السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا۟ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ ۘ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُوا۟ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا كَانُوا۟ يَمْكُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] أي: إذا جاءتهم آية، وبرهان، وحجة قاطعة قالوا: لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] أي: حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل، كقوله - جل وعلا -: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا الآية [سورة الفرقان:21]".

حمل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قوله تعالى: حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] على أن المراد به الرسالة أي حتى نؤتى الرسالة، وذلك باعتبار أن ما أوتيه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هي الرسالة، كما أنه - رحمه الله - نظر إلى قوله - تعالى - بعد ذلك مباشرة: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] وهذا المعنى مشى عليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، لكن الآية تحتمل معنى آخر رجحه ابن جرير - رحمه الله - وهو أن المراد بقوله: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] يعني حتى نؤتى من الآيات، والمعجزات؛ مثل ما أوتي رسل الله، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [سورة الفرقان:21] فهذا من طلب رؤية الآيات وليس من طلب الرسالة - والله أعلم -.
"وقوله: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] أي: هو أعلم حيث يضع رسالته، ومن يصلح لها من خلقه كقوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ۝ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ الآية [سورة الزخرف:32]".

يعني على قول ابن كثير والشنقيطي ومن وافقهم أنهم طلبوا أن يعطوا الرسالة فردَّ الله عليهم بقوله: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] وهذا واضح.
وعلى قول ابن جرير أنهم طلبوا آيات يكون قوله تعالى: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] ردَّاً عليهم بأن هذه الآيات إنما تكون للرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ولا تكون لغيرهم، فليس لكم أن تطلبوا ذلك، وأن تقترحوا على الله شيئاً لا يصلح لمثلكم.
"يعنون لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ [(31) سورة الزخرف] عظيم كبير، جليل مبجل في أعينهم مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ [سورة الزخرف:31] أي: من مكة، والطائف؛ وذلك أنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون بالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً، كقوله - تعالى - مخبراً عنه: وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [سورة الفرقان:41] وقال تعالى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [سورة الأنبياء:36]، وقال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ [سورة الأنعام:10]، هذا وهم معترفون بفضله، وشرفه، ونفسه، وطهارة بيته، ومرباه، ومنشأه - صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه - حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه: الأمين، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، الحديث بطوله الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته على صدق نبوته، وصحة ما جاء به[1].
وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأصقع : أن رسول الله ﷺ قال: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم انفال رسول الله ﷺ: بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه[2].
وقوله تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ الآية [سورة الأنعام:124] هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبَّر عن اتباع رسله، والانقياد لهم فيما جاؤوا به؛ فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار، وهو الذلة الدائمة؛ لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60] أي: صاغرين ذليلين حقيرين.
وقوله تعالى: وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [سورة الأنعام:124] لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً وهو التلطف في التحيُّل، والخديعة؛ قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداًَ كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [سورة الطارق:9] أي: تظهر المستترات، والمكنونات، والضمائر، وجاء في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان[3].
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس؛ فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل".
  1. أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي -  باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (7) (ج 1 / ص 7) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773) (ج 3 / ص 1393).
  2. أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب صفة النبي ﷺ (3364) (ج 3 / ص 1305).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب إذا قال عند القوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه (6694) (ج 6 / ص 2603) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب تحريم الغدر (1738) (ج 3 / ص 1361).

مرات الإستماع: 0

"اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] رد عليهم فيما طلبوه، والمعنى: أن الله علم أن محمدًا ﷺ أهل للرسالة، فخصه بها، وعلم أنهم ليسوا بأهل لها، فحرمهم إياها، وفي الآية من أدوات البيان الترديد؛ لكونه ختم كلامهم باسم الله، ثم رده في أول كلامه".

يقول الله - تعالى -: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ والمعنى: "أن الله علم أن محمدًا ﷺ هو أهل للرسالة، وخصه بها، وعلم أنهم ليسوا كذلك" يعني كأنه تعريض بهم، قال: "وفي الآية من أدوات البيان الترديد؛ لكونه ختم كلامهم باسم الله، ثم رده في أول كلامه" ثم رده يقصد اسم الجلالة، رده ثانية، وهذا الترديد عند أهل البلاغة بمعنى أن تعلق اللفظة بمعنى من المعاني، ثم ترد اللفظة بعينها، لكن معلقة بمعنى آخر، كقول أبي نواس في، وصف الخمر:

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء[1].

فأعاد لفظة (المس) مرتين "لو مسها حجر مسته سراء" فهذا يسمونه ترديدا، لكن في كل موضع هي متعلقة بمعنى غير المعنى الآخر، وهذا عندهم يُعد من ضروب البلاغة؛ لأن الترديد من غير هذا يكون مورثًا للسآمة، ويكون ذلك من ضعف الفصاحة، والبلاغة؛ ولهذا قالوا: إذا كان اللفظ في جملتين مستقلتين، ولو مع التقارب، كما في: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] اسم الجلالة الله الله ليس بينهما فاصل، لكن كل واحد، وقع في جملة مستقلة، وكل واحد يتعلق بمعنى غير ما تعلق به الآخر، فيكون ذلك من ضروب البلاغة، ويسمونه الترديد، ردد اللفظة نفسها، لكن مع اختلاف متعلقها من جهة المعنى.

"صَغارٌ أي: ذلة". 

الذلة، والحقارة، والصغار أشد من الذل، وأخص منه، كأنه ذل مع حقارة، أو أشد الذل يقال له: صغار.

  1. البيت له في: شرح درة الغواص للشهاب الخفاجي (ص: 446) والرسائل للجاحظ (2/108).