يقول تعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ أي: ييسره له، وينشطه، ويسهله، لذلك فهذه علامات على الخير كقوله تعالى: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ الآية [سورة الزمر:22]، وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [سورة الحجرات:7].
وقال ابن عباس - ا - في قوله: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ [سورة الأنعام:125] يقول - تعالى -: يوسِّع قلبه للتوحيد، والإيمان به، وكذلك قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر.
وقوله تعالى: وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [سورة الأنعام:125] قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء، والأكثرون ضَيِّقًا بتشديد الياء وكسرها، وهما لغتان كهين وهيّن".
قوله تعالى: ضَيِّقًا بالتشديد هي قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى - بالإسكان - هي قراءة ابن كثير، والمعنى واحد، وفي الغالب أن القراءات إذا كانت ترجع إلى معنى واحد فإننا لا نقف عندها، ولا نشير إليها.
وهذه أيضاً خلاف قراءة الجمهور، فقراءة الجمهور حَرَجًا بفتح الحاء والراء، و (حَرِجَا) بفتح الحاء وكسر الراء هي قراءة نافع، والحرِج يحتمل أن يكون معناه آثماً، والأقرب - والله تعالى أعلم - أنه من الحرج وهو بمعنى الضيق، يقال: هذا مكان حرِج يعني مكان ضيق، ومعنى الآية على هذا أن صدر هذا الإنسان لم يشرح للإسلام، ولم يفتح الله قلبه لتقبل الهدى الذي أنزله على رسوله ﷺ.
وعلى قراءة الفتح فهو يدل أيضاً على هذا المعنى، ولذلك يقال للشجرة بين الشجر التي لا يوصل إليها حَرَجة، وفي السيرة في قصة غزوة بدر نجد أن أبا جهل الملقب بأبي الحكم كانوا يقولون عنه: أبو الحكم في حرََجة أو كأنه في حرجة، يعني كأنه في حرجة في الغيضان والغابات وما أشبه، والمعنى أنه يحيط به لفيف من المقاتلين معهم الرماح، والسلاح؛ حماية، وحراسة له حتى لا يوصل إليه، كذلك فالشجرة التي لا يوصل إليها لكثرة الشجر التي حولها يقال لها: حرجة، فقوله تعالى يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [سورة الأنعام:125] يعني لا يصل إليه الهدى، ولا يقبل الموعظة، ولا ينتفع بالتذكير، والله المستعان.
قوله: "لا تصل إليه راعية" يعني كالإبل، والغنم.
وقوله: "ولا وحشية" يعني كالوعول ونحوها.
يقول تعالى: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ بتشديد الصاد والعين، وفي قراءة ابن كثير بالتخفيف (يصْعَد) وزيادة المبنى لزيادة المعنى فقوله: يَصَّعَّدُ تدل على المعاناة، والذي يذكره المفسرون في معنى كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] أنه مثل الذي يحاول الصعود ولا يستطيع، فهو يتكلف أمراً لا يقدر عليه مما يتعذر فعله.
وأصحاب التفسير العلمي والإعجاز العلمي يقولون في هذه الآية: إن الإنسان كلما صعد إلى أعلى ضاق نفسه؛ لأن نسبة الأكسجين تقل كلما ارتفعنا عن سطح الأرض، لكن نحن نقول: لا بد من أن يُنظر إلى كلام السلف هل قال أحد منهم بمثل هذا المعنى، ولا أقصد هل يقولون: إن الأكسجين يقل أو لا، وإنما أقصد هل قالوا: إن الإنسان إذا حاول أن يصعد إلى السماء يضيق صدره، أم أنهم قالوا فقط: إن قوله تعالى: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] معناه أنه يحاول الصعود ولا يستطيع؛ لأنه لا يستطيع الصعود إلى السماء أصلاً بغض النظر عن موضوع الأكسجين؟
وعلى كل حال فالآية لا شك أنها تدل على معنى المعاناة في الصعود، ولا يبعد أن يُضمَّ إضافة هذا المعنى إلى ما قاله السلف إضافة إلى هذا المعنى بمعنى أنه قد يحاول أن يصعد ولا يستطيع، وأن الذي يصعد أو يحاول الصعود ويحصل له بعض الصعود فإنه يعاني من ضيق الصدر إضافة إلى عجزه عن الصعود إلى السماء لبعدها، وإنما قلت ذلك؛ لأن الآية فيها قرينة تشعر بهذا المعنى، فالقضية في معرض ذكر شرح الصدر وضيق الصدر، فالذي يحاول أن يقفز ليصعد إلى السماء هل يحصل له ضيق الصدر بمجرد هذه المحاولة، هذا لا يظهر، وأما أن يقال: إنها من قضايا الإعجاز، وأن العلم الحديث اكتشفها؛ فهذا غير صحيح؛ لأن هذه مسألة يدركها الناس مسبقاً، ولو سألنا كبار السن الذين لم يدرسوا الأكسجين، ولم يعرفوه، ولم يسمعوا به؛ لماذا لا تصعد إلى الجبل أو نحوه من المناطق المرتفعة لقال: أنا لا يناسبني ذلك؛ لأني إذا صعدت يحصل عندي ضيق، والمقصود أن هذا أمر موجود يدركه الجميع لكن لا يعرفون فلسفته.
