حمل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قوله تعالى: حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] على أن المراد به الرسالة أي حتى نؤتى الرسالة، وذلك باعتبار أن ما أوتيه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هي الرسالة، كما أنه - رحمه الله - نظر إلى قوله - تعالى - بعد ذلك مباشرة: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] وهذا المعنى مشى عليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، لكن الآية تحتمل معنى آخر رجحه ابن جرير - رحمه الله - وهو أن المراد بقوله: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ [سورة الأنعام:124] يعني حتى نؤتى من الآيات، والمعجزات؛ مثل ما أوتي رسل الله، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [سورة الفرقان:21] فهذا من طلب رؤية الآيات وليس من طلب الرسالة - والله أعلم -.
يعني على قول ابن كثير والشنقيطي ومن وافقهم أنهم طلبوا أن يعطوا الرسالة فردَّ الله عليهم بقوله: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] وهذا واضح.
وعلى قول ابن جرير أنهم طلبوا آيات يكون قوله تعالى: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [سورة الأنعام:124] ردَّاً عليهم بأن هذه الآيات إنما تكون للرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ولا تكون لغيرهم، فليس لكم أن تطلبوا ذلك، وأن تقترحوا على الله شيئاً لا يصلح لمثلكم.
وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأصقع : أن رسول الله ﷺ قال: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم انفال رسول الله ﷺ: بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه[2].
وقوله تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ الآية [سورة الأنعام:124] هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبَّر عن اتباع رسله، والانقياد لهم فيما جاؤوا به؛ فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار، وهو الذلة الدائمة؛ لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60] أي: صاغرين ذليلين حقيرين.
وقوله تعالى: وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [سورة الأنعام:124] لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً وهو التلطف في التحيُّل، والخديعة؛ قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداًَ كما قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [سورة الطارق:9] أي: تظهر المستترات، والمكنونات، والضمائر، وجاء في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان[3].
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس؛ فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل".
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (7) (ج 1 / ص 7) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773) (ج 3 / ص 1393).
- أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب صفة النبي ﷺ (3364) (ج 3 / ص 1305).
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب إذا قال عند القوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه (6694) (ج 6 / ص 2603) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب تحريم الغدر (1738) (ج 3 / ص 1361).