الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125].
يقول تعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ أي: ييسره له، وينشطه، ويسهله، لذلك فهذه علامات على الخير كقوله تعالى: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ الآية [سورة الزمر:22]، وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [سورة الحجرات:7].
وقال ابن عباس - ا - في قوله: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ [سورة الأنعام:125] يقول - تعالى -: يوسِّع قلبه للتوحيد، والإيمان به، وكذلك قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر.
وقوله تعالى: وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [سورة الأنعام:125] قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء، والأكثرون ضَيِّقًا بتشديد الياء وكسرها، وهما لغتان كهين وهيّن".

قوله تعالى: ضَيِّقًا بالتشديد هي قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى - بالإسكان - هي قراءة ابن كثير، والمعنى واحد، وفي الغالب أن القراءات إذا كانت ترجع إلى معنى واحد فإننا لا نقف عندها، ولا نشير إليها.
"وقرأ بعضهم (حَرِجَا) بفتح الحاء وكسر الراء".

وهذه أيضاً خلاف قراءة الجمهور، فقراءة الجمهور حَرَجًا بفتح الحاء والراء، و (حَرِجَا) بفتح الحاء وكسر الراء هي قراءة نافع، والحرِج يحتمل أن يكون معناه آثماً، والأقرب - والله تعالى أعلم - أنه من الحرج وهو بمعنى الضيق، يقال: هذا مكان حرِج يعني مكان ضيق، ومعنى الآية على هذا أن صدر هذا الإنسان لم يشرح للإسلام، ولم يفتح الله قلبه لتقبل الهدى الذي أنزله على رسوله ﷺ.
وعلى قراءة الفتح فهو يدل أيضاً على هذا المعنى، ولذلك يقال للشجرة بين الشجر التي لا يوصل إليها حَرَجة، وفي السيرة في قصة غزوة بدر نجد أن أبا جهل الملقب بأبي الحكم كانوا يقولون عنه: أبو الحكم في حرََجة أو كأنه في حرجة، يعني كأنه في حرجة في الغيضان والغابات وما أشبه، والمعنى أنه يحيط به لفيف من المقاتلين معهم الرماح، والسلاح؛ حماية، وحراسة له حتى لا يوصل إليه، كذلك فالشجرة التي لا يوصل إليها لكثرة الشجر التي حولها يقال لها: حرجة، فقوله تعالى يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [سورة الأنعام:125] يعني لا يصل إليه الهدى، ولا يقبل الموعظة، ولا ينتفع بالتذكير، والله المستعان.
"وقرأ بعضهم (حَرِجًا) بفتح الحاء وكسر الراء قيل: بمعنى آثم، قاله السدي، وقيل: بمعنى القراءة الأخرى حَرَجًا بفتح الحاء والراء وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء مما ينفعه من الإيمان، ولا ينفذ فيه، وقد سأل عمر بن الخطاب رجلاً من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة فقال: هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية، ولا وحشية، ولا شيء، فقال عمر : "كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير".

قوله: "لا تصل إليه راعية" يعني كالإبل، والغنم.
وقوله: "ولا وحشية" يعني كالوعول ونحوها.
"كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] من شدة ذلك عليه، وقال سعيد بن جبير: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [سورة الأنعام:125] قال: لا يجد فيه مسلكاً إلا صُعُداً".