ومن ذلك أننا ندرك أن الماء يحصل به الري، وأن الأكل يحصل به الشبع، لكن لو جئنا بإنسان متخصص فإنه سيبيّن كيف يحصل الري بالماء، وكيف يحصل الشبع بالطعام، بمعنى أن فلسلفة ذلك ليست واضحة إلا عند أهلها، وقل مثل ذلك في كون الإبصار يكون بالعين، فلو أتينا بمتخصص فإنه سيبيّن كيف يحصل الإبصار بالعين، وهكذا، والخلاصة أنه ليس لنا أن نرد أقوال السلف، ونثبت معنى جديد يتعارض مع أقوالهم، لكن إذا كان المعنى الجديد يمكن إضافته إلى أقوال السلف بحيث لا يتعارض معها فلا إشكال - والله أعلم -، ولذلك نقول: قال السلف في الآية كذا، ويدخل فيها المعاناة والضيق الذي يحصل للإنسان إذا حاول الصعود - والله أعلم -، ... وعلى كل حال فهذه مسألة تحتاج إلى زيادة مراجعة.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقة عن وصول الإيمان إليه يقول: فمثله في امتناعه من قبول الإيمان، وضيقه عن وصوله إليه؛ مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء، وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه، وطاقته".
يلاحظ أن عباراتهم تدور على أن معنى يَصَّعَّدُ أي أنه يحاول الصعود ويعجز.
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: الرجس الشيطان، وقال مجاهد: الرجس: كل ما لا خير فيه، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرجس: العذاب".
وبعضهم يقول: أصل الرجس في كلام العرب النَّتن، ولذلك يقال للنجاسات الحسية: رجس، ويقال لها: ركس أيضاً، ويقال ذلك أيضاً في النجاسات المعنوية كما قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [سورة المائدة:90] تقول: هذا رجس، ونقول أيضاً عن الشيطان إنه رجس؛ لأنه محل للعمل السيئ - نسأل الله العافية -، ويقال ذلك أيضاً للعلم السيئ، والفساد، والإفساد، والشر، والإغواء، ويقال عن أهل الفساد والشر: إنهم رجس.
والله قال عن المنافقين: فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ [سورة التوبة:95] وقال عن المشركين: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [سورة التوبة:28] والنجس بمعنى الرجس أي: نجاسة معنوية، والنجاسة نجاستان: حسية، ومعنوية.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125] يعني يسلط عليهم الشيطان، ويدخل في معنى ذلك كل المعاني التي يمكن أن تصلح في هذا المقام، فهم أهل ومحل لهذه القاذورات من الكفر، والأعمال السيئة، ولهذا قال الله - تبارك وتعالى -: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [سورة النور:26] وقال - تبارك وتعالى -: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [سورة النور:26] قال ابن جرير - رحمه الله - وهو أحد المعاني الداخلة فيها: الكلمات الطيبة للطيبين، والعقائد الطيبة للطيبين، والأعمال الطيبة للطيبين، والخبيثون هم محل للفواحش، وللكلام السيئ الرديء، وما لا يليق، فهم أهل لذلك، وموطنه.