يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ومن فيهما، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش: إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي[1].
وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12] هذه اللام هي الموطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده".
يقول تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12]
من أهل العلم من يقول: إن "إلى" في قوله تعالى: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة الأنعام:12] بمعنى "في" أي: ليجمعنكم في يوم القيامة.
وقوله - تبارك وتعالى -: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:12] من أهل العلم من يقول: إن الكلام قد تم هاهنا، ثم استأنف بكلام جديد لبيان قضية جديدة فقال: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12] أي: أنه - تبارك وتعالى - أخبر بخبر مستقل أنه كتب على نفسه الرحمة، ثم أقسم أنه سيجمع الخلق إلى يوم القيامة، فيكون ذكر قضيتين مستقلتين ليس بينهما ارتباط، وهذا ذكره بعض أهل العلم من أئمة اللغة ومن غيرهم، وبعضهم يقول: إن السياق هكذا: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، وفسروا هذا الجمع بأنه يجمع ما تفرق من أبعاضهم، وأجسادهم في القبور إلى يوم القيامة، أي يجمعها في يوم القيامة أو ليوم القيامة، وهذا التفسير هو أحد المعاني في قوله تعالى أيضاً: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [سورة المجادلة:6] أي: مجتمعة أبعاضهم، وما تفرق منهم في الأرض، وتحلل في هذا اليوم الذي أنكروه؛ فكيف يستغربون، ويستنكرون هذا البعث فيقولوا: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [سورة الإسراء:49] ويقولوا: أئذا كنا عظاماً نخرة تلك إذاً كرة خاسرة؟
وبعضهم يقول: إن قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [سورة الأنعام:12] مرتبط بما قبله تمام الارتباط هكذا: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12] ويقولون: إن اللام في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ بمعنى "أنْ" وإن قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ بدلٌ من الرحمة وكأنه يقول: كتب ربكم على نفسه أن يجمعكم ليوم القيامة، فتفسيره بأنه بدل يعني أن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها غاية الارتباط.
وبعضهم يقول: هذا ساقه للترهيب فقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:54] أي بإمهالكم، وأنه لم يعاجلكم بالعقوبة، ثم أقسم أنه سيجمعهم ليوم القيامة فيجازي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه، فهو يخبر أنه أمهلهم بالرحمة، ثم أخبر بعد ذلك أن جمعهم أمر كائن لا محالة، فيجازي كلاًً بعمله.
وقوله: الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ أي: يوم القيامة فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:12] أي: لا يصدقون بالمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم".
الهاء في فِيهِ من قوله تعالى: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12] يُحتمل أن ترجع إلى يوم القيامة أي: لا ريب في يوم القيامة، ويحتمل أن ترجع إلى الجمع أي لا ريب في جمعكم، والأول أقرب؛ لأنه أقرب مذكور والضمير يعود إليه، أي لا ريب في يوم القيامة، ثم إن بين المعنيين ملازمة، ولا ضرورة للترجيح بين المعنيين؛ لأن يوم القيامة هو يوم الجمع فلا ريب في هذا الجمع، ولا ريب في وقوع يوم القيامة.
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] (6969) (ج 6 / ص 2694) ومسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2751) (ج 4 / ص 2107).