يقول تعالى: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ بتشديد الصاد والعين، وفي قراءة ابن كثير بالتخفيف (يصْعَد) وزيادة المبنى لزيادة المعنى فقوله: يَصَّعَّدُ تدل على المعاناة، والذي يذكره المفسرون في معنى كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] أنه مثل الذي يحاول الصعود ولا يستطيع، فهو يتكلف أمراً لا يقدر عليه مما يتعذر فعله.
وأصحاب التفسير العلمي والإعجاز العلمي يقولون في هذه الآية: إن الإنسان كلما صعد إلى أعلى ضاق نفسه؛ لأن نسبة الأكسجين تقل كلما ارتفعنا عن سطح الأرض، لكن نحن نقول: لا بد من أن يُنظر إلى كلام السلف هل قال أحد منهم بمثل هذا المعنى، ولا أقصد هل يقولون: إن الأكسجين يقل أو لا، وإنما أقصد هل قالوا: إن الإنسان إذا حاول أن يصعد إلى السماء يضيق صدره، أم أنهم قالوا فقط: إن قوله تعالى: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] معناه أنه يحاول الصعود ولا يستطيع؛ لأنه لا يستطيع الصعود إلى السماء أصلاً بغض النظر عن موضوع الأكسجين؟
وعلى كل حال فالآية لا شك أنها تدل على معنى المعاناة في الصعود، ولا يبعد أن يُضمَّ إضافة هذا المعنى إلى ما قاله السلف إضافة إلى هذا المعنى بمعنى أنه قد يحاول أن يصعد ولا يستطيع، وأن الذي يصعد أو يحاول الصعود ويحصل له بعض الصعود فإنه يعاني من ضيق الصدر إضافة إلى عجزه عن الصعود إلى السماء لبعدها، وإنما قلت ذلك؛ لأن الآية فيها قرينة تشعر بهذا المعنى، فالقضية في معرض ذكر شرح الصدر وضيق الصدر، فالذي يحاول أن يقفز ليصعد إلى السماء هل يحصل له ضيق الصدر بمجرد هذه المحاولة، هذا لا يظهر، وأما أن يقال: إنها من قضايا الإعجاز، وأن العلم الحديث اكتشفها؛ فهذا غير صحيح؛ لأن هذه مسألة يدركها الناس مسبقاً، ولو سألنا كبار السن الذين لم يدرسوا الأكسجين، ولم يعرفوه، ولم يسمعوا به؛ لماذا لا تصعد إلى الجبل أو نحوه من المناطق المرتفعة لقال: أنا لا يناسبني ذلك؛ لأني إذا صعدت يحصل عندي ضيق، والمقصود أن هذا أمر موجود يدركه الجميع لكن لا يعرفون فلسفته.
ومن ذلك أننا ندرك أن الماء يحصل به الري، وأن الأكل يحصل به الشبع، لكن لو جئنا بإنسان متخصص فإنه سيبيّن كيف يحصل الري بالماء، وكيف يحصل الشبع بالطعام، بمعنى أن فلسلفة ذلك ليست واضحة إلا عند أهلها، وقل مثل ذلك في كون الإبصار يكون بالعين، فلو أتينا بمتخصص فإنه سيبيّن كيف يحصل الإبصار بالعين، وهكذا، والخلاصة أنه ليس لنا أن نرد أقوال السلف، ونثبت معنى جديد يتعارض مع أقوالهم، لكن إذا كان المعنى الجديد يمكن إضافته إلى أقوال السلف بحيث لا يتعارض معها فلا إشكال - والله أعلم -، ولذلك نقول: قال السلف في الآية كذا، ويدخل فيها المعاناة والضيق الذي يحصل للإنسان إذا حاول الصعود - والله أعلم -، ... وعلى كل حال فهذه مسألة تحتاج إلى زيادة مراجعة.
"وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس - ا -: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [سورة الأنعام:125] يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله في قلبه.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقة عن وصول الإيمان إليه يقول: فمثله في امتناعه من قبول الإيمان، وضيقه عن وصوله إليه؛ مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء، وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه، وطاقته".

يلاحظ أن عباراتهم تدور على أن معنى يَصَّعَّدُ أي أنه يحاول الصعود ويعجز.
"وقال في قوله: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125] يقول: كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقاً حرجاً كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله فيغويه، ويصده عن سبيل الله.
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: الرجس الشيطان، وقال مجاهد: الرجس: كل ما لا خير فيه، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرجس: العذاب".

وبعضهم يقول: أصل الرجس في كلام العرب النَّتن، ولذلك يقال للنجاسات الحسية: رجس، ويقال لها: ركس أيضاً، ويقال ذلك أيضاً في النجاسات المعنوية كما قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [سورة المائدة:90] تقول: هذا رجس، ونقول أيضاً عن الشيطان إنه رجس؛ لأنه محل للعمل السيئ - نسأل الله العافية -، ويقال ذلك أيضاً للعلم السيئ، والفساد، والإفساد، والشر، والإغواء، ويقال عن أهل الفساد والشر: إنهم رجس.
والله قال عن المنافقين: فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ [سورة التوبة:95] وقال عن المشركين: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [سورة التوبة:28] والنجس بمعنى الرجس أي: نجاسة معنوية، والنجاسة نجاستان: حسية، ومعنوية.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:125] يعني يسلط عليهم الشيطان، ويدخل في معنى ذلك كل المعاني التي يمكن أن تصلح في هذا المقام، فهم أهل ومحل لهذه القاذورات من الكفر، والأعمال السيئة، ولهذا قال الله - تبارك وتعالى -: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [سورة النور:26] وقال - تبارك وتعالى -: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [سورة النور:26] قال ابن جرير - رحمه الله - وهو أحد المعاني الداخلة فيها: الكلمات الطيبة للطيبين، والعقائد الطيبة للطيبين، والأعمال الطيبة للطيبين، والخبيثون هم محل للفواحش، وللكلام السيئ الرديء، وما لا يليق، فهم أهل لذلك، وموطنه.

