الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
قُلْ سِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ ٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [سورة الأنعام:10] هذه تسلية للنبي ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه، ووعد له، وللمؤمنين به؛ بالنصرة، والعاقبة الحسنة في الدنيا، والآخرة.
ثم قال تعالى: قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سورة الأنعام:11] أي: فكروا في أنفسكم، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية - الذين كذبوا رسله، وعاندوهم - من العذاب، والنكال، والعقوبة في الدنيا مع ما ادَّخَر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نَجَّى رسله، وعباده المؤمنين".

يقول الله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [سورة الأنعام:10].
قصَّ الله علينا في القرآن الكريم أخبار الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وما وقع من استهزاء أقوامهم بهم، وكيف كانت عاقبتهم ابتداءً من نوح ، حيث سخروا منه وقالوا: كنت نبياً، ثم أصبحت نجاراً، فقال لهم : إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [سورة هود:38] ثم ذكر - تبارك وتعالى - عاقبتهم، وما حصل لهم من الغرق.
وهكذا قصَّ علينا ما حصل لهود إذ قال له قومه: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ [سورة هود:53].
وسخروا من صالح وقالوا: قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [سورة هود:62] فعلى أحد المعاني: كنا نرجو عقلك، ورأيك؛ فالآن ما الذي أصابك؟ وعلى المعنى الآخر كنت مبعداً ليس لك شأن، فكيف جئتنا تنهانا عن عبادة آلهتنا؟
وقال تبارك وتعالى عن قوم شعيب الذين استهزؤوا به: قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [سورة هود:91].
وهكذا قوم لوط لما نهاهم عن الفاحشة استهزؤوا به وقالوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة النمل:56].
وأما فرعون فخبره - كما قال الله عنه - أنه قال لموسى ﷺ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ۝ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [سورة الزخرف:52-53].
والمقصود أن هؤلاء الأقوام والأمم كانوا كلما جاءهم نبي استهزؤوا به؛ فوقع لهم ما وقع من الهلاك، والاستئصال.
وأما قوله: قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سورة الأنعام:11] - وأمثال هذه الآية التي تدعو إلى السير في الأرض، والنظر في عاقبة المكذبين - فهو خطاب يتوجه لمن عنده شك، وتردد، وريب، وليس دعوة لجميع الناس.
والنظر في دلائل وحدانية الله على نوعين:
فمن الناس من يصل إلى مرتبة عالية جداً حيث يستدل بالله - تبارك وتعالى -، وبما عرف عن ربه من أسمائه، وصفاته على كثير مما يجري حوله كما قالت خديجة - ا -: "كلا، والله لا يخزيك الله، فإنك تصل الرحم،، وتحمل الكلَّ..." إلى آخر ما ذكرت[1]، فهي من خلال معرفتها لأوصاف ربها عرفت أنه لا يخزي من كان هذا خلقه، وتلك أوصافه.
إن استدلال المرء بما عرف من أوصاف المعبود على أمور يراها، ويشاهدها، وتقع له أو لغيره هذه طريقة عالية في الاستدلال، وهي طريقة لا يصل إليها كثير من الناس، وإن كانت من طرق الاستدلال تلك الطريقة الدارجة التي هي أكثر ما ورد في القرآن أعني الاستدلال بالمخلوقات على الخالق، ولهذا ذكر الله خلق السماوات والأرض، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء، والأرض، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى غير ذلك من دلائل القدرة، والوحدانية، وهذه الطريقة هي التي تصلح لعامة الناس، وأكثر الخلق، فإذا نظروا في هذا دلّهم على إله واحد، عظيم قادر .
والمقصود أن من احتاج إلى النظر في هذه الأمور من آثار الأمم المكذبة، وكيف أهلكهم الله وما أشبه ذلك وجه إليه مثل هذا الخطاب: قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ [سورة الأنعام:11] أما من كان لا يحتاج إلى هذا النظر باعتبار أن هذه قضايا متقررة عنده فلا يتوجه إليه هذا الخطاب، ولذلك فإن أبا بكر الصديق وأمثاله يقولون:

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

وبهذا نعرف خطأ المتكلمين الذين يستدلون بمثل هذه الآية على أن أول واجب على المكلف هو النظر، بل قال بعضهم: أول واجب على المكلف هو الشك - نسأل الله العافية - فهذا من أبطل الأقوال، وإنما أول واجب هو التوحيد، وهو قول: لا إله إلا الله كما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [سورة محمد:19]، وأما هذه الآيات التي أُمر الناس فيها بالنظر فتكون لمن كان شاكاً متردداً حيث يقال لهم: انظروا، وسيروا في الأرض، يعني من أجل أن يرتفع عنهم هذا اللبس، والشك، والتردد إذا وقفوا على الحقيقة بأنفسهم، ولذلك لا يطلب من الناس أن يذهبوا ليتتبعوا أماكن المعذبين، بل لا يُقَرُّون على ذلك لا سيما من يذهبون من أجل الفرجة فإن هذا غير مشروع؛ ويدل على ذلك أن النبي ﷺ لما مرَّ على ديار ثمود أسرع - عليه الصلاة والسلام -، وقال لمن معه: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم[2] ونهى أن يُشرب من آبارهم إلا بئر الناقة، ولما مرَّ عليٌّ بأرض الخسف من بابل أسرع، وتلثم.
والمكان المعروف بمحسِّر بين مزدلفة ومنى الذي أسرع النبي ﷺ لما مر به يقال: إنه مكان إهلاك الفيل، وإن كان هذا لا يثبت من الناحية التاريخية، والله أعلم.
والمقصود أن الإنسان لا يقصد هذه الأماكن للفرجة ولا للزيارة ولا حتى للنظر فيها احتجاجاً بمثل هذه الآيات؛ لأنه كما قلنا: هذا الخطاب إنما يتوجه للمترددين للشاكين، أما من يقول: هذه قضايا أوضح من أن أبحث عن أدلة لها فلا حاجة له بها، والله أعلم.

  1. أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (3) (ج 1 / ص 4) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (160) (ج 1 / ص 139).
  2. أخرجه البخاري في أبواب المساجد - باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب (423) (ج 1 / ص 167) ومسلم في كتاب الزهد والرقائق - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين (2980) (ج 4 / ص  2285).

مرات الإستماع: 0

"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 11] الآية: حض على الاعتبار بغيرهم إذا رأوا منازل الكفار الذين هلكوا قبلهم ثُمَّ انْظُرُوا [الأنعام: 11] قال الزمخشري[1]: إن قلت: أي فرق بين قوله: فَانْظُرُوا وبين قوله: ثُمَّ انْظُرُوا؟ قلت: جعل النظر سببًا عن السير في قوله: فَانْظُرُوا. قال في جميع النسخ: [مُسَببًا عن السير في قوله: فَانْظُرُوا] كأنه قال: سيروا لأجل النظر.

وأما قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا [الأنعام: 11] فمعناه إباحة السير للتجارة، وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في الهالكين رتّبه على ذلك بـــ"ثم" لتباعد ما بين الواجب، والمباح."

هذا واضح في المعنى، والفرق بين المعنيين، يعني "فانظروا" تكون الفاء دالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، سيروا فانظروا، رتبه على السير، رتبه، ونبه على ذلك بـ"ثم" للتباعد ما بين الواجب، والمباح، يعني السير للتجارة، ونحو ذلك هذا مباح، ويكون معه نظر آخر، وهو النظر في منازل الهالكين للاعتبار.

  1. تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (2/8).