الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
قُل لِّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ۝ قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [سورة الأنعام:12-16].
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ومن فيهما، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش: إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي[1].
وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12] هذه اللام هي الموطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده".

يقول تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12]
من أهل العلم من يقول: إن "إلى" في قوله تعالى: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة الأنعام:12] بمعنى "في" أي: ليجمعنكم في يوم القيامة.
وقوله - تبارك وتعالى -: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:12] من أهل العلم من يقول: إن الكلام قد تم هاهنا، ثم استأنف بكلام جديد لبيان قضية جديدة فقال: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12] أي: أنه - تبارك وتعالى - أخبر بخبر مستقل أنه كتب على نفسه الرحمة، ثم أقسم أنه سيجمع الخلق إلى يوم القيامة، فيكون ذكر قضيتين مستقلتين ليس بينهما ارتباط، وهذا ذكره بعض أهل العلم من أئمة اللغة ومن غيرهم، وبعضهم يقول: إن السياق هكذا: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ، وفسروا هذا الجمع بأنه يجمع ما تفرق من أبعاضهم، وأجسادهم في القبور إلى يوم القيامة، أي يجمعها في يوم القيامة أو ليوم القيامة، وهذا التفسير هو أحد المعاني في قوله تعالى أيضاً: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [سورة المجادلة:6] أي: مجتمعة أبعاضهم، وما تفرق منهم في الأرض، وتحلل في هذا اليوم الذي أنكروه؛ فكيف يستغربون، ويستنكرون هذا البعث فيقولوا: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [سورة الإسراء:49] ويقولوا: أئذا كنا عظاماً نخرة تلك إذاً كرة خاسرة؟
وبعضهم يقول: إن قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [سورة الأنعام:12] مرتبط بما قبله تمام الارتباط هكذا: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12] ويقولون: إن اللام في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ بمعنى "أنْ" وإن قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ بدلٌ من الرحمة وكأنه يقول: كتب ربكم على نفسه أن يجمعكم ليوم القيامة، فتفسيره بأنه بدل يعني أن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها غاية الارتباط.
وبعضهم يقول: هذا ساقه للترهيب فقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:54] أي بإمهالكم، وأنه لم يعاجلكم بالعقوبة، ثم أقسم أنه سيجمعهم ليوم القيامة فيجازي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه، فهو يخبر أنه أمهلهم بالرحمة، ثم أخبر بعد ذلك أن جمعهم أمر كائن لا محالة، فيجازي كلاًً بعمله.
"إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [سورة الواقعة:50] وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه، أي: لا شك عند عباده المؤمنين، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون.
وقوله: الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ أي: يوم القيامة فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:12] أي: لا يصدقون بالمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم".

الهاء في فِيهِ من قوله تعالى: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة الأنعام:12] يُحتمل أن ترجع إلى يوم القيامة أي: لا ريب في يوم القيامة، ويحتمل أن ترجع إلى الجمع أي لا ريب في جمعكم، والأول أقرب؛ لأنه أقرب مذكور والضمير يعود إليه، أي لا ريب في يوم القيامة، ثم إن بين المعنيين ملازمة، ولا ضرورة للترجيح بين المعنيين؛ لأن يوم القيامة هو يوم الجمع فلا ريب في هذا الجمع، ولا ريب في وقوع يوم القيامة.
  1. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] (6969) (ج 6 / ص 2694) ومسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2751) (ج 4 / ص 2107).

مرات الإستماع: 0

"قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الأنعام: 12] القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد، وإبطال الشرك، وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار.، وفي جميع النسخ [وجاء ذلك بصيغة الاستفهام]."

يصح هذا، وهذا، وصيغة الاستفهام أوضح. 

فسأل أولا، لمن ما في السماوات، والأرض ؟ ثم أجاب عن السؤال بقوله: قُلْ لِلَّهِ لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة، فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السماوات، والأرض، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبًا عن سؤاله، إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه.

قوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12] أي قضاها، وتفسير ذلك بقول النبي ﷺ: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات، والأرض، وفيه: إن رحمتي سبقت غضبي[1].

وفي رواية: تغلب غضبي[2].

قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام: 12] مقطوع بما قبله، وهو جواب لقسم محذوف، وقيل: هو تفسير الرحمة المذكورة تقديره: أن يجمعكم، وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها، فإنها لا تدخل إلا في القسم، أو في غير الواجب."

هذا كما قال ابن كثير - رحمه الله -: بأن اللام موطئة للقسم؛ فأقسم بنفسه ليجمعن عباده إلى ميقات يوم معلوم[3] وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام: 12].

يقول: قيل: إلى هنا بمعنى في، إلى يوم القيامة يعني: في يوم القيامة، قال: وهذا ضعيف باعتبار أن إلى تدل على الغاية فيبقى فيها هذا المعنى.

وبعضهم يقول: بأن المراد: ليجمعنكم في القبور اليوم الذي أنكرتموه لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام: 12] يعني: في القبور.