مرات الإستماع: 0

"يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125] شرح الصدر، وضيقه، وحرجه: ألفاظ مستعارة، ومن قرأ حَرَجًا [الأنعام: 125] بفتح الراء، فهو مصدر، وُصف به".

قوله هنا: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ بمعنى فسح الصدر، وتوسعته لقبول الهدى، أفمن شرح الله صدره للإسلام، فيفسح صدره لقبول الحق وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات: 7] فهذا هو شرح الصدر.

قال: "شرح الصدر، وضيقه، وحرجه ألفاظ مستعارة" يقصد أنها ليست حقيقية، يعني أن ذلك يكون من قبيل الاستعارة التي يجعلها بعضهم من ضروب المجاز، بمعنى أن ذلك لا يكون بصورة حسية، وهذا ليس بلازم، فإن الإنسان يشعر بانشراح الصدر، وسعة الصدر، وانفساح الصدر لقبول الحق، لكنه يقصد هنا أن هذا الشرح ليس بشرح حسي، والشرح الحسي أن يوسع حسيًا، وهذا المذكور هنا هو من قبيل الفسح المعنوي.

ويقول: "ومن قرأ حَرَجًا بفتح الراء" وهي قراءة الجمهور[1] "فهو مصدر وُصف به" الحرج هنا مصدر، وليس بفعل يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125] الحرج هو بمعنى شدة الضيق؛ ولذلك كما جاء عن عمر حينما سأل عن الحرجة من الشجر، فقيل: هي التي لا تصل إليها راعية أو وحشية[2] يعني لا يصل إليها شيء من البهائم؛ لأنها تكون بين الشجر، وكما جاء في صفة أبي جهل في غزوة بدر، كأنه "في مثل الحرجة"[3] وذلك لكثرة من حوله من الرجال، والمقاتلين الذين يحملون الرماح، والسلاح، يعني كأنه في مثل هذا الشجر الكثيف الملتف، فتوجد فيه شجرة لا يوصل إليها، وهي الحرجة.

فالحرج أصله: تجمع الشيء، وضيقه، يجعل صدره ضيقًا حرجًا، يعني هذا لبيان شدة هذا الضيق، فهو أشد الضيق، فالضيق، وصف نسبي، لكن هذا الضيق الذي بهذه المثابة ضيقًا حرجًا، بمعنى أنه لا يحتمل الهدى، ولا يصل إليه، ولا يقبله بحال من الأحوال، يعني قد يكون هناك ضيق، لكن يتقبل بصعوبة؛ لكراهته من جاء بالحق، أو لكراهته للحق نفسه، أو نحو ذلك من الأسباب، لكن أن يكون بهذه المثابة، وبهذه الصفة "ضيقًا حرجًا" فمعنى ذلك أنه لا يوصل إليه بحال من الأحوال.

أما على قراءة نافع، وكذلك في قراءة أبي بكر عن عاصم فبالكسر: (حرِجًا)[4].

"كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام: 125] أي: كأنما يحاول الصعود إلى السماء؛ وذلك غير ممكن، فكذلك يصعب عليه الإيمان، وأصل (يصّعد) المشدد يتصعد، وقُرئ بالتخفيف[5]".

قوله هنا: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ هذه المادة تدل على ارتفاع، ومشقة، يعني يتصعد، فيصعد أصلها يتصعد، فحصل فيها إدغام للتاء بالصاد، فشددت الصاد، يعني كأنه يتصعد مع مشقة، فتدل على ارتفاع، ومشقة.

يقول: "كأنما يحاول الصعود إلى السماء" وذلك غير ممكن، يعني الإنسان لا يستطيع الصعود بنفسه؛ لأنه لا يطير، فيجد لذلك صعوبة، ومشقة، وامتناعًا، فذلك مثل هذا الذي جعل الله صدره ضيقًا حرجًا، فهو لا يقبل الهدى، ولا يصل إليه من ذلك شيء، كما أن الإنسان لو أراد الصعود إلى السماء فإنه لا يستطيع، ولا يمكنه ذلك، فكذلك يصعب على هذا الإيمان.

فقوله هنا: "كأنما يحاول الصعود إلى السماء، وذلك غير ممكن" هذا الذي قال به ابن عباس[6] وعطاء الخراساني[7] واختاره ابن جرير[8] والواحدي[9] والقرطبي[10] ومن المعاصرين السعدي[11] وعامة المفسرين.

