيه، أي: نطبع عليها إذا رأوا الآيات مثل طبعنا عليها أول مرة" وبهذا المعنى قال جماعة: كعكرمة، وعبد الرحمن بن زيد من التابعين[7].

وقال بعضهم: إن قوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ هذا يكون في النار، وابن عباس - ا - يقول: ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم، وبين الهدى كما حال بينهم، وبينه أول مرة، وهم في الدنيا[8]

فهم طلبوا الرجعة فلو ردوا لحال بينهم، وبين الحق، والهدى، كما حال بينهم، وبينه في المرة الأولى، وهذا ليس ظلمًا للعباد، وإنما كما قال الله : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23] - نسأل الله العافية -.

  1.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم: (2140) وصححه الألباني.
  2.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (6610) وقال محققو المسند: "صحيح".
  3.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم (2140) وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله ﷺ برقم (3834) واللفظ للترمذي، وصححه الألباني.
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/45).
  5.  الفوائد لابن القيم (ص: 90) وزاد المعاد في هدي خير العباد (3/503).
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/472).
  7.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/317).
  8.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1369).