وبعضهم يقول: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام: 12] هذا بدل من الرحمة كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12] يعني: كتب على نفسه ليجمعنكم، واللام بمعنى: كتب على نفسه ليجمعنكم، بمعنى أن، يعني كتب على نفسه الرحمة أن يجمعنكم.

وبعضهم يقول: أن اللام هذه مسوقة، أو ليجمعنكم، وما بعدها لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام: 12] للترهيب بعد الترغيب، يعني: إن أمهلكم برحمته، فهو مجازيكم بجمعكم، ثم معاقبة المسيء.

لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام: 12] هنا يقول: مقطوع مما قبله، وهو جواب لقسم كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام: 12] فيكون جوابًا لقسم محذوف، يعني: أقسم ليجمعنكم إلى يوم القيامة، كتب ربكم على نفسه الرحمة أقسم ليجمعنكم، وإذا جعل بدلاً من الرحمة، يكون: كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة، وما ذكره ابن جزي كأنه - والله أعلم - أقرب، وأن "إلى" كما قال ابن جزي: الصحيح أنها للغاية على بابها، كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - بأن الحروف، وإن تضمنت معنى حرف آخر، فإنه يبقى فيها من معنى الحرف الأصلي[4] فـ"إلى" أصل معناها في الغاية إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام: 12] لأنه لم يأتِ إلى ذلك الأجل.

"قوله: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنعام: 12] قيل: هنا إلى بمعنى في، وهو ضعيف، والصحيح أنها للغاية على بابها.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 12] الذين مبتدأ، وخبره لا يؤمنون."

هذا قال به الزجاج[5] واستحسنه ابن عطية[6].

"ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط قاله الزجاج، وهو حسن."

نعم، لاحظ يعني التقدير إذا كان دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، التقدير كأنه يقول: من خسر نفسه فهو لا يؤمن الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 12] لماذا دخلت الفاء على جواب فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 12] لأنه بمعنى الشرط، من خسر نفسه فهو لا يؤمن، هذا التقدير.

"قال: وقال الزمخشري: الَّذِينَ نُصب على الذم، أو رفع."

يعني: أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أذم الذين خسروا أنفسهم، منصوب على الذم.

"أو رفع بخبر ابتداء مضمر."

يعني أنتم الذين خسروا أنفسهم، أو هم الذين خسروا أنفسهم.

"وقيل: هو بدل من الضمير في ليجمعنكم، وهو ضعيف."

هذا قول الأخفش[7] وهذا ضعيف، يعني باعتبار أنه بدل بعض من كل، ليجمعنكم هذا جميع الخلق، إلى يوم القيامة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام: 12] هذا البعض، وليس الكل، فإذا كان الذين خسروا بدل من ليجمعنكم، أو بدل من الضمير فيه ليجمعنكم الكاف، فالأول "ليجمعنكم" عام لجميع الخلق الَّذِينَ خَسِرُوا [الأنعام: 12] هذا البعض، بعض الخلق، فيكون بدل بعض من كل، وهذا جوزه ابن عطية - رحمه الله -[8] وضعفه هنا المؤلف، وهو مسبوق إلى هذا التضعيف، لكن ابن عطية جوزه باعتبار يعني أنه يتضمن فائدة مرتقبة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 12] فيكون بدل بعض من كل، لكن الذي رده مثل المبرد[9] اعتبره كقولك: "مررت بك زيد" قال: لا فائدة مرتقبة، وأن البدل من ضمير الخطاب لا يصح، البدل من ضمير الخطاب ليجمعنكم، الكاف هذه للخطاب، هنا لا يصح، مررت بك زيد، لكن ابن عطية، ومن وافقه، وكذلك أبو حيان[10] لم يوافقوا المبرد في هذا، وقالوا: هذا يختلف، في فرق بين المثال الذي ذكره، وما نحن فيه، وأنه يصح هنا أن يكون بدل بعض من كل، لكن الإعراب الذي ذكره قبل، كأنه أقرب - والله أعلم - وأنه ليس من قبيل البدل، يقول: الذين مبتدأ، وخبره فهم لا يؤمنون، هذا قول الزجاج، يعني كأنها جملة مستقلة عن الأولى، وليست من قبيل البدل.

"وقيل: منادى، وهو باطل."

باعتبار أن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات الذين، هذا اسم موصول مبهم، فياء النداء لا تسقط مع مثله.

  1.  أخرجه البخاري في مواضع منها في كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ [هود: 7] وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ [التوبة: 129] برقم (7422).
  2.  أخرجه البخاري في مواضع منها في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] برقم (7404) ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، برقم (2751).
  3.  تفسير ابن كثير (2/370).
  4.  انظر: بدائع الفوائد (2/21).
  5.  تفسير القرطبي (6/396).
  6.  تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/277).
  7.  تفسير القرطبي (6/396).
  8.  تفسير ابن عطية (2/277).
  9.  تفسير القرطبي (6/396).
  10.  انظر: البحر المحيط في التفسير (4/462).