وأما ما يذكره من يتكلم في الإعجاز العلمي، فيقول: كأنما يصعد في السماء أنه حينما يصعد إلى الأعلى تقل نسبة الأكسجين، فيضيق النفس، فهذا لا أعلم قائلاً به من المفسرين، فنحن إن قبلنا التفسير، أو الإعجاز العلمي، فمن أول الشروط: ألا يعود على أقوال السلف بالإبطال يعني التخطئة، فمثل هذا القول أن المقصود أنه يصعد إلى الأعلى، ثم تقل نسبة الأكسجين، ثم بعد ذلك يضيق النفس، هذا لم يقل به أحد من المفسرين أبدًا، ولا يمكن أن تخطئ الأمة، وخير القرون في فهم الآية، ويذكرون المعنى السابق: يحاول الصعود، ولا يستطيع... إلى آخره، ثم يأتي هؤلاء، ويقولون: نحن الذين فهمنا الآية، وأولئك فهموها بحسب المعطيات المتاحة في عصرهم، وهذا كلام غلط، وهو إزراء بالسلف، ونسبة هؤلاء الأكابر الذين هم أعلم بالقرآن نسبتهم إلى الجهل، وأنهم لم يفهموا الآية أصلاً، فأي إزراء بالسلف أكثر من هذا؟!

وهذا جانب، والجانب الآخر: وهو أنه لو فُرض أن المعنى هو ما ذكروه - أعني أصحاب الإعجاز - وهو أنه إذا صعد في الأعلى قلت نسبة الأكسجين، فضاق النفس، فليس هذا من الإعجاز أصلاً؛ لأن الإعجاز إنما يكون في شيء لم يكن في مدارك السابقين الذين خوطبوا بالقرآن، ولا يُوجد من الأدوات، والإمكانات ما يكشف عنه، فذكره القرآن، فلما وجدت الإمكانات بعد ذلك من الصعود عبر هذه الوسائل، وعرفوا بهذه العلوم علة ذلك من نقص الأكسجين، وأن الإنسان إذا صعد قلت نسبة الأكسجين، وضاق نفسه بسبب هذا، فالواقع أن هذا ليس منه، فإن العرب، والناس ما زالوا إلى اليوم ممن لم يدرسوا هذه العلوم، ولم يسمعوا بها، يعرفون أن الإنسان كلما صعد إلى الأعلى ضاق نفسه، حتى العامة يعرفون هذا، بعيدًا عن هذه العلوم، ولم يسمعوا بها، من لا يقرأ، ولا يكتب يعرف هذا الكلام، وفي بلاد الجنوب يعرفون أنهم إذا كانوا في الأعالي أن من عنده مشكلة في النفس أنه يضيق؛ ولذلك يتحاشونها، أليس كذلك؟! فهذا موجود، ويعرفونه جيلاً عن جيل، فهو ليس من الإعجاز، لكن ما هو التعليل ؟ وفلسفة ذلك من الناحية العلمية كما يقال؟ أنها تقل نسبة الأكسجين، وهذه ليس قضية إعجاز، يعني ضيق النفس هو معلوم عندهم، وأنه إذا ارتفع أعلى يضيق نفسه، لكن هل هذا معنى الآية؟ فإذا كان معلومًا عندهم فمعنى ذلك أنه لا علاقة له بالإعجاز، وما جئت بشيء جديد، فقط أنت جئت بتعليل لماذا يضيق النفس فقط؟ فهذا ليس من الإعجاز، أما أنه يضيق كلما ارتفع فهذا ما عرفه الناس لما وجدت الطائرات، وارتفع الناس إلى طبقات عليا في الجو، فما عُرف من هذا، وإنما كانوا يعرفونه بالمواضع المرتفعة، ونحو ذلك، فليس من الإعجاز أصلاً، يعني حتى لو فُسِّر بهذا التفسير، وهذا كثير في الأمثلة التي تذكر في الإعجاز، فبعضها حتى لو حملت الآية عليها فهو ليس من الإعجاز، وهذا غير الأشياء التي هي خطأ أصلاً، إما بكون الآية لا علاقة لها بها، فهمت الآية خطأ، أو بكون ذلك من النظريات التي لم تثبت، وليست بحقائق علمية.

يقول: "وقرئ بالتخفيف" هذه قراءة ابن كثير[12] وقراءة الجمهور التي نقرأ بها كأنما يصَّعد في السماء.

  1.  السبعة في القراءات (ص: 268) ومعاني القراءات للأزهري (1/384) وحجة القراءات (ص: 271).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/104).
  3. سيرة ابن هشام ت السقا (1/634).
  4.  السبعة في القراءات (ص: 268) ومعاني القراءات للأزهري (1/384) وحجة القراءات (ص: 271).
  5.  هي قراءة ابن كثير. انظر: السبعة في القراءات (ص: 268) ومعاني القراءات للأزهري (1/385).
  6. التفسير الوسيط للواحدي (2/321).
  7. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1386).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/109).
  9.  التفسير الوسيط للواحدي (2/321).
  10.  تفسير القرطبي (7/82).
  11. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 272).
  12.  السبعة في القراءات (ص: 268) ومعاني القراءات للأزهري (1/385).